Wednesday, October 13, 2010

الى متى يستعذب المثقفون البكاء امام الرقابة؟

إلى متى يستعذب المثقفون البكاء أمام الرقابة؟



بعد أيام من انتشار خبر منع رواية "الأيام" لعميد الأدب العربي طه حسين من مناهج
الدراسة في مصر، عاد وزير التعليم الجديد أحمد زكي بدر ليؤكد إلغاء قرار سلفه مشيرا الى أنه "لا يوجد لديه ما يدعوه الى منع تدريسها بعدما درستها العديد من الأجيال باعتبارها نموذجا للرواية العربية والسيرة الذاتية".
لعل هذا هو أول ما أطل به علينا وجه الرقيب، المستتر، في السنة الجديدة، قبل ان تتداعى فصول من مهازل اخرى، من مثل ما نشرته صحف مصرية عن منع رواية "اسمه الغرام" للكاتبة اللبنانية علوية صبح، حيث احتجزت الرقابة في مصر 150 نسخة من الرواية، من بين مجموعة الإصدارات التي كانت مكتبة "ديوان" قد اشترتها من الناشر اللبناني لتوزيعها في القاهرة.
هذان الموضوعان، اللذان يضافان إلى القائمة السوداء الطويلة للرقابة في مصر، ليسا سوى جزءين من مسيرة طويلة للرقيب الذي يتسلط على العقل والأدب والمعرفة، في العالم العربي، بدعوى الحفاظ على الفضيلة (هل المصادرة والوصاية فضيلة؟) متعاميا عن أن هذا المناخ الضاغط على حرية المعرفة وحق الفرد في أن يحتكم الى عقله، افرز أجيالا من المغيبين، وملايين من البشر الذين أصبحوا قوة للجهل، يمكن التأثير عليهم واستخدامهم لأغراض تتنوع وفقا لأصحاب المصالح. ساسة يجيشون موظفين وعمالا واميين في انتخابات صورية، أو تستخدمهم قوى التطرف والإرهاب في اعمال تخريبية باسم الدين، وما شابه. مناخ عفن نسمع فيه يوميا بجرائم قتل باسم الأديان والمذاهب، ونرى فيه أشخاصا يتعالى كل منهم على الآخر، بمذهبه أو عرقه، كأنه منح منحة سموية اختصته بها آلهة السماء، ونشاهد فيه، يوميا، عشرات من البرامج الحوارية تكشف غياب مفهوم الحوار العقلاني عن مجتمعاتنا، ومسلسلات درامية وأفلاما سينمائية ضحلة، فضلاً عن المئات من قضايا الفساد ينهب فيها الناهبون أموال البشر، بغير حق، من دون أن يرتجف لأي منهم جفن. لكننا لا نسمع آنئذ لأصحاب الفضيلة وأوصياء الأخلاق اي صوت، فهم لا يستقوون إلا على الأدب والكتاب والمعرفة.
قبل نحو شهر مُنع نصر حامد ابو زيد من دخول الكويت، بعدما وصل إلى المطار بدعوة من "مؤسسة التنوير"، ووفقا لتأشيرة دخول رسمية. المؤسف أنه تعرض تقريبا لأزمة مشابهة بعد عودته الى القاهرة حين مُنع من دخول نقابة الصحافيين، قبل ان يستجيب الأمن في النهاية ويقرر أن تعقد الندوة في بهو النقابة لا في مقر القاعة المخصصة للندوات.
قبل اسابيع حكمت إحدى المحاكم بتغريم الدكتور جابر عصفور و"مؤسسة الأهرام" في مصر 50 الف جنيه تعويضا، أو ثمنا لحرية التعبير، لأنه كتب مقالاً بعنوان "أيها المثقفون اتحدوا" قال فيه: "كنت أريد من المقال أن يكون تحذيراً للمثقفين الذين يضيعون وقتهم وجهدهم في خلافات ثانوية، واقتراف صغائر تصغر بها قاماتهم وتضعف من موقفهم في المواجهة الأساسية مع قوى التطرف الديني التي نجحت في إصدار أحكام قضائية ضد المثقفين المصريين، ابتداء من أحمد عبد المعطي حجازي، مروراً بجمال الغيطاني ومحمد شعير وعزت القمحاوي وانتهاء بي. وللأسف كما انتصر الشيخ يوسف البدري (الذي اشتهر بمطاردة المثقفين فضائياً، وكان له دور في التفرقة بين نصر أبو زيد وزوجه) في القضايا التي رفعها على المثقفين في العامين المنصرمين، سجّل نصره الأخير بتثبيت الحكم القضائي ضدي وجريدة "الأهرام" وهكذا أصبح علينا أن ندفع خمسين ألف جنيه مصريّ ثمناً للدفاع عن حرية الرأي والتفكير".
القائمة طويلة، من حملات تُشنّ اليوم على فيلم "بالألوان الطبيعية" لأسامة فوزي، وتغريم ناشر ومؤلف أول كتاب مصور للفنان مجدي الشافعي بعنوان "مترو"، وما اثير عن حجب الاعمال الكاملة لأنسي الحاج في القاهرة، وسوى ذلك من وقائع عديدة.
إن المسخ المشوه الذي كوّنته طبقات الرقابة بصنوفها المختلفة، أصبح اليوم ماردا، يداه تطالان كل شيء، مسيّجا ومحميا بمؤسسات لها شرعية مثل المؤسسات الدينية أو أعراف الفضيلة كما هي في مجتمعاتنا التقليدية التي لا تزال تنحاز الى قضايا قتل بدعوى الشرف، ومتسترا تحت شعارات براقة مثل مواجهة الإباحية. وهذا يقتضي معالجة مختلفة، وخصوصا من الصحافة الثقافية التي باتت اليوم تتعامل مع كل موضوع يخص المصادرات كأنه موضوع مثير يشبه موضوعات النميمة الفنية في صحف الفن، تكيل فيه التهم الى الجهات الرقابية، وتسخر منها، ومن تقليدية المنهج الذي تستند إليه، ومن فكرة الوصاية على العقل في عالم الفضائيات وشبكات الإنترنت، ثم يذهب الجميع الى حاله، ويعود المحرر الثقافي الى حياته يطالع الصحف ويتنصت ويستمع، في انتظار صيد جديد، يضيفه الى مجده الصحافي.
فكم مقال كتب ضد الرقابة؟ وكم من حبر أريق على صفحات الصحف؟ وفي المقابل كم الف نسخة من الكتب الممنوعة تمت مصادرتها خلال العقد الأخير وحده؟ وهل نجحت الحملات الصحافية التي شنت من أجل تعطيل أجهزة الرقابة واساليبها المتنوعة في تحجيم العقل العربي بالمنع وفي التسامح المفرط مع كل وسائل الغياب العقلي من برامج تافهة وسطحية إلى برامج الفتاوى يفتي فيها من يشاء بما يشاء مرورا ببرامج تفسير الاحلام، وغيرها. هل نجحت؟
لا اظنني في حاجة للإجابة عن سؤال بديهي كهذا. فهل يفاجئنا حقا أن يمنع اليوم كتاب مثل "الأيام" لطه حسين؟ وهل هذا بالفعل السؤال الجوهري الذي ينبغي أن نطرحه أم ان هناك سؤالا عن تدريس الأدب إجمالا في مناهج التعليم العربية، وطبيعة النصوص الأدبية التي يدرسها الطلبة العرب؟ وهل نص "الأيام" الذي استمر تدريسه بصدفة قدرية تمثلت في تغيير وزير التعليم المصري سيجعل وضع النص الأدبي في المناهج التعليمية المصرية افضل في السنوات المقبلة؟
وهل يتوقف الأزهر، وغيره من أهل الوصاية، عن التدخل في الأدب، إذا استمر الوضع على ما هو عليه؟
في غالبية المتابعات التي تمت حول الموضوع، شهدت قدرا من العاطفية التي جعلت صديقا وزميلا صحافيا يبدأ مقاله بجملة "بكت سمية"، وفي مقالات عديدة أخرى قرأت عددا لا بأس به من إنشائيات البلاغة التي استهجنت واندهشت ونددت، لكن أيا منها لم يقترح مشروعا يبدأ فورا والآن في مواجهة قوى الظلام والتطرف على كل المستويات، بتضافر جهات الثقافة المستنيرة ومؤسساتها، والأفراد من الكتاب والمثقفين في ارجاء العالم العربي. لا أقصد بيانات تنديد وإدانة في طبيعة الحال، وإنما البحث في سبل تفعيل الدساتير العربية التي تنص على حرية الرأي والتعبير، وفي تأكيد عدم احقية أي جهة في منع الكتب أو مصادرتها إلا بحكم قضائي، خصوصا في مصر، وإنشاء كيانات ثقافية ترصد النصوص الممنوعة وتعيد نشرها، وتعمل على مواجهة كل من يحاول منع كتاب بملاحقته لمخالفته للدستور، وما شابه من إجراءات.
إن ما اذهلني بالفعل في متابعتي لهذا الموضع هو تعليق رئيس جامعة الأزهر الأسبق الدكتور أحمد عمر هاشم الذي فضل عدم الإدلاء برأيه فى هذه المسألة، مبررا ذلك بأنه لم يقرأ الرواية، ولا يعرف إن كانت تسيء بالفعل إلى رجال الأزهر أم لا!
إذا كانت هذه هي حال رئيس جامعة أسبق، اي اكاديمي مخضرم، مسؤول عن تعليم أجيال، وتثقيفهم وتربيتهم، فما حال الطلبة؟ وما المتوقع من أجيال أزهرية جديدة قادمة لتحتل مواقع في المؤسسات والجامعات وأجهزة الدولة المختلفة في العقود المقبلة إذا كانوا هم ايضا لا يقرأون الأدب؟
كانت هذه الأزمة فرصة لي لإعادة قراءة كتاب "الأيام"، الذي كنت قرأته للمرة الأولى في اثناء دراستي الثانوية، واعدت قراءته لاحقا، واعتبرته، ولا أزال، واحدا من الكتب الشديدة التأثير في حياتي، وفي تدبر فكرة الإرادة، والدأب، ناهيك بمتعة السرد البليغ. واستعدت ما ظنه رجال الأزهر اليوم إهانة للأزهر، فلم اجد إهانة، بل وجدت نقدا من أحد أبناء الأزهر، عبر سرد يومياته وعلاقاته بأساتذته وبزملائه، والتي تكشف في مجموعها صورة لذلك المجتمع، كان من الأولى أن يلتفت القائمون على هذه المؤسسة الكبيرة اليها بدلا من مجرد الشجب.
وهو في الحقيقة الموقف نفسه الذي يفعله المثقفون اليوم. فهم لا يكفّون عن البكاء على الكتب الممنوعة، والمصادرات، والحرية المقموعة، والكبت والجهل، في حين أن ما تستوجبه حال الكثير من المجتمعات العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى هو محاولة حصار المنع والرقابة بكل السبل، وتضييق الخناق (عملا لا قولا فقط) على الأمية الثقافية التي ساهمت، ولا تزال، في تكاثر العقليات الرجعية التي تجد فيها القوى التقليدية المحافظة وقودا جيدا لتوسع مشاريعها التي تستهدف العودة بنا جميعا إلى عصور الظلام وما قبل التاريخ.

إبراهيم فرغلي

نشرت في النهار اللبنانية 19 يناير 2010