Sunday, March 2, 2014

"أماكن خاطئة" لأحمد يماني



قصائد منفتحة على ثقافات العالم تستبدل اللغة بالصورة

إبراهيم فرغلي

 


حيرني هذا الديوان منذ قرأته لأول مرة، واستمرت حيرتي في كل قراءة تالية، إذ أنه بقدر ما سلبني، مستدعيا إعجابي بنصوصه، لكني لم استطع تعيين أسباب هذا الإعجاب بسهولة.

نعم خطفني ديوان "أماكن خاطئة" للشاعر أحمد يماني، الصادر أخيرا عن "دار ميريت" بالقاهرة، بعوالمه ولغته، ومزيجه المبهر بين الخيال والاسطورة والواقع، كما أدهشني بكونه مخاتلا، يبدو نثرا بينما لايفيض سوى بالشعر، كما يبدو بسيطا وقريبا لكنه سرعان ما يكشف أن بساطته الخادعة ليست سوى تعبير فني عن موهبة أحمد يماني الذي يبدو أنه يلمح لحالة وجدانية أو لمعنى بعينه، لكن، سرعان ما يبدو المعنى عصيا؛ يتراكم لدلالات عدة خلف كل صورة شعرية مما يختلقها الشاعر بكل التأويلات المحتملة.

أدركت بعد قراءات عدة أن سر الديوان في انه متخلص من أية تأثيرات أخرى، وبينها تجربة يماني الشعرية السابقة نفسها، ومن تجارب أي من الشعراء المجايلين. كما قدّمَ لي دليلا حيا على ما كنت أفكر فيه منذ فترة حول فكرة علاقة النص الذي يكتبه الكاتب بالبيئة التي تحيط به، بالطبيعة، بالمناخ العام. ونعم يبدو هذ الديوان "متحررا" من قيود المكان، وتراث الكلاشيهات التي تشيع بين أبناء الجيل الواحد، ومستفيدا من عناصر الحياة الجديدة في اوربا حيث يعيش يماني في إسبانيا منذ فترة.

لم يعد يماني في هذا الديوان مهموما باليومي، فقط، وإنما امتد الهم لأسئلة وجودية كبيرة، عن معنى الاغتراب، وعن المشتركات الإنسانية، وعن العنصرية التي تمارس في العالم ضد الملونين، وعن الحنين، بل وحتى وصولا لبعض المشاعر التي تعكس شفقة الشاعر على نماذج مهزومة أو مجروحة من البشر، وسواها من التيمات، يعبر عنها بإيحاءات ميلودرامية، لكنه مع ذلك يبدو بعيدا عن فخ الميلودراما.

ثمة شيء خاص في هذا الديوان يتمثل في أن نصوصه جميعا تقطر شعرا، حتى لو بدت بعض المفردات عادية أحيانا. وبقدر ما تبدو القصائد مشهدية، تبتعد عن التجريد والذهنية، لكنها في المقابل، تعكس قدرة الشاعر على تركيب الصور والمشاهد، بوجوه البشر ولفتات شاردة من حياتهم، وبصرخات قد يرددونها، وبهمسات تنفلت منهم، أو بعواء ذئبة، أو رفيف طيور غامضة، وغيرها من عناصر الكائنات التي تبدو مصائرها معلقة مثل مصائر البشر.

 وبإحكام يضفر يماني الصور والتراكيب اللغوية والروائح والأصوات وحركة القطارات ولوحات الفن التشكيلي، والتماثيل والأقنعة الإفريقية والخرائط والأحلام وصور الوجوه، وسواها، لكي تعبر هي عن المعنى العميق، التجريدي أحيانا، والمركب، في أحيان أخرى، والعصي عن التدليل في مرات ثالثة.

تتجلى قدرات يماني في صوغ الشعر من تركيب المشاهد وتطويع اللغة واللعب مع خيال القاريء، كما تتجلى من تلك الشظيات الحادة المباغتة التي يفتتح بها العديد من القصائد؛ فتسترعي انتباهنا بحيث لا يمكن لوهلة أن نفكر بأن شيئا آخر يحدث في العالم، في هذه اللحظة، سوى ما يدعونا الشاعر للإنصات له أو رؤيته أو الالتفات إليه.

وفي تركيبه لتلك العلاقات التي تعكس هما حقيقيا بالآخر، أيا كان لونه أو جنسه أو طبقته، ينطلق الشاعر دائما من لمسته الذاتية، وفكرته، وإحساسه، مكونا علاقة تناغم مدهشة بين الآنا والاخر، باستمرار، وتقريبا على مدى نصوص هذا الديوان؛ الذي لا يمكن أن تغني عن قراءته أية محاولات للتفسير أو التوضيح؛ بسبب التعدد الدلالي الواسع للقصائد، الذي يمكن أن يختلف من قاريء لآخر وفقا لثقافته وذوقه.

تستجيب الذات الفردية هنا للأسئلة الإنسانية، عن مأساة الأخت –الأنثى في مجتمع ذكوري قامع وقاتل، وعن تواصل الأجيال، وعلاقة المعرفة الذهنية بالمعرفة الحياتية في علاقة الإبن بالأم وما يتضمنه ذلك من أسئلة وجودية عمن يمنح الوجود ومن يحاول إدراك معناه، وعن حياة البسطاء، والمعوقين، وغير ذلك، لكنها كلها لا تتوقف عند المستوى العاطفي الدرامي، وإنما تنسجه بحليات شعرية قوامها الصور الجديدة، واللعب، كما يفعل مثلا في قصيدة "حقل".

أما الذاتية فليست مغلقة على نفسها كما شان أغلب ما دونه الشعراء في القصيدة الحديثة العربية، بل يستبدلها يماني بذاتية مستندة على الآخر، في تلمسها لعزلتها او حتى في رثائها لعلاقة حب ضاع واصبح رمادا.

في قصيدة الحبال يقول الشاعر:"في قاع النهر/ الجاف/ تحت جسر العذراء/ أجلس وحيدا/ بالأعلى يقف أصدقائي/ يلقون إلي حبلا مجدولا/ اصدقائي يتماسكون/ ويلقون الحبل/ اتشبث جيدا واصعد/ في ربع المسافة يطفر الدم/ من اصابعي / فالوث الحبال/ اصدقائي لا يحبون الدماء/ اصدقائي يفلتون الحبل/ ويمضون آسفين/ يدي اليمنى / تلطخ الدرابزين الحجري/ في طريقي من قاع النهر الى الجسر/ حيث لا اعرف احدا في هذا الليل".

اما قصيدة "سماد" ففيها يقول:"في برطمان زجاجي علقته بداخل خزانة المطبخ كنت قد حرقت حبي وجمعت رماده. في نهاية الأسبوع أرّشُ منه على نباتاتي فأراها تهتز. في اليوم التالي تنتعش قليلا ثم ما تلبث أن تموت تاركة صفارا محروقا في كل إصيص. آخذ الصفار وألقيه بعيدا وأوشوش للنباتات أن تنسى الأمر برمته".

تتحرك القصائد بين مشاهد اليومي في ثقافة غربية يعايشها الشاعر وبين ذكريات بعيدة، تلتقط لحظات من الماضي البعيد: لحظات الحب المسروقة، صورة الأب، أو أيام المراهقة المشبوبة بالشبق والرغبة، لكنه يغزل الصور جميعا، بالصور الشعرية المدهشة التي يبرع في مزج فطريتها بثقافته، وبلمحة الأسطورة التي تبدو كإطار شفاف في خلفية القصائد كلها، مبديا قدرة كبيرة على التكثيف، وعلى بث تلك الروح الإنسانية المتعاطفة مع شخوص اللحظات الشعرية جميعا، وعلى تثبيت اللحظة على ذروة تألقها بالشعر كما يفعل في العديد من القصائد وبينها هذه القصيدة بائعة الزيت :"بينما تدخل حاملة عبواتها كنت ألحق بها على العتبة كي اضع عنها حملها رافعا العبوة الثقيلة. كنا نتقدم نحن الاثنان كتفا بكتف في اللحظة نفسها انفلتت نقطة من عبوتها الصغيرة. النقطة سقطت في منتصف المسافة بين اقدامنا المتجهة صوب المطبخ. وبينما ننزلق قبضت كفانا احداهما على الأخرى. كانت الأرض رطبة ونظيفة والعين المفزوعة سكنت خضرتها قليلا بندى الصباح".

المفارقة بين فعل الكتابة ومعنى الحياة، في الحياة اليومية تتخذ موضعا كبيرا بين قصائد الديوان سواء في قصيدتي الكتاب، وعزيزي بورخس، تماما كما شأن الكثير من تناقضات الواقع.

بينما تشوب نصوص اخرى من الديوان حسا ايروتيكيا لا يفقد فيها يماني قدراته على التركيب وعلى المشهدية والمفارقة وتعدد الدلالات كما شأنه في قصيدة "بائعة التبغ": "يدها على العلبة وقدمي خارج البيت. فجأة تعتم، وهي تواصل فرك التبغ على فخذها اللامعة. تتوقف قليلا تنقل نصف التبغ الى الفخذ الاخرى وانا ادخل في الدهليز الطويل وابدأ التدخين".

هذا الديوان غني بحيث أنه يستحق أكثر من قراءة، واظنه أحد العلامات المهمة في القصيدة العربية الحديثة باجتراحه منطق الصورة الشعرية على حساب اللغة الذهنية، واجتراحه عناصر من ثقافات عديدة بديلا للانغلاق الذي وسم القصيدة المصرية المعاصرة على نحو خاص، وباقتحامه الأسطورة وإسباغ مفرداتها طابعا من اليومية والبساطة.

سبق لأحمد يماني إصدار دواوين ثلاثة هي :شوارع الأبيض والأسود 1995، تحت شجرة العائلة 1998، وردات في الرأس 2001.

 

 

 

 

 

 

No comments: