Sunday, March 2, 2014

وراء الفردوس لمنصورة عز الدين


وراء الفردوس لمنصورة عز الدين
الريف والتغيرات الاجتماعية تكآت لتقنية السرد الحديثة

إبراهيم فرغلي
 
 

لا يستهويني كثيرا الأدب الذي يتناول الريف، ربما لإحساسي أن الرواية هي إبنة المدينة، ووثيقة التعبير الفني المرتبط بالمدنية، بامتياز، وبالرغم من أن رواية منصورة عز الدين الجديدة "وراء الفردوس" الصادرة عن دار العين للنشر بالقاهرة، تتناول عالم الريف، لكنها، ومنذ سطورها الأولى، سرعان ما خلصتني من مخاوفي، أولا لأن الطبقة المعبر عنها في النص، كطبقة وسطى عليا في الريف لم يتم تناولها كثيرا من قبل، وتاليا لاعتمادها على نسق سردي كانت اعتمدته في مجموعتها الأولى "ضوء مهتز" سجلت به صوتها الخاص، ورؤيتها الخاصة للكتابة.

صحيح ان ذلك النسق لم يستمر طويلا في النص، لكنها استبدلته بتقنيات جديدة مزجت فيها بين التداعي الحر للذاكرة، والأحلام، والحدوتة الشعبية، والسرد، والمشاهد المرسومة ببراعة.

عندما انتهيت من القراءة الأولى أحسست أنني بإزاء لوحة نسيج ملونة غزلت الكاتبة تفاصيلها الدقيقة بدأب وجدية، لكنني كنت أحاول أن أتأمل ملامح وجوه أفراد عدة يمثلون ثلاثة اجيال بدءا من الجدة رحمة التي توثق لنشأة الجيل الأول منذ الأربعينات ووصولا للحفيدة-الرواية سلمى، وصديقتها أو أناها الثانية، أو قرينتها جميلة.

لم يتسن لي ذلك بسهولة بسبب تعدد الأسماء، خصوصا وأن الرواية تعبر بين الأزمنة والأجيال، ذهابا وإيابا. لكني مع القراءة الثانية كنت قد رسمت المعالم العائلية لهذه الأجيال بوضوح، أما الملامح، فقد لا ترسخ في المخيلة، رغم تكرار ظهورها جميعا، عبر أحداث متباينة، قدر ما تنحفر ملامح شخصيتين مركزيتين بالرغم من أن الإشارة إليهما تكاد تكون عابرة وهما شخصيتا لولاّ، التي حرقت نفسها لتجنب عائلتها تلوث شرفها، ولإصرارها على إخفاء اسم عشيقها الذي أثمر حملها وغاب. أما الثانية فهي بدر المجنونة التي كانت مربوطة في السلاسل، لا تمشي إلا وتسمع صوت القيود التي قيدها بها أباها أينما حلت او استطاعت أن تتحلل من مكمن سجنها بين آن أو آخر.

بدر، المجنونة، التي كانت محلا لسخرية الطفال، وشفقة الرجال وبينهم جابر عم الراوية "سلمى رشيد"، وزوج أم قرينتها "جميلة" التي توفي اباها الحقيقي صابر، الذي كان يعمل في مصنع الطوب لدى العائلة، قبل أن يقع ضحية "المعجنة الألية"، ممزق الجسد منتثر الأشلاء.

بدر رغم جنونها، ولأنها كانت تحب جابر وتداعبه بسخرية، وتنادي عليه ليأتي ليفك وثاقها الحديدي، قررت، بإباء، أن تغادر القرية وتختفي غضبا من حبيبها الذي طلق زوجته حكمت ليتزوج من أم جميلة، ولا يتزوجها هي.

رحلت بدر وبقيت أسطورة في خيال الأطفال، وأهل البلدة وايضا، بل وفي خيال سلمى التي كانت في أعماقها تخشى أن تقع يوما في براثن الجنون، بل إن الرواية التي تكتبها ليست سوى استجابة لمعالجتها النفسية التي طلبت منها أن تكتبها كجزء من علاجها النفسي.

أما لولاّ، المسكوت عنها، وعن ذكر اسمها في العائلة، كأنها، رجس يجب اجتنابه، فلا تحضر إلا كطيف، ومثارا لفضول الجيل الثالث، وسلمى خصوصا، التي لم تعرف حقيقة ما حدث لها إلا من خلال أوراق ابيها رشيد بعد وفاته، وستحتفظ بصورتها، من بين أوراق اخرى كثيرة قررت أن تحرقها، مع صندوق الذكريات الذي اودعه أباها في حيازتها. وهكذا تنجو ذكراها، كما يليق بعاشقة وفية مثلها، ولكي تحتفظ بنموذج تمرد على الممنوع السائد، ومضحية بنفسها لأجل ذاك التابو.

كان غياب كلتا الشخصيتين مثارا لشائعات، وتندرات، واساطير تكشف عن التراث الأخلاقي للريف المصري، وهو ما تناولته عز الدين ببراعة، في هاتين الشخصيتين, وعلى هامش التاريخ الشخصي للعديد من الشخصيات الأخرى التي تناولتها في النص.

وإذا كان مستوى الوعي من ذاكرة سلمى يوضح أزمتها في علاقتها بتراثها الشخصي، وفي بحثها عن نفسها، فإن مستوى اللاوعي، ممثلا في أحلامها يجسد، مخاوفها من الجنون، ويعبر عن رغبة مطمورة في أعماقها لاستعادة ذاتها مجسدة في نصفها الثاني جميلة التي تتقاطع مصائر حياة كل منهما، بشكل درامي، فهي ترغب في قتلها في الحلم، لكنها لا تفهم هل يعني ذلك عقابها لجميلة على نأيها عنها، واختيارها (جميلة) لطريق مختلفة عنها، أم أنها تعبير عن العلاقة الملتبسة بين الحب والكراهية، التي تجمع بينهما.

أو لعلها تعبر في لاوعيها عن رغبتها في ان تصل إلى حيث تريد ان تعيش في فردوس ملون، لا ترى فيه سوى ألوان الطيف.

تلعب الأحلام، في هذا النص دورا جوهريا، وهي سمة، في اعمال منصورة عز الدين بشكل عام، غيرأنها في هذا النص، تجنح للكابوسية أكثر بكثير، بديلا للتناقضات الصارخة التي كانت الكاتبة تهبها، في عمليها السابقين لمسة من المرح الساخر. لكنها هنا تعبّر عن لاوعي مراوغ للراوية سلمى رشيد، وعن إلغاز، لما تريد النفس أن تقوله فتلجأ للاوعي الذي يعد فقيرا،لأنه لا يمتلك سوى تجميع الصور، القادمة من أزمنة شتى، فلا يزيد الأمر إلا إلغازا، كما هو شأن الحلم الذي تماهت فيه الراوية (سلمى رشيد) مع صورة والدها، فلم يعد واضحا هل هذا تعبير أوديبي، أم أن له مغزى آخر.

وعلى اي حال وعلى ما يقول إيجلتون فإن الأحلام تكفي لإيضاح ان اللاوعي لديه من الدهاء وسعة الحيلة ما لدى رئيس طهاة كسول، مستبدلا أحد التوابل بآخر ليس لديه، فيطرح معا أشد المكونات اختلافا ليصنع يخنة خرقاء، مثلما يعتمد حلم بصورة انتهازية على "بقايا النهار" فيخلط احداثا حصلت خلال النهار او احاسيس تم الشعور بها اثناء النوم مع صور مستلة من عمق طفولتنا.

وتبدو منصورة عز الدين مدركة لذلك تماما، لكنها تجعل من الأحلام متكأ للمسة الغرائبية التي تجدل بها النص من جهة، وتحيل الراوية من جهة أخرى لمحاولة فك شفرات تلك الأحلام عبر التفسيرات التي شاعت في التراث العربي، لتكشف، بين آن وآخر، لغزا حلميا، وتفك شفرات غرائبيته، بما تجود به التفاسير، وأهمها حلم فقدان الناب الذي أدركت منه أنها ترغب في التخلص الكامل، وربما القطيعة مع إرثها العائلي من الحياة والذكرى، دون أن تعرف ان هذا القرار، ستقابله مخاوف أخرى، تعيش في لاوعيهاـ أقواها هاجس الجنون.

وعلى عكس الشائع في كتابة التسعينات يتناول النص عددا من القضايا التي تصور عز الدين تفاصيلها وانعكاساتها على المجتمع الريفي اجتماعيا واقتصاديا في ثمانينات القرن الماضي، وهي قضية تجريف الأراضي، وما استتبعه من تحول صناعي، استلزم تجرد الفلاحين من تربة أراضيهم بإرادتهم، تحت ضغط الجشع، والرغبة في الثراء، حتى لو كان على حساب  الأرض التي يمتلكونها وقدراتها الإنتاجية المستقبلية، بكل دلالات ذلك من تغير في القيم، وفي الطريقة التي دمر بها رأس المال الجديد الاقتصاد الزراعي.

ويبدو جليا الجهد البحثي الذي بذلته الكاتبة في هذا الصدد، وفي تسمية الشياء بأسمائها، خاصة النباتات والأشجار والطيور والكائنات، التي يفيض بها الريف، والتي ترتبط كذلك في الكثير من الأحيان بالتراث الشعبي والمعتقد، وهو ما نثرته أيضا منصورة ببراعة في ثنايا النص، عن الأشباح، والعفاريت، والمعتقدات المرتبطة بالتشاؤوم من الغربان والخوف من انتقام الأفاعي، إضافة إلى تراث الحكي الشعبي الذي قدمت فيه لمستها الخاصة بحكاية "كمونة" الطفلة التي خطفها عملاق، وخبأها في جيب معطفه وانطلق.

هذا الجانب المعرفي لا يخص المؤلفة فقط، وإنما يدلل على النص الذي كتبته سلمى كرواية، أرادت بها أن تستعيد بها ذاتها، وذكرياتها، كانت تعتقد أن أحد أبرز مظاهر التحضر أن تذكر الأشياء باسمائها، وهو أحد دوافعها للتغير، بين دوافع أخرى، ربما بينها تعلقها بحب شخص ينتمي لثقافة غربية ممثلا الجانب الجنوبي فيها عبر شخصية ضيا البريطاني من أصول باكستانية، لا لتصبح محررة قصص أدبية في إحدى الصحف، فقط، وإنما لتقترب من النموذجين الأقرب لوجدانها وتطلعاتها، ممثلين في جميلة، ومارجو.

وصحيح ان سلمى وجميلة بتفاصيل حياتهما المتناقضة والمشتركة والمتنافرة أيضا، والذين اقتسما، حتى رجلا واحدا هو هشام ابن عم سلمى، الذي ارتبط بها رسميا وبضغط من الأبوين على غير إرادتها وإرادته،  بينما كان (هشام) قد مارس الحب بلا زواج مع جميلة التي كانت تحبه بشغف، لكنهما (سلمى وجميلة) معا يجسدان نموذجان للفتيات المتطلعات للخروج عن أعراف القبيلة الريفية، من وحي وعي طبقي و ثقافة مختلفة، وتكمل كل منهما الأخرى، ربما، بينما تظل بدر ولولاّ هما النموذجان الأكثر تمردا لأنهما تمردتا على تلك الأعراف وهما تنتميان إلى عمق تلك الثقافة الريفية المتحفظة ذاتها، وهذا مكمن قوتهما الرمزية رغم أنهما معا لم تشكلا في مساحة السرد ما يذكر مقارنة ببقية أبطال هذا النص.

"وراء الفردوس" نص جديد، عميق، ومعرفي، يؤكد سعي جيل التسعينات للبحث عن شخصية خاصة على مستويي الأسلوب والبناء، فيما تأتي الموضوعات تكأة للتعبير عن تلك الأنساق التعبيرية الجديدة، وهذا احد مكامن قوة هذا النص الجميل.

سبق لمنصورة عز الدين إصدار مجموعة قصصية بعنوان "ضوء مهتز"، ورواية "متاهة مريم".
عن جريدة النهار - بيروت - 2009

No comments: