Monday, May 21, 2012

أسطورة طنجة


أسطورة طنجة..تاريخ جديد يبدأ مع ميناء المتوسط

بقلم:إبراهيم فرغلي  تصوير:حسين القلاف.



بعد جولة اولى خاطفة في طنجة،  كان عقلي يضج بما أتذكره مما قرأت عنها من كتّابها الأشهر؛ محمد شكري، الطاهر بن جلون، بول بولز، تينسي وليامز وسواهم، فإذا بي أرى أكثر من مدينة في مكان واحد، أستدعي التاريخ عبر البنايات التي يشير معمارها لحقب تاريخية مختلفة، اتأمل البشر في محاولة لمعرفة ما تفيض به الوجوه تعبيرا عن روح المدينة أو سرها، بلا جدوى، أتنشق هواء المحيط على الكورنيش البديع تارة، وأحتسي الشاي المنعنع على مقهى بنكهة المتوسط تارة اخرى. أتتبع طيف زوار الدينة من اشهر كتاب وفنانين العالم فيما تداهمني بين آن وآخر هبات من رياح أسطورية تتمتع بها هذه المدينة الرابضة من شاهق الشمال الإفريقي المغربي؛ تطل على العالم، تحرس مضيق جبل طارق، تتأمل العابرين عبر المضيق.
تقول الأسطورة الشفوية المتداولة بين الناس بمدينة "طنجة" إنه بعد الطوفان ضلت سفينة نوح الطريق وهي تبحث عن اليابسة، وذات يوم حطت حمامة فوق السفينة وشيء من الوحل في رجليها، فصاح ركاب السفينة "الطين جا.. الطين جا"، أي جاءت الأرض اليابسة، ومن ثم سميت المنطقة "طنجة".
أما الأسطورة الإغريقية فتقول إن شخصا اسطوريا يدعى "آنتي" كان ابنا لكل من "بوسيدون" و"غايا"، وكان يهاجم المسافرين فيقتلهم وصنع من جماجمهم معبدا أهداه لأبيه، وأطلق على مملكته اسم زوجته "طنجة" - بكسر الطاء وسكون النون- وكانت تمتد من سبتة إلى "ليكسوس" مدينة التفاحات الذهبية قرب العرائش.
وفي معركة قوية بين هرقل وأنتي استطاع هرقل أن يهزمه، وفي الصراع شقت إحدى ضربات سيفه مضيق البوغاز بين أوروبا والمغرب والمغارات المشهورة باسمه، ثم تزوج بعد ذلك زوجة "آنتي"، فأنجبت له سوفوكس الذي أنشأ مستعمرة "طنجيس".

مغارة هرقل..في قلب الأسطورة

استدعيت هذه الأسطورة بينما اقف في عمق المغارة التي تحمل نفس الاسم "مغارة هرقل" طالاً من كُوّتها الشهيرة؛ التي تبدو مثل حفر في الصخر لخارطة إفريقيا محفورة في جدران المغارة، لتطل منها على الأطلسي في منطقة التقائه مع البحر المتوسط، وحيث يمكن لمن يتأمل ويدقق النظر أن يرى مدينة "تاريفا" الإسبانية أقرب مدن إسبانيا الى طنجة.
 اتأمل المغارة التي لا تبدو كبيرة المساحة مضيئة بالشمس القادمة من الكوة، وبمصابيح داخلية صغيرة، أحاول أن أتخيل المكان الذي اتخذه هرقل بين جنباتها مقرا له، ثم الأركان والزوايا التي اتخذها من بعده جنود من حماة المدينة، او مغامرون وجدوا فيها ملاذا آمنا وحصينا للاختباء وإدارة مغامراتهم، وصولا  للكسالى والعاطلين في العصر الحديث، وبينهم العشاق الذين ترددت أنفاسهم بهمسات عشقهم داخل المغارة.

تأملت جدران المغارة الداخلية الصخرية مرة أخرى وأنا أغبطها لما تمتلكه من أسرار، وحدها كانت شاهدة عليها: خطط حربية، مؤمرات، أو ربما حكايات وليال سمر، ابطالها قادة عسكريون، ورحالة، ومارة اجانب وأفراد من أهل طنجة، وبينهم عشاق كانت لهم ربما نزوات وهمسات لم يصغ أحد غير من نطق بها سوى جدران المغارة.
لكنني عندما تذكرت الرسم الهزيل المتخيل لهرقل، كما صوره رسام متوسط الموهبة، على الجدار الذي يقود لمدخل المغارة ابتسمت ابتسامة واسعة، إذ يلطمني الرسم الركيك فتتأرجح كل معرفتي بالمغارة على الحدود بين الشك واليقين..بين الحقيقة والأسطورة.
تجولت في المدينة بمفردي تارة، وبصحبة الصديق الكاتب عبد الرحيم العلام مرات اصطحبنا فيها أيضا الزميل المصور. لكن زيارتي السابقة لطنجة التي أخفقت فيها من إيجاد المكان الذي يقع فيه المطعم الذي كان الكاتب المرموق محمد شكري يتناول فيه طعامه يوميا ويمارس الكتابة احيانا دفعاني لكي اجعل من إيجاد هذا المكان أولوية أولى.


اقتفاء أثر محمد شكري
هناك ثمة إغواء في اقتفاء اثر محمد شكري، ليس فقط من قبيل اهتماماتي الأدبية لكن، وايضا، لأن معرفتي الأولى ، قراءة، بطنجة جاءت بعد أن قرأت كتابيه الأشهر "الخبز الحافي" و"الشطار"، ثم كتبا أخرى غير روائية مثل كتابه عن بول بولز وكتاب السوق الداخلي، الذي سيكون محلا لزيارة في هذا الاستطلاع.
كانت طنجة صاحبة دور البطولة في اغلب أعمال شكري، وبدت لي مدينة هجين بين القديم والجديد، التراث والحداثة، المحلي والأجنبي، إفريقيا وأوربا، الأبوب العتيقة المغلقة على القصاب والمحيط الشاسع المترامي اللانهائي.
ولعل هذا ما يمكن أن يشعره المار بهذه المدينة بسهولة في الاحساس بالانتقالات من حالة مكانية واخرى، فيوازيه شعور بعبور من زمن لآخر، من مثل الانتقال بين زيارة لفندق "الريتز" الذي قضى به شكري جانبا من حياته، في الجزء الحديث من المدينة بأبنيته المنتشرة في منطقة البحر المتوسط الحديثة كما نراها في الإسكندرية مثلا، وزيارة أخرى للقصبة، او لبيت "ابن بطوطة" الواقع في زقاق من أزقة إحدى ربوات منطقة القصبة العتيقة حيث العمارة هنا تعود بنا للعصر الأندلسي، فيما زيارة للسوق الداخلي سوف تستعيد المعمار الإسباني الكولونيالي المعروف بالمورسكي.

مع ذلك، يبدو أن اغلب من كتبوا عن طنجة استهواهم الجانب الأسطوري فيها فكتبوا ما يشبه اجواء الف ليلة وليلة، أكثر مما كتبوا عن الواقع، وقد كان ذلك سببا لانتقاد محمد شكري للغالبية العظمى ممن كتبوا عن طنجة:"إن أكثرية ما يكتب عن طنجة اليوم هي كتب – بطاقات بريدية . قد يمكث في طنجة كاتب ما أسابيع ويكتب عنها كتابا متبجحا بما يعرفه عن خفاياها، وجغرافيتها السرية وأمجادها الغابرة والمشاهير الذين عبروا فيها أو مروا بها. إنهم لكثيرون الذين يكتبون عن المغرب بطاقات بريدية فيهرجون الكتابة ويسطحونها بحثا عن شهرة مجانية، فقاعية، وزبائنهم القراء أيضا، هؤلاء المرضى بالافتتان، والغرائبي وما ورثوه من ألف ليلة وليلة أو ما تبقى من ذاكرتهم منها".

وربما يعود الولع بالكتابة عن طنجة كثرة عدد من زاروها من المشاهير، بعضهم آثر ان يبقى بها بقية حياته كما فعل الكاتب الأمريكي بول بولز، وبعضهم مر بها أو استقر لفترة من مثل وليام بُرّوز، آلن جينسبرج، جاك كرواك، وهم من جيل الغضب الأمريكي الذين مثلت كتاباتهم في الخمسينات ثورة على المجتمع الأمريكي وقيمه. 




وهناك عدد آخر من المشاهير ممن مروا بطنجة وأغرموا بها  من الفنانين والسياسيين والكتاب والبوهيميين، بل أيضا من الجواسيس والمغامرين القادمين من  أرجاء العالم. من بين هؤلاء الكتاب المشاهير مثلا المسرحي الامريكي تينسي ويليامز الذي استلهم أجواء طنجة في بعض مسرحياته، والكاتب الفرنسي جان جينيه الذي قضى فترة في المدينة وكان صديقا لشكري وسواهما.ومر اغلب هؤلاء الكتاب، بين عدد كبير من المقاهي على مقهى شهير في وسط المدينة قريبا من شارع محمد الخامس والمعروف باسم "مقهى باريس".
وكان لي حظ زيارة هذا المقهى الشهير بصحبة الكاتب المغربي الطاهر بن جلون الذي صادف وجودنا في طنجة وجوده فيها وهو ما منحنا فرصة لإجراء حوار خاطف ينشر مع هذا التحقيق. حوار لعبت فيه مدينة طنجة دور البطولة خصوصا وأن بن جلون، إضافة لاختياره المدينة ذاتها لكي يقيم بها خلال فترات وجوده في المغرب، كتب كتابين لعبت طنجة دورا في احداثهما وهما روايتا "يوم صامت في طنجة" و"أن ترحل" التي تناقش فكرة هجرة أبناء طنجة إلى إسبانيا.

ساحة الكسالى
وعلى ذكر المقهى ورواية "أن ترحل" يتداعى الآن لذهني موقعا قريبا من هذا المقهى الواسع المطل على ميدان محمد الخامس، بالأحرى ساحة صغيرة عالية محاطة بمدفعين من بقايا مدافع الاحتلال الإسباني (سنعود للتاريخ الذي فصل طنجة عن المغرب على يد احتلال متعاقب لكل من انجلترا والبرتغال وإسبانيا وحتى عودتها للحكم المغربي في العام 1956).


 هذه الساحة المطلة على المحيط، تسمى ساحة الكسالى، أو ساحة العاطلين، وجزء من هذا الكسل يبدو لمن يتأمل وكأن شبابا كثرا يجلسون هنا ويتطلعون للجانب الآخر حيث يبدو في نهاية المضيق تلال إسبانيا القريبة حلما وأملا للكثير من أبناء طنجة. وفي الوقت نفسه نجد أن المدينة نفسها هي أمل الكثير من الأجانب الذين يتمنون الحياة فيها، وهذا مظهر آخر من مظاهر التناقضات التي تحياها المدينة.

يمكن ملاحظة هذه الظاهرة بشكل أكبر في مقهى الحافة، وهو واحد من المقاهي التي اعتاد شكري ارتيادها، وهو مقهى مفتوح يقع أعلى ربوة عالية يطل الجالسون فيه على المحيط الأطلسي الساحر، بينما ينقسم المقهى إلى مستويات مثل مصاطب مدرجات ملاعب كرة القدم،  تتناثر فيها الأشجار، بكل منها تتراص مجموعة من الطاولات النحاسية الصغيرة والكراسي، فيما تمرح أسراب النحل بين الحضور وبين أكواب الشاي بالنعناع التي يشربها الرواد واغلبهم شباب من الفتيان والفتيات. وبإمكانك ان ترى أن المشهد المقابل الذي ترى منه إسبانيا القريبة لا بد ان يداعب خيال أي ممن لم يجد فرصة للعمل أو الكسب بعد.
مقهى الحافة ..اطلالة على إسبانيا
في رواية "أن ترحل" للطاهر بن جلون يقول في إحدى مقاطعها:"في طنجة، يتحول مقهى الحافة خلال فصل الشتاء مرصد للأحلام وتبعاتها. وكأن قطط المصاطب والمقبرة وفرن الخبز الكبير في مرشان تجتمع هناك لكي تشاهد العرض الجاري بصمت ولا يخدع أحدا، شيشات الكيف الطويلة تُنقّلُ من طاولةٍ إلى طاولة، وأقداح الشاي بالنعناع تبرد مطوقة بنحلات تسقط في آخر المطاف ولا يحرك الزبائن ساكنا لاستغراقهم (..) لا يرفع أحد منهم رأسه. آخرون يجلسون على حصر ساندين ظهورهم إلى الجدار، وعيونهم شاخصة نحو الأفق كأنهم يقلبونه بحثا عن أقدارهم(..) يتطلعون إلى البحر، إلى الغيوم التي تختلط بالجبال، منتظرين تلألؤ الأنوار الأولى من جهة إسبانيا".

بعد مغارة هرقل اخترنا الانتقال إلى المنطقة العتيقة حيث السوق الداخلي الذي يعد سوقا شعبيا تنتشر فيه المتاجر في كل الوان التجارة من الخضروات التي تتراص على الرصيف، إلى الأغذية والحلوى إلى الأدوات الصحية والكهربية حتى الصناعات التقليدية الشعبية، وغير ذلك، تتجاور المحال فيه على الجانبين، ويعلو مستوى الطريق الضيقة التي تفصل بين صفي المحال تدريجيا حتى يصبح الأمر شاقا كلما اقتربنا من قمة الطريق. بينما تعلو تلك المحال، التي تحمل عبق التاريخ، بنايات من العمارات ذات الطابع الإسباني الموريسكي، والتي تسبغ على المكان طابعا شعبيا يختلط بالروح الكولونيالية كما هو شأن العديد من المناطق السكنية الشعبية في الإسكندرية مثلا وفي غيرها من مثل هذه المدن الساحلية المتوسطية.

قبل الدخول إلى السوق الداخلي عبر البوابة المقوسة المزخرفة بالنقش الأندلسي التفت الى ميدان 9 إبريل وهو ميدان كبير تتوسطه نافورة من الرخام ويطل عليها الجامع الكبير الأندلسي الطراز بمنارته المربعة المميزة، وألوان سقفه الأخضر، وعندما قرات عنه لاحقا عرفت أنه كان قد تحول إلى كنيسة خلال فترة الاستعمار البرتغالي، وبعد استرجاعه في سنة 1684م على يد العلويين،عرف عدة أعمال ترميم وتوسيع. واستخدمت في معماره المميز كل فنون الزخرفة من فسيفساء وزليج وصباغة ونقش ونحت وكتابة على الخشب والجبس. ويتضمن هذا المسجد على بيت للصلاة مكون من ثلاثة أروقة متوازية مع حائط القبلة وصحن محاط من كل جانب برواقين. و بذالك فهو يعتبر نموذجا للمساجد العَلَوية (نسبة للمرحلة العلوية في تاريخ المغرب) المعروفة ببساطة هندستها.
تاريخ طنجة

وبما أن هذا الجامع جميل العمارة قد عاد بنا إلى تاريخه فلعله يكون مناسبا الإشارة إلى تاريخ عام لهذه المدينة كما تورده بعض المصار التاريخية. والمعروف أن طنجة أنشأها القرطاجيون في القرن الخامس قبل الميلاد وسرعان ما تبوأت مركزا تجاريا على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وضمتها الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد واصبحت ولاية رومانية، وعقب سقوط الإمبراطورية الرومانية استولى الوندال على طنجة في القرن الخامس الميلادي، ثم البيزنطيين في القرن السادس، وعاد الرومان لاحتلالها مرة أخرى حتى فتحها الأمويون عام 702.
استعادت طنجة حيويتها مع انطلاق الفتوحات الإسلامية لغزو الأندلس علي يد طارق بن زيادسنة 711م، ثم من طرف المرابطين والموحدين الذين جعلوا من طنجة معقلا لتنظيم جيوشهم وحملاتهم. بعد ذلك تتالت على طنجة فترات الغزو الإسباني والبرتغالي والإنجليزي منذ 1471م إلى 1684م، والتي تركت بصماتها حاضرة بالمدينة العتيقة كالأسوار والأبراج والكنائس مما يمكن أن تراه في مواضع عديدة من الجزء العتيق من المدينة.
لكن تبقى أهم مرحلة ثقافية وعمرانية مميزة في تاريخ طنجة الوسيط والحديث هي فترة السلاطين العلويين خصوصا المولى إسماعيل وسيدي محمد بن عبد الله. فبعد استرجاعها من يد الغزو الإنجليزي سنة 1684م في عهد المولى إسماعيل، استعادت طنجة دورها العسكري والدبلوماسي والتجاري كبوابة على دول البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي عرفت تدفقا عمرانيا ضخما، فشيدت الأسوار والحصون والأبواب. وازدهرت الحياة الدينية والاجتماعية، فبنيت المساجد والقصور والنافورات والحمامات والأسواق، كما بنيت الكنائس والقنصليات والمنازل الكبيرة الخاصة بالمقيمين الأجانب، حتى أصبحت طنجة عاصمة ديبلوماسية بعشر قنصليات سنة 1830م، ومدينة دولية يتوافد عليها التجار والمغامرون من كل الأنحاء نتيجة الامتيازات الضريبية التي كانت تتمتع بها.

شهد عام 1921 انتصارا مغربيا على يد الأمير عبد الكريم الخطابي الذي انتصر على الجيش الإسباني في المغرب، مما أدى إلى المزيد من الفتن في إسبانيا وطالبت الأحزاب بعودة الحياة النيابية وحقق الجمهوريون بقيادة زامورا فوزا ساحقا وطالبوا الملك عام 1931 م بالاستقالة فهرب من البلاد دون أن يستقيل فاعلنت إسبانيا جمهورية، وكان لذلك اثر كبير على تحرر طنجة نسبيا.
بلغ عدد سكانها مطلع القرن العشرين حوالي 40 الف نسمة بينهم 20 الفا من المسلمين وعشرة آلاف يهودي مغربي ونحو 9000 اوروبي بينهم سبعة الاف وخمسمائة شخص من إسبانيا.
وتم نفي آخر السلاطين المستقلين المغاربة مولاي حافظ الى طنجة في العام 1912، حيث تم التحفظ عليه في القصبة.
وفي 1923 وقعت كل من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا معاهدة تحولت بمقتضاها طنجة إلى منطقة دولية، وفي العام 1940 قامت القوات الإسبانية بغزوها وحتلالها مرة أخرى وحتى العام1945. وأخيرا حصلت على استقلالها الكامل واصبحت تحت السيادة المغربية بعد الاستقلال، وبالتحديد في العام 1956.

ولا شك أن هذا التاريخ الذي جعل طنجة لفترة طويلة من تاريخها مأوى للأوربيين وموضعا للتأثير الإسباني بشكل خاص، فقد أسهم ذلك في إسباغ هذه الروح المتعددة على روحها، ومنحها بعض الآثار الهامة وبينها على سبيل المثال مبنى المسرح الذي يحمل اسم "سرفانتس" والذي تأسس فيها في العام 1913، وشهد عروضا مسرحية وفنية وموسيقية عالمية على مدى عقود. لكننا عندما وصلنا إليه في إحدى الشوارع المتفرعة من شارع محمد الخامس فوجئنا به مغلقا إذ تقرر ترميمه منذ سنوات وتعطل المشروع لأسباب تتعلق بالميزانية التي خصصت لهذا الغرض، وبينها مليون درهم عرضتها الحكومة الإسبانية للإسهام في ترميم هذا الأثر الفني الهام، الذي يتضمن قاعة مسرح فخمة ومهيبة تصل عدد المقاعد فيها الى 1400 كرسيا، إضافة الى آيات من العمارة الداخلية الإسبانية شديدة التميز والخصوصية.

بشر بلا ملامح
وبينما كنت أسير مع الصديق عبد الرحيم العلام، كانت ملامح الناس تناوشني، فتاة جميلة جمالا لافتا كما هو شأن اغلب الفتيات هنا في طنجة، عجوز متغضن الملامح من أثر السنين، يرتدي زيا تقليديا وينفخ في مزمار بالحان عشوائية، شباب يجلس ساهما على مقهى من المقاهي، رجال صاخبون في مقهى آخر، لكني لم أستطع تكوين فكرة عن أهل طنجة، فهم مثل المدينة أيضا، ليسوا شيئا واحدا، ولا شك أن من رأيناهم أو مررنا بهم في المنطقة العتيقة ممن يبدو عليهم الفقر يختلفون عن الطبقات 




البورجوازية الذين يسكنون الشقق الفاخرة المطلة على الكورنيش الجميل الذي يذكرك في غير موضع منه بملامح من الإسكندرية، ولا يمكن الاعتماد على ما كتبه الرحالة الذين لم يختلطوا كثيرا بأهل طنجة رغم طول إقامتهم، فأغلب شهاداتهم عن اهل طنجة خصوصا من سكان الأحياء الفقيرة، عنصرية، وعمياء. لكن شابة من مراكش مثلا قالت لي ما معناه أن أهل طنجة بشكل عام يبدون أقل ميلا للتفاعل الاجتماعي مع الآخرين، وهم يختلفون في شخصياتهم عن اهل المغرب من الجنوب. ومع ذلك لم يمكنني أن أفهم تماما. في النهاية أظن أن أهل طنجة مثل أهل السواحل في اي مكان يتعاملون مع الأجانب، ويعتادون ذلك. فيميلون للتفتح وتعدد الثقافات، ولذلك تنتشر الإسبانية هنا إلى جانب الفرنسية على سبيل المثال. لكنهم ربما في الوقت نفسه وبسبب تعدد من تعاقب عليهم من الأجانب لا يثقون كثيرا في الغريب.

أما ما لم افهمه البتة أنني في زيارتي الأولى لطنجة قبل نحو ثلاثة أعوام حين كنت أبحث عن شكري اكتشفت انهم لا يعرفونه.. هالني أن أحدا ممن سألتهم عن شكري لم يسمع عنه مطلقا. كنت أردد لنفسي :لا يعرفون شكري؟! من يعرفون إذن؟؟
وقد شرح لي الموظف المسؤول في فندق ومطعم "الريتز" أن شكري نفسه في بعض الأحيان كان يصاب بالضجر من إصرار أهل طنجة على عدم معرفته. خصوصا وأنه كان موضوع سؤال مستمر من الأجانب الذين يمرون على المدينة بالإضافة الى المثقفين من أرجاء العالم والعالم العربي.
أشار إلى موضع قريب من منطقة الاستقبال قائلا بمسحة حزن اشتبكت بابتسامة تستدعيها ذكرى الرجل الذي وصفه بالصموت، هنا أحس شكري بالتعب فجأة، ونقلناه إلى المشفى التي مات فيها.
سعدي في طنجة!

حين خرجنا من الريتز كنت أفكر في الرجل العالمي الذي لا يعرفه أحد في مدينته، فلا كرامة لنبي في وطنه كما يقال، وفجأة لمحت الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف قادما من أحد الشوارع من جهة البحر متجها صوب "الريتز" فاستوقفناه أنا والصديق عبد الرحيم العلام فتوقف وحيانا، ثم قال لنا أنه يسكن في "الريتز" بدعوة من روح شكري وذكراه.
وقلت لنفسي:ها هي طنجة لا تزال قادرة على إغواء الغريب مثل النداهة، تنادي على الغريب أيا كان وحين تطء قدماه أرضها سرعان ما تغويه فيقع في غرامها. قال لنا سعدي أنه قادم لطنجة لأول مرة وانه وقع في غرامها وبدأ في كتابة قصائد مستلهمة منها وأنه لذلك سوف يستقر بها لفترات طويلة بعيدا عن برد لندن.
سألته عما إذا كان لاحظ مدى جمال الفتيات الطنجاويات فأيد ذلك قائلا :جميلات فعلا، إلى درجة أنهن حتى يتعففن عن مساحيق التجميل ثقة في جمالهن، رغم المسحة الريفية التي تتسبب بها هذه الفطرية أحيانا!

كان لقاءنا بسعدي سببا لكي نلتقي لاحقا بالكاتب المغربي بهاء الطود من سكان طنجة أيضا، وله رواية صدرت حديثا باسم "ابو حيان في طنجة" تدور وقائعها في طنجة وتقترح فكرة خيالية عن وجود أبو حيان التوحيدي في طنجة المعاصرة، إضافة الى الكاتب العراقي نوري شاكر الذي له علاقة وثيقة بالمغرب وطنجة على نحو خاص.
ضريح ابن بطوطة
في المنطقة العتيقة قريبا من مبنى القصبة الأثري التاريخي كنت أتأمل العمارة الجميلة في طريقنا للبحث عن ضريح الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي كان من أهل طنجة وتوفي بها.
الطريق الى القصبة يبدأ ببوابة حجرية مقوسة مشيد اعلاها مبنى عتيق والى يسارها سور ضخم، وبعد البوابة مباشرة ترى باحة واسعة مبلطة بالحجارة المصقولة. الى اليمين توجد مجموعة من المباني العتيقة الجميلة أوروبية النمط، نزلنا عدة درجات بحثا عن زقاق ابن بطوطة الذي سيقودنا الى الضريح، لكن مهمتنا فشلت عقب المرور في الزنقات الضيقة صعودا وهبوطا بين بيوت صغيرة تتراص في الزنقات التي تشتبك مع بعضها كأذرع اخطبوط، حتى طلبنا مساعدة أحد الشباب من أهل المنطقة، والذي اصطحبنا حتى الضريح بعد متاهة من الممرات الملتوية.

الضريح هو مبنى أبيض صغير عبارة عن باحة صغيرة لا تتجاوز ثلاثة امتار في عرض اربعة أمتار، في أحد اطرافها يقع الضريح المغطى بأقمشة خضراء منسوجة ومنقوشة بالذهب. وعلى أحد الجدران علقت لوحة بهاسيرة ابن بطوطة وهو محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي المعروف بابن بطوطة (ولد في 24 فبراير من العام 1304 في طنجة.  
وكان قرر عام 1325 وهو ابن 21 عاماً أن يخرج حاجاً، طامحا أن يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد الإسلام، فطاف بلاد المغرب ومصر والسودان والشام والحجاز ثم العراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان حتى وصل إلى الهند ومنها الى الصين واندونيسيا ثم انتقل مرة اخرى إلى اواسط افريقيا، واتصل بالكثير من الحكام والملوك وقرض الشعر، ومن هباتهم تمكن من استكمال الرحلة. 
عاد إلى المغرب بعد رحلة دامت ثلاثين عاما بناء على طلب السلطان أبي عنان وأملى أخبار رحلته إلى شخص يدعى محمد بن جزي الكلبي والتي كانت محصلتها كتابه الشهير "تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" والتي ترجمت لاحقا الى عدد من اللغات الأوربية. وتوفي في العام 1355 ميلادية.
تجولنا في منطقة القصبة لوهلة، تأملت المباني القديمة التي لا تزال تحتفظ بعمارتها العتيقة وأبوابها الخشبية العملاقة الأندلسية الطابع، وأدركت أنها ربما المرحلة التاريخية الأكثر تأثيرا في المغرب كله وليس في طنجة وحدها.
 توقفنا أمام أبواب باب حمام مغربي قديم يحمل اسم "حمام القصبة" له مدخل تراثي مقوس، ومزخرف الواجهة، كما لفت انتباهنا محل صغير على واجهته لوحة كتب عليها "نادي البوغاز للموسيقى"، وفيه وجدنا شيخا يعلم الفتيان العزف على الموسيقى بالآلات الشرقية والغربية.
وأخيرا وجدنا أنفسنا على حافة تطل على الميناء القديم، والذي يعمل الآن فقط لنقل الركاب بين إسبانيا وطنجة. بعد أن كان الميناء الرئيس هنا للشحن والنقل, لكن التكدس الرهيب الذي يتسبب فيه وجود الميناء في قلب المدينة خصوصا في وقت عودة المهاجرين المغاربة في إجازاتهم  استدعى التفكير في مشروع ضخم وطموح سوف يؤدي الى انتقال طنجة نقلة عملاقة اقتصاديا واجتماعيا وهو ميناء طنجة المتوسط الذي قررنا زيارته زيارة خاصة.



ميناء طنجة المتوسط نقلة اقتصادية للمغرب

نجح صديقنا عبد الرحيم العلام في تدبير لقاء لنا مع مدير ميناء طنجة المتوسط في اليوم التالي، وبترتيب وتنسيق الوزير محمد بن عيسى.



في الموعد المحدد كنا داخل حرم الميناء الشاسع الذي تتراص الحاويات على ارصفته الضخمة، بينما كنا نسير داخل الميناء كأننا نسير داخل مدينة شاسعة، واخيرا وصلنا إلى المبنى الإداري الذي يضم مكتب السيد حسن عبقاري مدير ميناء طنجة المتوسط.
سألت السيد عبقاري عن أسباب إقامة هذا الميناء الجديد وطموحه فقال ان الميناء القديم لطنجة كان محصورا داخل المدينة مما تسبب في اختناقات مرورية عدة واكتظاظ المدينة بالشاحنات خصوصا في موسم عودة المهاجرين المغاربة الى المغرب من أوربا، حيث تعبر الميناء نحو 170 ألف شاحنة في السنة، من جهة، إضافة الى رفع نسبة التلوث بالمدينة، ومن هنا بدأ التفكير في الميناء الذي تأسس وبدأ نشاطه في العام 2007 واليوم نفتخر بأن الميناء ينتقل عبره اليوم ما يصل الى ما يزيد عن مليون راكب وما يناهز مليوني باخرة شحن سنويا.
ويشير عبقاري أن الميناء الجديد يتمتع بسمة غير موجودة في القديم وهي ما يطلق عليه Zero division position ، أي أن الشاحنات بإمكانها أن تصل الى الرصيف الخاصة بها مباشرة وبالتالي لا تضطر لتغيير طريقها والانتظار لساعات كما كان الأمر، وهو ما يقلل كثيرا من تكلفة الشحن على ملاك البواخر، ويقلل وقت الشحن كثيرا ويسهم في سرعة الدورة الاقتصادية.
ويضيف عبقاري: كشفت دراساتنا أن أوربا في العام 2017 سوف يصل فيها عدد السفن الناقلة الخارجة منها الى 2 مليون شاحنة، وهكذا خططنا لاستيعاب هذا الضغط الهائل بإيجاد هذا الميناء الذي يعد ذي موقع مميز جدا في قربه من أوربا.
·       من كان يلعب هذا الدور قبل وجود هذا الميناء؟
** كانت هناك موانيء مثل مالطا والجزيرة الإسباني وبرشلونة وفانيسيا وغيرها من الموانيء.
·       وكيف نافستم مثل هذه الموانيء الكبيرة؟
** لك أن تعرف اننا في نحو ثلاثة اعوام ونصف قد انتقلنا من الرقم صفر الى رقم 2 مليون باخرة وسفينة شحن، وهذا إنجاز ضخم جدا له أسباب منها المواصفات القياسية للميناء من حيث إمكان وصول 5 سفن لتفريغ شحناتها في نفس الوقت بالوصول المباشر للرصيف حيث ان عمق الميناء يتراوح بين 12 الى 15 مترا، مع وجود مساحة شاسعة جدا للبضائع، والمخازن وآليات الرفع.
هذا بالإضافة إلى أننا بهذه الإمكانات قد وفرنا وقت الترانزيت كثيرا حيث يكون بإمكان السفينة الواحدة أن تقوم بتفريغ 4 نقلات الى الميناء في اليوم الواحد بدلا من ثلاث نقلات، وما يستتبع ذلك من توفير في الوقت والجهد والتكلفة.

·       ما هي فرص التنمية للمنطقة التي يحققها هذا الميناء ؟
** بالتأكيد نحن بهذا الميناء نخلق فرصا جيدة للعمل، بل خلق مركز تنمية اقتصادي واجتماعي في طنجة وشمال المغرب بشكل عام، ومشروع الميناء لم يكن عملا منفردا فقد تطلب عمل خدمات واسعة تم إنجازها بالفعل مثل شبكة طرق جديدة سريعة لخدمة الشحن من وإلى الميناء، بالإضافة إلى أن هناك خط سكة حديد جديد ينشأ الآن لخدمة الميناء.
·       وعلى الأرض ما هي طبيعة الفرص التي خلقها الميناء لأهل طنجة على نحو خاص؟
** أحب أن أنوه هنا أن هناك 5000 هكتار من الأرض مخصصة للخدمات التابعة للميناء، ومنها مدينة صناعية على بعد 25 كيلو مترا ويلحق بها مدينة سكنية للموظفين والعمال في المنطقة الصناعية. وقد بدأت شركة "رينو" الفرنسية لصناعة السيارات بتجهيز مصنع للسيارات في هذه المنطقة انتهى العمل في إنشاءاته وتجهيزاته وبدأ العمل في مطلع هذا العام بالفعل 2012، بقدرة إنتاجية تصل إلى 400 ألف سيارة سنويا. هذا المصنع سيوفر 6000 فرصة عمل بشكل مباشر، لكنه، في الوقت نفسه، سيوفر 30 ألف فرصة عمل بشكل غير مباشر في القطاعات المرتبطة بالمصنع مثل النقل وتصنيع المواد الخام المرتبطة بصناعة السيارات مثل قطع الغيار ومصانع الإطارات وغير ذلك.

·       يبدو أن أحد أدوار هذا الميناء استراتيجيا لعب دور جسر بين اوربا والمغرب وربما إفريقيا، لكن كيف تحقق هذا على أرض الواقع؟
** أنت تعرف ان الميناء بالفعل تبعد عن إسبانيا 14 كيلومترا فقط، وإذا كانت الطريق بين طنجة واوربا عن طريق موانيء اخرى يستغرق نحو ساعتين ونصف فإن الوقت المستغرق الآن عبر ميناء طنجة المتوسط لا يزيد عن ساعة وربع فقط. وهذا يعني تقليل الكثير من التكلفة أولا من حيث وقود البواخر الذي ينخفض للنصف، وهذا ينعكس ايضا على إجمالي نفقات النقل والشحن، واليوم نستطيع أن نرى ذلك بشكل عملي فإذا كانت تكلفة النقل والتشغيل لكل 12 مترا حوالي 400 يورو، فإن هذه التكلفة اليوم لا تزيد عن 270 يورو. من جهة أخرى هذا التوفير في الوقت أصبح يمكن الباخرة الواحدة من أن تزيد نقلاتها من إسبانيا إلى طنجة بدلا من ثلاث شحنات إلى أربع وهذا يعني التكلفة اليومية للشاحنة قد قلت كثيرا، وهذا الأمر ينطبق أيضا على تكلفة عبور الافراد التي قلت بدورها عن السابق مقارنة بالسفر بحرا من الموانيء الأخرى. ولكي اعطيك فكرة عن الفارق أننا في السابق كنا نقوم بشحن 25الف حاوية في السنة بينما ننقل اليوم 15الف حاوية أي ما كان يتم في سنة يتم الآن يوم واحد، وبهذا فإن الميناء بالفعل قام بتفعيل الارتباط بين إفريقيا وأوربا بشكل كبير جدا.
·       وهل يؤثر هذا الميناء على موانيء اخرى بالسلب؟
** من وجهة نظر اقتصادية لا اظن ذلك، وأكثر الموانيء التي قد تكون تأثرت ربما ميناء الجزيرة، لكن ما قمنا باجتذابه منهم لا يزيد عن نحو 10 في المئة من إجمالي حجم الشحنات التي يمررونها يوميا. فالمنافسة الحقيقية في الواقع هي بين الموانيء الإسبانية وبعضها البعض خصوصا الجزيرة وفالنسيا على سبيل المثال. ويمكنني ان أضرب مثالا آخر عبر مينائين بلجيكيين هما روتردام وأنطوس وهما قريبان جدا من بعضهما البعض، ويمتلكان مواصفات خاصة في إمكانات تفريغ الشاحنات العملاقة، إذا استطعنا نحن أن نوفر هذه الإمكانية فإن اصحاب البواخر والشاحنات سيلجأون لنا بالطبع. وبالتالي فنحن ننافس بنفس المنطق الخاص بين الموانيء الأوربية، بالتالي فميناء طنجة المتوسط لا ينبغي النظر إليه على انه ميناء خارج عن المحيط الأوربي بل هو جزء من هذا المحيط في مجال الشحن والنقل البحريين لأننا نقدم خدمات على نفس المستوى والمعايير الخاصة بالمستثمر والمواطن الأوربي.
بالإضافة إلى اننا، عبر مصنع رينو مثلا وما يستلزمه من تسويق في اوربا وإسبانيا، نقدم خدمة استثمارية لإسبانيا أيضا وليس العكس.
·       فيما يتعلق بسبتة وأومليلة هل يتأثران بهذا الميناء؟
** لا أعتقد، فهذه فكرة قديمة يستخدمها بعض السياسيين من أصحاب الأفكار التقليدية، لكنها على أرض الواقع لا حقيقة لها، بالعكس نحن بهذا الميناء نجتذب الأوربيين للمنطقة بما فيها سبتة واومليلة.
·       أخيرا هل التشغيل في الميناء يعتمد على الأجانب أم على المغاربة فقط؟
** نعتمد على بعض الأجانب في الحقيقة أغلبهم مصريين، فقد استعنا في البداية على طواقم مصرية من ميناء بورسعيد، لما لديهم من خبرات كبيرة في تشغيل الموانيء، لتدريب العاملين لدينا وقد ادوا مهمتهم بكفاءة وعادوا الى مصر مرة أخرى، لكن ثبت أن العامل المغربي صاحب كفاءة كبيرة حين يحصل على التدريب المناسب لأن العمل الآن بالمواصفات القياسية العالمية يتم على يد مغاربة ولا تزيد نسبة بعض الأجانب الأوربيين م اصحاب الخبرات التقنية والفنية عن 2 في المائة من حجم العمالة الضخم الذي يعمل في الميناء. ونحن فخورين اننا الآن كمغاربة ندير هذا الميناء بكفاءة كاملة.

عندما خرجنا من الميناء وبعد ان تفقدنا رصيف الشاحنات وعمليات تفريغ الحاويات بالروافع ونقل الركاب، كنت أشعر بانبهار حقيقي من هذا المشوع الضخم الذي سيغير مستقبل طنجة والشمال بشكل عام، خصوصا بعد الاهتمام الكبير الذي اولاه الملك محمد السادس للشمال ولزيادة فرص التنمية فيه بقوة وعبر دليل قوي مثل هذا النموذج التنموي الرائد ممثلا في الميناء وملحقاته الخدمية.
بين الأصالة والمعاصرة
وعندما عدنا إلى طنجة كنت أتابع أن هناك الكثير من البنايات الحديثة والأبراج ترتفع شاهقة في أرجاء واسعة من المدينة بالفعل، وهو ما دفعني للتفكير في مستقبل طنجة وهل ستندثر المناطق العتيقة تحت ضغط المناطق السكنية الحديثة التي تنتثر الآن في كل مكان وبعضها مباني عديدة جدا تبدو جميعا مغلقة؟
توجهت بالسؤال إلى المهندس المدني عبداللطيف الساوري، والذي كان يعمل سابقا رئيسا لمديرية التسيير الحضاري، وهي الجهاز الحكومي المسؤول عن وضع أسس التخطيط العمراني في مدينة طنجة والاقاليم التابعة لها.
يقول المهندس عبداللطيف الساوري: وكالة التسيير الحضاري لعبت دورا مهما في مواكبة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها ولاية طنجة، وأنا هنا أقصد دورها في المشروعات الكبرى وبينها مثلا تخطيط ميناء طنجة والمرافق المصاحبة له، إضافة إلى نحو 2000 هكتار من المساحات المخصصة للصناعة والتي اقيم على جزء منها مصنع رينو الفرنسي للسيارات المقام على مساحة 300 هكتار تقريبا، بالإضافة لكل ما لحق بهذا المشروع مثل تخطيط السكك الحديدية والمناطق السكنية والترفيهية الملحقة الخاصة بالعاملين في محيط الميناء.
كما أنجزت خطط التعمير الخاصة بالاستثمارات الخاصة من قبل مستثمرين فرنسيين وإسبان وبرتغاليين، الذين أقاموا مشروعات لها طابع سكني او سياحي أو صناعي، إضافة الى استثمارات دول الخليج خصوصا الكويت ودولة الإمارات وقطر التي ساهمت بشكل كبير في نجاح المشروع.
·       كيف واجهت الوكالة التوسع العمراني الحديث على حساب المناطق الاثرية والعتيقة ذات الاهمية التاريخية؟
** مساحة مدينة طنجة العتيقة حوالي 30 هكتارا، أو نحو 25 كيلومترا مربعا، وقد وضعت الهيئة المخططات اللازمة لحماية هذا التراث الثقافي من الاندثار بالتشديد على عدم مس اي جزء من الواجهات للبنايات القديمة خصوصا تلك التي يستأجرها او يشتريها أجانب هنا في طنجة أو حتى في مدينة أصيلة. فالعقود المبرمة بين هؤلاء والملاك الأصليين تلزمهم بعدم المساس بالمباني على أي نحو للحفاظ على تصميماتها الاصلية وبالتالي الحفاظ على خصوصية الإرث الثقافي الذي تعبر عنه وعدم تفريغها من هويتها المعمارية والتراثية التي كانت السبب الرئيس اصلا في اجتذاب هؤلاء الملاك لامتلاكها أو استئجارها.
وصحيح أن الخطط الموضوعة لم ينفذ اكثر من نحو 60 في المئة منها، لكن العمل لا يزال يسير، فالوجود الحضاري لطنجة قديم جدا وبسبب تعدد الثقافات التي مرت على المدينة اكتسبت تعددية في التراث وحتى اليوم توجد في طنجة احياء اجنبية مثل الحي الإيطالي والإسباني والبرتغالي والتي تتعانق جميعا مع التراث الاندلسي الذي يعود للحقبة الاندلسية في طنجة.

·       وهل توجد ازمة إسكان في طنجة اليوم؟
** مع الأسف نعم، وإذا قلنا ان طنجة في العام 1930 كان تعدادها نحو 40 الفا، فإن هذا العدد اليوم زاد الى مليون نسمة، وبالرغم من أن مساحة المدينة زاد بما يقترب من 30 مرة عن مساحتها في السابق فلا تزال التوسعات لا تلاحق معدل النمو السكاني خصوصا وأن التنمية في قطاع الإسكان تاخر كثيرا بعد الاستقلال لأن المغرب كان لها اولويات في قطاعات الصناعة والسياسة على حساب قطاع التعمير والإسكان. وهو ما أثر على المدينة كثيراً عبر نشأة ما يعرف بمناطق وأحياء الصفيح التي بناها السكان عشوائيا.
وتبذل الولاية الآن جهدا كبيرا في استبدال المناطق العشوائية بمدن سكنية حديثة حيث تستعد طنجة خلال عامين لإعلانها مدينة خالية من العشوائيات تماما، خصوصا وان مدينة "شرفات" – مستوحاة من كلمة أشرفت أو المدينة التي اشرفت على أوربا- الجديدة المقامة بجوار الميناء معدة لاستقبال السكان الذين سيشغلون نحو 50 الف وظيفة في محيط الميناء خلال السنوات المقبلة.
·       وماذا عن ظاهرة الشقق المغلقة، التي لاحظناها هنا في عدد كبير من المباني الجديدة في مدينة تعاني من أزمة إلإسكان؟
هذه ملاحظة صحيحة واليوم فإن نحو 35 في المائة من الشقق السكنية خالية في طنجة وهو يعود لان عدد كبير من المهاجرين يستثمرون في العقار بشراء وامتلاك وحدات على أمل بيعها لاحقا باسعار أكبر، ثم وجود المضاربين العقاريين الذين يضاربون في العقارات بشرائها قبل البناء بأسعار زهيدة تمهيدا لبيعها بأضعاف السعر بعد اكتمال البناء وهي ظاهرة تؤثر سلبا على ازمة الإسكان وربما يتم مواجهتها بشكل من الاشكال يوما ما.
انتهت جولتنا في طنجة فيما تغلغلت أجواءها الأسطورية في روحي أكثر. ولكني شعرت رغم ذلك أنها مدينة لا تزال تحتفظ بالكثير من أسرارها، وأنها تحتاج لشهور ربما لكي تكشف عن بعض هذه الأسرار وخصوصا سر غوايتها. وصحيح أنني كنت أخشى أن تتغير كثيرا بعد سنوات قليلة، لكن مخاوفي هذه كانت تخفت حين أتذكر من مروا عليها وفتنوا بها فسوف تظل مناطقها العتيقة وآثارها وقصابها ومغارتها جزءا من فتنتها وغوايتها وقدرتها على اجتذاب مريديها يوما بعد يوم وعلى مر الزمن.

بــــــرواز
الطاهر بن جلون: ترجمت الخبز الحافي انقاذا لشكري من استغلاله معنويا!



هذا الحوار تم الترتيب له بسرعة وبسبب ضيق وقت بن جلون لم تتجاوز مدة الحوار نصف ساعة قضيناها في مقهى باريس الذي اختاره بن جلون مكانا للقاء، وقد كانت فرصة جيدة للجلوس في هذا المقهى الشهير الذي ارتاده عدد كبير من مشاهير الأدب العالمي ممن ترددوا على طنجة. وبادرت بن جلون قائلا:
·       بداية ماذا تمثل لك مدينة طنجة؟ ولماذا اخترت الإقامة بها بعد عودتك من فرنسا؟
** الحقيقة أنني اصلا من مدينة فاس، وبها ولدت، لكن عندما كنت في العاشرة تعرض والدي لأزمة مالية في إطار ازمة اقتصادية كبيرة مرت بالبلاد، واختار والدي مدينة طنجة بسبب وجود بعض أفراد من العائلة بها. فاستقرينا بطنجة واستكملت دراستي وحتى المرحلة الثانوية بها وحتى توفي والدي. وصحيح ان الكثير من الناس يرددون أنني من فاس، لكني لديّ بالفعل ارتباط كبير بطنجة التي قضيت بها طفولتي وهي مرحلة يكون فيها الفرد بالغ الحساية للأشياء والتفاصيل من حوله ويرتبط بها كثيرا، لكن لا يمكن القول أنني استقريت هنا بالمعنى الحقيقي للكلمة. أنا لدي شقة في طنجة ودائما اتردد عليها اكثر من عشر مرات في السنة قادما من فرنسا او متنقلا بينها وبين بلاد العالم لأنني اسافر كثيرا، لكنني افضل الإقامة هنا في الصيف.
·       في الكتابة هل هناك علاقة لطنجة أو تاثير مباشر بالإلهام أو التاثر بمن عاشوا بها مثلا؟
** أنا لدي روايتين تمثل طنجة فيهما إطارا روائيا هما "أن ترحل" و"يوم صامت في طنجة"، وهي ايضا تلعب دورا كبيرا في حياتي، لكني لم انتم غلى البيئة الاجنبية التي عاشت او استقرت في طنجة من الكتاب الأجانب، مثلما فعل شكري في علاقته ببول بولز مثلا، لا انا كانت حياتي محايدة جدا.

·       كيف تصف علاقتك بشكري والمعروف انك الذي ترجمت روايته الشهيرة للعربية وقدمته للقاريء العربي بالتالي؟
** لا الحقيقة الفضل في التعريف بشكري يعود أولا لمحمد براده، فهو الذي اكتشف شكري وهو الذي كان يروج له ويدافع عنه قبل زمن طويل. لأن شكري كان مهملا في الصحافة المحلية في المغرب. وبعض الكتاب المغاربة لم يهتما به أو يولونه أية أولوية أ واسبقية.
وعندما رأيت كيف تم استغلال شكري من قبل بول بولز ماديا ومعنويا بعد أن نشر سيرته الذاتية باللغة الإنجليزية قلت انه من واجبي ككاتب صديق ان اسهم في ترجمة سيرته الذاتية للعربية واعطيت الكتاب الاسم الذي عرف به لاحقا في كل مكان "الخبز الحافي".

·       هل كانت تجمع بينك وبين شكري علاقة صداقة بالمعنى الحقيقي للكلمة؟
** كانت تجمع بيننا علاقة ما، لكننا كنا مختلفين فهو مثلا كان يشرب كثيرا وأنا لا أفعل، وكنت أشعر أنه بما يفعله بنفسه كان ينتحر بشكل شبه يومي، كأنه يتعمد أن يهدم نفسه بنفسه..كان تعيسا وممرورا واظن أن هذا طبيعي لإنسان عاش مثل ما عاشه هو في طفولته من بؤس وفقر وجوع. لكني أظنه ظل يعاني طويلا ولم يتجاوز تلك الطفولة البتة. وهذا ما جعله عدوانيا مع الكثيرين وعلاقتي به كان يشوبها شيء من الجذب والشد، وأعتقد ان هذه سمة مشتركة لكل من تعاملوا معه، واظن ان هذه كانت طريقته مع الجميع حتى مع نفسه.
·       عندما تأتي إلى طنجة ما هي الأماكن التي تحب ان تتردد إليها؟
** الحقيقة انني لا استقر في طنجة في مكان واحد، أتجول باستمرار، وما يهمني في هذا التجوال ملاحظة الأشياء الصغيرة والتفاصيل والتغيرات التي تطرأ على البشر وعلى الأماكن، خصوصا وان هناك تغيرات كثيرة ملموسة الآن، فعلى عكس الملك السابق الحسن الخامس، الذي ترك المنطقة مهمشة ولم يزرها،فقد اولى الملك محمد السادس اهتماما كبيرا بالمدينة والشمال بشكل عام ويمكن القول انه أحيا المدينة من جديد ومنحها أهمية جعلت منها بالفعل الآن مدينة مهمة في المغرب، ولعل ابرز دليل على ذلك هو ميناء طنجة المتوسط الجديد الذي يعد مشروعا تنمويا عظيما ليس للمنطقة فقط بل وللبلد ككل.
·       هل منحك البشر من سكان طنجة ممن تتامل غلهاما لشخصياتك الروائية؟
** أنت تعرف ان الشخصيات الروائية عادة ما يكون بها نوع من التركيب، وكل شخصية تتكون من عدد كبير من الشخصيات التي يكون الكاتب قد خبرها أو عرفها. وبالتالي لا يمكن القول ان شخصية بعينها من الواقع تنتقل كما هي إلى الرواية، هذا صعب. لكن ما أهتم به حقا في طنجة وفي العديد من المدن المغربية واحرص عليه هو زيارة المدارس والتحدث إلى الطلبة الصغار، فهذا من جانب يفيدني كروائي وفهم الجيل الصغير وتطلعاته، كما يمنحني فرصة جيدة لأؤدي دوري ككاتب في محاولة زرع حب القراءة لدى الصغار بل وتشجيعهم على التعبير عن أنفسهم وعلى الكتابة أيضا. والحقيقة ان الفرد يمكنه أن يصل إلى اشياء إيجابية عديدة مع الأطفال، لكن ذلك يكون صعبا مع من اكتمل تكوينهم النفسي والشخصي.

·       هل لديك تجارب في الكتابة للاطفال إذن؟
** نعم، كتبت بعض القصص القصيرة للأطفال، ولدي كتابين أحدهما يناقش موضوع العنصرية كما شرحتها لابنتي وهذا ترجم على نطاق كبير في نحو 40 دولة والثاني كتاب عن الإسلام حيث قدمت شرحا مبسطا للإسلام للطفل بحيث يستوعب جوهر الدين الإسلامي، وقد سمح لي هذان الكتابان فرصة اللقاء بالأطفال، والتجول في نطاق المدارس المغربية وهذا من أهم التجارب بالنسبة لي.
·       هناك بعض من كتبك التي ترجمت للعربية تعرضت لصعوبة الوصول للقاريء احيانا بسبب سوء الترجمة..كيف ترى هذا الامر؟
** الحقيقة أن هذا الموضوع سببه القرصنة التي تعرضت لها من عدد من الناشرين السوريين الذين لم يراعوا أية حقوق أدبية أو مادية، وهؤلاء أساءوا بالفعل لترجمة كتبي. لكن كما قال لي صديق سوري هم لا يحترمون حقوق الإنسان فهل سيحترمون حقوق المؤلف؟ لكن في المقابل هناك بعض اعمالي التي صدرت ترجمتها في لبنان وقد ترجمت بشكل جيد.
·       ألم تحاول مطلقا أن تكتب باللغة العربية؟
** أنا أحترم اللغة العربية جدا، وأعتقد ان اي محاولة من جانبي للكتابة بها سيتضمن قدرا من الغساءة إليها وهذا ما لا ارضاه لا لنفسي ولا للغة العربية، لذلك افضل ان أكتب بلغتي الأجنبية ولا اتعسف على لغتي الأم.
·       لغة السرد في اغلب اعمالك لغة تبدو بسيطة، ولا تتضمن اي قدر من التعقيد بالرغم من أنك تكتب الشعر أيضا؟ هل هذا مقصود من جانبك؟
·       الحقيقة ان الوصول إلى هذا الأسلوب الذي يبدو بسيطا كما تقول هو نتيجة لبذل جهد كبير جدا في اللغة واختيار التركيب المناسب للجملة وتحاشي تعقيد وطول الجملة، لأنني بشكل شخصي أن تعقيد الاشياء هو على العكس ضد العمق.
·       بالرغم من سمعتك العالمية كروائي إلا انك كرمت في المغرب بصفتك شاعرا..كيف تلقيت هذا التقدير؟
** طبعا أنا سعيد جدا بهذا التقدير خصوصا انني بدأت عملي الأدبي كشاعر بالفعل، لكن كوني شاعرا من عدمه فهذا حكم اتركه للقاريء فإذا حكموا علي بكوني شاعرا فسوف يسعدني ذلك، لكني في المقابل وفي الحقيقة لم أقترح نفسي كشاعر. الشعر نوع أدبي بالغ الصعوبة، ولذلك تجد أن الشعراء الكبار في العالم قليلون جدا لذلك يمكنني القول انني أحاول الشعر لكني لست شاعرا.

نشرت في مجلة العربي في مارس 2012
















1 comment:

freebook said...

السلام عليكم
كيف الاحوال؟ ان شاء الله بخير...
دائما اقرأ العربي ومنذ عشرات السنين وبالرغم من انني لا اتفق مع بعض الاراء والطروحات فيها
ولكن مواضيعك القيمة غالبا ما تفق معها...
احيانا انتقد العربي في مدوناتي واعلم ان تصحيح مسارها يحتاج الى ارادة حرة مستقلة غير موجودة
ما هذا الخطأ الكبير في العددين يناير وفبراير من 2012 في عرض كتاب الاسلام السياسي مرتان؟هل عقمت العقول الا هذا الكتاب؟
عموما سررت بأضافتك مدونتك الى المفضلة وسوف ارى عنوانك في تويتر كي اضيفه ايضا كما يسعدني زيارتك لمدوناتي
http://freebook.maktoobblog.com/
او الاخرى
http://openbook-mohaned.blogspot.com.au/

مع خالص تقديري
مهند