Monday, June 6, 2011

في شقة مصر الجديدة



 في شقة مصر الجديدة..محاولة رومانسية لتوأمة زمنين متنافرين!


إبراهيم فرغلي


كنت قررت التوقف عن مشاهدة الأفلام المصرية منذ فترة، بعد أن تلقيت عدة صدمات، من موجة الأفلام الكوميدية الخفيفة التي كادت أن تضرب مجد السينما المصرية بالقاضية، لكن الصدفة وحدها لعبت دورها، وقادتني لمشاهدة فيلم" في شقة مصر الجديدة" لأنني لم أجد الفيلم الذي قصدت مشاهدته يومذاك: وهو فيلم"بانيبال"، لكن رب ضارة نافعة كما يقال، ولعل وجود اسم محمد خان وزوجته السينارست الموهوبة وسام سليمان على الأفيش لعب دورا حاسما في تعديل اختياري باتجاه فيلمهما هذا بنوع من الفضول والأمل. ولم يخب أملي، بل بالعكس، استمتعت بالفيلم كثيرا، إن لم أكن أغرمت به.
"في شقة مصر الجديدة" فيلم يبحث عن توأمة زمنين متنافرين، زمن الماضي الجميل الذي شاعت فيه الرومانسية والقيم النبيلة، وزمن العصر الحاضر الذي تتوحش فيه الرأسمالية على حساب كل القيم. عصر اللهاث والفردية، والعصرية المشوشة بقيم ماضوية. هذه المحاولة للتوأمة بين زمنين من جهة، والبحث عن الزمن الضائع من جهة أخرى، تمثلت في عدد من العناصر تبدأ من فكرة الفيلم وقصته، وتتجاوزها إلى تفاصيل الديكور، والإيقاع، والموسيقى، وكادرات الصورة، وحركة الكاميرا وصولا للأداء المميز لأبطال العمل.
قصة الفيلم تتناول محاولة فتاة بسيطة تدعى "نجوى" – غادة عادل- والتي تقطن إحدى مدن الصعيد (المنيا)، البحث عن مُدرّسة الموسيقى "تهاني" التي كانت تعلمها الموسيقى بالمدرسة في مرحلة الصبا، والتي قررت إدارة مدرسة الراهبات الصارمة، التخلي عن خدماتها لأنهم اعتبروها قد تجاوزت المسموح به لأنها كانت تعلم الفتيات معنى الحب.
دأبت الفتاة، لسنوات، على إرسال الخطابات لمعلمتها على عنوانها في شقة مصر الجديدة لسنوات، حتى بعد تخرجها وعملها بنفس المدرسة التي درست بها، كمدرسة للموسيقى، أيضا، مثل أستاذتها. وتستغل نجوى فرصة وجود تجمع لمدارس الراهبات في احتفال بالقاهرة، فتقرر البحث عن "تهاني" ، لكنها تكتشف أنها تركت الشقة منذ فترة، وأن ساكنها الشاب يحي – خالد أبو النجا- هو الذي كان يتلقى خطابات نجوى ويحتفظ بها دون أن يفهم شيئا عن العلاقة التي تجمع تلك الفتاة بساكنة الشقة من قبله.
تتخلف نجوى عن القطاروترتبك كثيرا لأنها لم تسافر للقاهرة من قبل ولا تعرف فيها أحدا، ويقوم سائق التاكسي عيد ميلاد – أحمد راتب- بتوصيلها إلى سكن مغتربات تديره إحدى السيدات التي تتعامل مع الفتيات كأنهن بناتها – عايدة رياض- وفي القاهرة، وخلال بحثها عن مدرستها بدأب ويقين قوي في وجودها، بعد أن أشاع البعض أن تهاني ماتت، تتشابك الأحداث، وتتعرض لمواقف عديدة مثل مصادفة سيدة تلد في حمام السيدات بمحطة القطار، أو محاولة زميلتها بالسكن للانتحار، وتطور علاقتها بالسيدة مديرة السكن، صاحبة الخبرة والتجارب، وأخيرا تطور العلاقة بينها وبين يحي ساكن الشقة الذي لا يؤمن بالحب ويكتفي بعلاقته بسيدة مطلقة – مروة حسين-هي زميلته في نفس الوقت إذ أنهما يعملان في البورصة، ويتشاركان أيضا في  تفضيلهما علاقة حسية بلا التزامات عاطفية من أي نوع، لكن وجود نجوى في حياته فجأة يقلب كل المعايير.
يبدو الفيلم محاولة لالتقاط العناصر التي تنتمي للزمن الماضي، التي توجد حولنا ولكننا لا نشعر بها من فرط رداءة الواقع الذي يحيط بنا حيث تسود الفوضى والزحام والفساد وغياب القيم والعشوائية وشيوع المظهرية وحساب المصالح. نجوى تجسد نقيض هذا كله، إذ أنها تبدو فتاة من الطبقة الوسطى المحافظة بلا تشدد، البريئة إلى حد السذاجة، التي تؤمن بالحب كإيمان عقيدي يجعلها ترفض الزواج التقليدي السائد في محيطها حتى تتعدى الثلاثين.
ثم يضع الزمنين معا، ليس فقط نقدا للواقع البشع، ولا حنينا للماضي، وإنما إقرار بأن الواقع ما زال يتضمن الكثير مما ينتمي لذلك الماضي، حتى لو بدى خابيا خلف ركام من وحشية الواقع، ما يعني إمكانية استعادة الزمن الضائع. يتجلى ذلك في الكادرات التي تعامل معها خان ببراعة وحتى في الديكور. فشقة مصر الجديدة هي في الأصل شقة قديمة ذات سقف عال، واسعة، تحتفظ بمظهرها الكلاسيكي القديم، وتتكوم فيها آثار تهاني؛ من البيانو العتيق، إلى الأثاث ذي الطراز الكلاسيكي، والصور الأبيض والأسود، باستثناء غرفة النوم التي تبدو كأنها المكان الوحيد الذي ينتمي له الساكن الجديد، فهي غرفة عصرية، بأثاث مودرن ذي خطوط حادة، بلا زخارف من أي نوع، يطغى عليها اللون الأحمر في لون الحائط وأغطية الفراش، والإضاءة العصرية، بقعة مفصولة زمنيا عن الزمن الذي تنتمي له الشقة، وساكنتها القديمة. وعادة ما يبدو يحي، في مشاهد وجوده مع عشيقته داليا، داخل كادر محدود بأطر خانقة لا تتجاوز مساحة مدخل باب الغرفة، أو بمدخل باب الحمام، أو حتى بمساحة المرآة الطويلة المواجهة للسرير. بينما الكادرات التي تجمعه مع نجوى عادة ما تكون كادرات واسعة في الفضاء الخارجي، في الشوارع، وعلى دراجته البخارية.
كما أن حركة الكاميرا أثبتت تميز مديرة التصويرنانسي عبد الفتاح. باختيار الكادرات بالشكل السابق الإشارة إليه، وأحيانا بالتصوير من زوايا عليا لإحتواء المجموعة كما في المشاهد التي تجمع الفتيات في سكن المغتربات، أو بحركة الكاميرا، التي تختار أكثر من كادر في المشاهد التي تجمع البطل بالبطلة، وحتى إذا اجتمعا في مكان مغلق مثل أحد المطاعم، فالكاميرا تتحرك بزاوية 180 درجة لنرى بروفيلهما في لقطة، ثم نرى الجانب الآخر من بروفيلهما في لقطة تالية، مما يعطي المشهد نوعا من الحيوية، ويسهم في تأكيد إيقاع الفيلم (المونتاج لدينا فاروق) الذي يخطف المشاهد ولا يوقع به في أسر الملل، رغم أنه فيلم ناعم وبسيط.
من عوامل حيوية الفيلم على مستوى الإيقاع هو أيضا إثارة بعض الأجواء الشبحية والغموض بالأصوات الغريبة ومشاهد للعمارة من خلفيتها ليلا،وانقطاع الكهرباء أو توقف الموسيقى بلا مبرر، من خلال مفارقات تلعب على توهم البطل أن تهاني قد ماتت وأن شبحها موجود في الشقة، إضافة لتراوح أجواء سكن البنات بين الميلودراما واستعادة البهجة من تفاصيل الحياة البسيطة للفتيات .
غادة عادل في هذا الفيلم تتألق، وتتفوق على نفسها، ببلوغها حالة من النضج تجب عنها الأداء الضعيف والمراهق الذي اتسمت به منذ ظهورها على الشاشة، بالشكل الذي يذكرنا بتألق نجمات كثيرات بعد مرحلة كن يحاولن فيها اكتشاف ذواتهن، مثل نجلاء فتحي، على سبيل المثال، فقد لبست الشخصية تماما، وأقنعتنا بأنها تلك الفتاة المنياوية، البريئة التي تشعر بالذنب تجاه معلمتها لأنها أثرت فيها وجعلتها تتلقى قبلة من فتى في عمرها واكتشف أمرها وحدث ما حدث. الطريقة التي تتحدث بها ومشيتها، ووجهها الخالي من المساحيق على امتداد الفيلم، وتهدل كتفيها، ونظرات عينيها، جاءت كلها على نفس مستوى استيعابها النفسي للشخصية. وفي مستوى تال أكد خالد أبو النجا موهبته وقدرته على التنوع, وإبراز قدرته على الأداء السهل الممتنع في هذا الدور، ولم يقل مستوى عايدة رياض وأحمد راتب عن ذلك في حدود مساحة دوريهما، كما أضفى يوسف داوود( لعب دور صاحب العقار وعشيق قديم لتهاني) حالة من البهجة، وأضاء بعض المشاهد بحيويته ومحاولة الابتعاد عن نمط شخصيته المعتاد. كما تألقت مروة حسين في دور العشيقة التي ترفض الارتباط بميثاق الزواج بعد فشل زواجها، ثم وقوعها أسيرة فكرة الإنجاب على حساب أي شيء آخر.ولا شك أن كل ذلك يعود لتوجيهات المخرج المخضرم محمد خان .
  اللافت هنا أيضا أن وسام سليمان أكدت موهبتها مرة أخرى بشكل يقربها كثيرا النجومية، في مناخ طغت عليه كتابات تتنازل للمنتجين تطوعا تحت دعوى أن "الجمهورعاوز كده" وقدمت المعادلة الصعبة، رغم أنها لم تكتب قبل هذا الفيلم سوى فيلمين فقط هما "أحلى الأوقات" وبنات وسط البلد"، كما بدا حرصها على التفاصيل (ربما باستثناء القصور الذي شاب تفاصيل خلفية كل من يحي وداليا عشيقته)واختيار الأغنيات المعاصرة ببراعة، والابتعاد عن النمطية واختيار نهاية مختلفة،  إضافة إلى الكثير من اللمسات التي أعطت للفيلم خصوصيته، التي أكدتها في نفس الوقت موسيقى تامر كروان. هذا الفيلم أشاع في قلوبنا الأمل، ليس على مستوى الحياة اليومية فقط، وإنماعلى مستوى مستقبل صناعة السينما المصرية أيضا وبالأساس.

نشرت في النهار اللبنانية في 2007

1 comment:

Michel Hanna said...

مقال رائع وفيلم رائع
يا أخي حتى اسم الفيلم حلو!