Wednesday, October 20, 2010

الزمان والمكان على الإنترنت


الزمان والمكان على الإنترنت



هل هناك شكل للزمن؟ وهل تغيرت علاقتنا بالمكان بعد ثورة الاتصالات الراهنة؟ الإجابة هي نعم، بالتأكيد، بل إن ثورة الاتصالات ومن بينها شبكة الإنترنت، وبرامج المحادثة والبريد الإلكتروني، تسهم الآن في تغيير شامل لمعنى الزمن والمكان، وانضغاطهما، إذا صح التعبير، بما يؤدي إلى تكون نسق جديد لصيغ من العلاقات بين الناس، وبين الحكومات، ورأس المال، ولتولد قيم جديدة، وطرق تفكير مختلفة.



وصحيح أننا، في عالمنا العربي، لم ننشغل كثيراً بالبحث في معنى الزمن، والاكتفاء بالمعنى المباشر له، بوصفه نتيجة لحركة الأرض حول القمر والشمس، وما ينتج عنها من تعاقب لفترات زمنية مقسمة بين الليل والنهار، واعتباره مساحة خطية لها مسار واحد، ربما باستثناء بعض تجارب الفلاسفة المتصوفة، وبعض الروائيين الذين تناولوا مفهوم الزمن فلسفياً، ولكن بلا كثير من العمق. لكن الفلاسفة في الغرب التفتوا لمفهوم الزمن، منذ استيعابهم لمفاهيم واكبت نهضتهم، وخاصة مفهومي الحداثة وما بعدها، وشاركوا في إنتاج أفكار كثيرة حول الزمن، كفلاسفة ومفكرين، في محاولاتهم لفهم التغيرات السريعة للحداثة، وانتقلت أفكارهم إلى أعمال الأدباء، والفنانين التشكيليين، وغيرهم.



في كتابه البديع «حالة ما بعد الحداثة» يشير المفكر الأمريكي البارز ديفيد هارفي إلى عدد من أفكار الفلاسفة الذين حاولوا تقديم معان مختلفة للزمن وعلاقته بالمكان، فيشير إلى الفيلسوف الفرنسي باشلار الذي يقول: «نحن نظن أننا نعرف أنفسنا بينما كل ما نعرفه هو تعاقب إشارات ثابتة في أمكنة مستقرة». والذكريات «هي نفي الحركة، وهي بمقدار ما تكون أشد ثباتا في المكان، تغدو أوضح وأصدق صوراً». ثم يشير إلى قول الفيلسوف الألماني هايدجر «يحتوي المكان على زمن مضغوط، وتلك هي وظيفته»، ثم يقول إن البيت هو المكان الأكثر حميمية للذاكرة محيلا، مرة أخرى إلى هايدجر: «الوجود هو في ذاته قيمة، فالحياة تبدأ سهلة، مقفلة محمية، مع كل دفء البيت.. وفي ذلك المكان البعيد تعيش ذاكرتنا وخيالنا، معا وباستمرار، يتساقيان الكأس نفسها، ويمعنان فيها اتساعا عبر الأحلام وعبر كل مكان».



ولتوضيح بُعد آخر لتغير معنى الزمن في العصر الحديث يشير هارفي إلى أن «اللحظات» هي «عناصر الربح»، وبالتالي فإن السيطرة على زمن عمل الآخرين هي التي تعطي الرأسماليين القدرة الأولية على امتلاك الربح لحسابهم، والصراعات بين أصحاب قوة العمل وأصحاب رأس المال على استخدام الزمن وشدة العمل كانت باستمرار مرضا مستوطنا.



وهناك مثال آخر يضيفه مستلهما إياه ممن يسميهم بـ«الجمهور الثقافي» الذي يعرفه هارفي نقلا عن الكاتب دانيال بل قائلاً: «هم ناقلو الثقافة وليسوا مبدعيها، أولئك الذين يعملون في التعليم العالي، والطباعة، والمجلات، ومحطات الإذاعة، والمسرح والمتاحف، والذين ينظمون ويؤثرون في تلقي المنتجات الثقافية الرصينة. وهم بحد ذاتهم يكفون لتكوين سوق للثقافة، والكتب، والأسطوانات الموسيقية..»، ويقول هارفي إن هذه الصناعة بكاملها إنما هي مكرسة لتسريع زمن عائد الربح عبر إنتاج وتسويق الصور. هي صناعة تكتسب فيها السمعة، أو تفقد، في ليلة واحدة.



هذه الصناعة، هي واحدة من صناعات أخرى، تعتمد في استمرارها على تثبيت مفاهيم مثل الموضة والصرعات، وهي بذلك تنتج على نحو فعال ما هو آني وقابل للتلاشي والذي كان دائما أمراً أساسياً في تجربة الحداثية.



بهذه المعاني يصبح لشكل وقيمة الزمن نسق يختلف عن النسق التقليدي، وكلما ازداد المجتمع حداثة انضغط فيه الزمن.



وينطبق الأمر أيضا على فكرة المكان، فقبل أن يتمكن الإنسان بفضل الكشوف الجغرافية من رسم الخرائط، كان المكان أكبر بكثير من تصورات الإنسان، وخياله، وكان الإحساس بفكرة العالم، والأجزاء الغامضة فيه وغير المسيطر عليها كبيراً، ولعل ذلك كان ملهما دائماً للأساطير والخرافات، تماما كما تشيع الآن الخرافة والخيال عن العوالم الموجودة في الفضاء الخارجي الذي لم نصل إليه بعد.



ولكن بعد رسم الخرائط أصبحت سلطة الدول مقترنة بامتلاك الخرائط، والآن، بعد وجود موقع مثل Google Earth ، الذي يتيح لنا رؤية مصورة وواقعية لأي بقعة على الأرض، أصبحت التكنولوجيا وتقنية الاتصالات هي الوسيلة الأقوى الآن للسلطة.



وبفضل الستالايت، شاعت القنوات الفضائية، أيضا، وأصبح بالإمكان متابعة أماكن كثيرة من العالم في وقت واحد، وبحيث تم اختزال المكان إلى مجموعة من الصور، إلا أن هناك ثمة مشكلات ليست هينة، نتجت عن فكرة التسارع الزمني، وتعدد الصور، وتعقد الحياة، وبينها، وفقا لهارفي، إنها تنشئ أسئلة عن معنى ما يتغير وتفسيره.



في هذا السياق يمكن أن نتأمل كيفية تحول وسيط إلكتروني مثل «الفيس بوك» مثلاً من مجرد كونه وسيطاً اجتماعياً للاتصال، وتبادل الخبرات والتعليقات، بحيث أصبح «مكاناً افتراضياً» يمنح المتعاملين معه إحساساً ما بالأمان، ويحد من إحساس العزلة التي ترتبت على الوضع المعقد شديد التغير في العالم الواقعي. وهذا جانب واحد من الجوانب المتعلقة بالفيس بوك والذي سنتعرض له بالتفصيل في هذه الزاوية، لكنه أيضاً، أصبح يقدم شكلا جديدا للزمن، ففي زمن «الفيس بوك» أصبح ما كان مستحيلا أن يحدث قبل مرور أيام، وربما أسابيع، يحدث الآن بـ «ضغطة زر».



الحقيقة أن الإنترنت من جانب كونه أحد عناصر، تسريع معدلات الربح من قبل الرأسمالية التي وازت بين اللحظة، باعتبارها وحدة إنتاج، قد أدى إلى مرحلة مكثفة من ضغط الزمن، وهو ما أحدث آثارا هائلة، بعضها تضليلي، لعل أبرز ظواهره ما تعرض له اقتصاد العالم من انهيار، إثر توعك الاقتصاد الأمريكي، كما أن لضغط الزمان والمكان، كان له أيضا وقع تضليلي على الحياة الثقافية والاجتماعية، وعلى توازنات، العلاقات الطبقية، وهذا كله مما ينبغي أن نقرأ عنه بحوثا عميقة من قبل المتخصصين في هذه المجالات، ولم يعد هذا ترفا بقدر ما هو ضرورة واجبة الآن وهنا.



«الفيس بوك».. مكان افتراضي له زمنه الخاص.

كثيرة هي الآراء والتحليلات التي تناولت «الفيس بوك»، واللافت أن العديد من تلك التقارير، وبعضها ترجم عن الصحف الغربية، التركيز على «الفيس بوك» بوصفه أداة تستخدمها الأجهزة الأمنية في تعقب الأفراد، وقد يكون ذلك صحيحا، فيما يتعلق بالأفراد الذين يستغلون «الفيس بوك» بالفعل في أي نشاط يستحق التعقب، خصوصا الأعمال الإرهابية التي تعد السبب الرئيس لأفكار من هذا النوع.



لكني، بالرغم من ذلك، أرى أن هناك مبالغة في هذا الشأن من قبل الذين تناولوا الموضوع، خاصة أن الزاوية التي يتناولها الغرب في الموضوع مختلفة تماما، لأنها تدان من قبل الأفراد الذين يتمتعون بالفعل بكامل حرياتهم الشخصية، والعامة، ويتمتعون بكامل حقوق الإنسان المكفولة في الدساتير والمواثيق الدولية، وبالتالي فإن أي تعارض مع هذه الحقوق يدخلهم معارك كبيرة مع الحكومات التي تحاول الموازنة بين الالتزام بالدساتير، وبين تركيز الجهد على مكافحة الإرهاب، والموضوع بالمناسبة، محل جدل واسع في بريطانيا الآن بالفعل، بعد اقتراح بتسجيل بيانات كل الأشخاص المتعاملين على «الفيس بوك» في بريطانيا بشكل مركزي، وهو ما يلقى معارضة شديدة من قبل الأفراد والصحافة، بينما الموقف عربيا ليس على هذا النحو.



أما الأمر الثاني في الموضوع فهو أن الغالبية العظمى مما يتداول على «الفيس بوك» لا يتعدى التحيات وتعبير الأفراد عن حالاتهم المزاجية، أو الانطباعات والاخبار، وتبادل التهاني في المناسبات، مما لا يمكن لأي جهة أمنية أن تجد فيها ما يجدي، مع التأكيد على أن انتهاك أي حق من حقوق المواطن في الخصوصية هو بالتأكيد مرفوض، خاصة إذا ما تنافر مع حقه المنصوص عليه في دستور بلاده، فليس في هذا أي مجال للنقاش، فالأجدى هنا هو المطالبة بإلغاء القوانين الاستثنائية في الدول العربية التي تفرض حالات الطواريء وما شابه.



ما أقصده أن هناك تركيزاً على هذا الموضوع في بعض الصحف العربية، بالرغم من أن هناك الكثير من الزوايا التي تلفت الانتباه أكثر.



على سبيل المثال أعتقد أن إحدى الزوايا المهمة في تناول موضوع «الفيس بوك»، والتي لم يلتفت إليها كثيراً هو موضوع التغير المكاني والزماني والاجتماعي الذي أحدثته هذه الوسيلة الافتراضية للاتصال بين الأفراد في العالم.



فقبل نحو عشرين عاماً تقريباً، لو افترض وجود ثلاثة أصدقاء فرقت بينهم الجغرافيا، وارتحل كل منهم إلى بلد ما، فهم قد يستمرون لشهور بلا اتصال، وإن حدث، وكتب أحدهم رسالة للآخر، فقد يستغرق زمن وصول الرسالة والرد عليها ما يزيد على أسبوعين على أقل تقدير. الآن يمكن أن يحدث هذا الاتصال في أقل من بضع ثوان، وبين الأطراف الثلاثة معا، بل وبين العديد من الأطراف الذين يتفرقون في أنحاء شتى في العالم. وهذا تغير كبير في تقييم الزمن.



هناك زاوية أخرى، تتعلق باستعادة «الفيس بوك» لحالة من التضامن الجماعي، أو الإحساس بالجماعية على نقيض الحس الفردي الذي شاع مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، سواء في أشكال العزلة التي يعيشها الأفراد في مجتمعات سكنهم الجديدة، لا يعرف الجار جاره، أو على مستوى إحساس كل فرد بفرديته، وبانقضاء زمن المشروعات الجماعية، وصولا للأدب والفن الذي جسد هذا الشعور عبر نصوص وجودية ذاتية، تهتم بدواخل الأفراد أكثر بكثير من اهتمامها بالحالات الجماعية.



في ظل تعقد الحياة بسبب اضطرار الأفراد للعمل في أكثر من مكان، وبسبب الزحام، والشروط الرأسمالية الجديدة التي تريد أن تحول وقت الفرد إلى زمن عمل، الأمر الذي أثر في العلاقات الاجتماعية بين الأصدقاء وحتى على العلاقات في محيط العائلة، لكن الفيس بوك تحول إلى مكان افتراضي يمكن الأفراد من استعادة علاقاتهم، على البعد، وصنع حالة افتراضية يبدون معها وكأنهم يعملون في مكان واحد، مفصول، أو يعطي الأهل والأقارب الذين تفرقوا، الشعور بأنهم يعيشون في مكان واحد، افتراضيا، مادامت ظروف الواقع أدت إلى تفرقهم جغرافيا في مساحات شاسعة ومترامية.



وهناك، أيضا، على سبيل المثال، مجموعات جديدة تنشأ على الفيس بوك الآن، تبدو وكأنها استجابة للحنين لأماكن النشأة الأولى، فهناك بعض المجموعات التي ينشؤها أفراد ينتمون إلى حي معين عاشوا فيه طفولتهم وشبابهم، وارتحلوا لظروف العمل أو غيرها، لكنهم سرعان ما يستقطبون أغلب من عاشوا في المكان، ويستدعون معا ذكريات المكان لدى أكثر من جيل. وهو ما يقدم وثائق مهمة في استعادة ذاكرة مكان بعينه.



وبينما قد يفتح شخص صفحته الشخصية في «الفيس بوك» إلا ويفاجأ بطلب صداقة من عزيز كان قد فقد كل سبل الاتصال به منذ سنوات، وبعدها مباشرة لقطة من فيلم أرسله له صديق، أو فقرة مسجلة من برنامج تليفزيوني، أو أغنية مصورة لمطرب عالمي، مما يعطي طابعا اجتماعياً، لا يخلو من تبادل الأذواق والمشارب والمعارف وهو ما يكاد يكون متفرداً بين كل المواقع الإلكترونية التي لها هذا الطابع.



هناك الآن أيضاً العديد من المجموعات التي تنتمي لدار نشر مثلا، تضمن أن تعمم على أعضاء المجموعة أخبار ما ينشر في دار النشر أولا بأول، وبذلك يضمن الأفراد زيارة المكتبة، بينما هم لا يبرحون أماكنهم على شاشة الإنترنت، وهذا أيضا متغير جديد في علاقة الفرد بالمكان، بحيث لم يعد مضطرا لأن يقطع عشرات أو مئات الأميال ليتعرف على محتويات مكتبة ما، فأصبحت هي التي تتحرك، افتراضيا، باتجاهه.



كما أصبح «الفيس بوك» مكانا للدعوة إلى الكثير من الندوات والاحتفالات، وكذلك العروض الموسيقية والفنية، مما يجعل منه موقعا دعائيا لا توفره العديد من سبل الدعاية الأخرى، وأيضا يمكن من خلال الجماعات الخاصة بالكتاب العالميين، والفنانين، والأفلام، وغيرها أن يمثل الفيس بوك مصدراً ثقافياً لا يستهان به، فهناك مثلا جماعة لمحبي أعمال نجيب محفوظ، تتضمن بعض المعلومات الأساسية، لكنها أيضا تتضمن مناقشات الأعضاء حول الكاتب والأعمال، وهناك عشرات المجموعات الشبيهة، التي لا يشترط أن تكون حول كاتب رصين فقط، فهناك تجمعات للمعجبين بنجمات سينما عالميات، وعربيات، من الأجيال كافة، ولنجوم السينما أيضا، ولكتب بعينها أو أفلام سينمائية أو مسرحية، وغيرها، مما يجعل من الفيس بوك مكتبة افتراضية، أو موقعا افتراضيا يشبه المنتديات وهذا كله يمثل تغيرا مكانيا في مفهوم المكان الثقافي، ولا شك أنه سيكون ذا تأثير مختلف على مدى سنوات قليلة مقبلة.



«الفيس بوك» هو نموذج للتغيرات الزمنية والمكانية التي يمر بها المجتمع الحداثي، ولعله يمكن أن يكون أحد المواقع الافتراضية الأكثر تأثيراً في العلاقات الاجتماعية، وربما السياسية، العربية في المستقبل القريب.



«جوجل إيرث».. العالم مصوراً على مرمى الشاشة

يقال «الحاجة أم الاختراع»، وهذا صحيح، وقد كان لحاجة رأس المال لتجاوز حواجز المكان دور أساسي، في إنجاز بالغ الأهمية للبشرية وهو الخرائط الجغرافية. فالرأسمالية، التي تمتلك الأموال وتريد زيادة استثماراتها اكتشفت أنها لا يمكن أن تتجاوز حدود المكان إلا من خلال إنتاج أمكنة أخرى، وبالتالي شرعت في البحث عن وسائل النقل، مثل السكك الحديدية والطرق السريعة، والمطارات ومحطات الاتصالات.



وكانت هذه النقلة في اكتشاف المكان محفزا لمحاولات أولية لرسم الخرائط التي كانت بداية عصر النهضة في اكتشاف العالم الجديد، ورسمه، لترسيم الحدود السياسية، وتحديد ملكية الأراضي الزراعية، وما شابه.



وفي صراع الحضارات لاكتشاف العالم الجديد، كان السبق لمن يمتلك الخرائط، أي من يمتلك صورة العالم.



وبهذا بدأت قوانين جديدة للسلطة وامتلاك القوة، بلغت اليوم ذروتها في إمكان تصوير الكرة الأرضية كلها بفضل الأقمار الصناعية، وإتاحتها لمن يرغب من مستخدمي «أجهزة الكومبيوتر»، على برنامج Google Earth، حيث يمكننا كتابة إسم بلد، أو مكتبة، أو شارع، أو حتى عنوان الشارع الذي نقطن فيه ليظهر لنا في لحظات مصورا بدقة شديدة.



إذا حاولنا أن نفهم هذا التغير التقني ومعناه في تغير إحساسنا بشكل المكان، يمكن أن نصوره في تخيل شكل العالم مرسوما على خريطة بمساحة هائلة في فترة مثل القرن التاسع عشر حيث لم نكن قد عرفنا الطائرات بعد، ولم تكن القطارات قد أصبحت سريعة، بل وفائقة السرعة، مثلما هو الأمر اليوم، وبمرور الوقت أصبح تخيل الكرة الأرضية أصغر وأصغر حتى أصبحت في تصورنا الآن أشبه بحجم كرة صغيرة جدا، خاصة بعد أن ارتاد الإنسان الفضاء، واخترع القمر الصناعي، وها هو قد أصبح قادراً على رؤية كل حي وزقاق وشارع في العالم عبر برنامج كمبيوتر.



وبهذا يقدم لنا هذا البرنامج نموذجاً مثالياً لفكرة انضغاط المكان، الذي كان له العديد من التأثيرات الثقافية والاقتصادية والسياسية. وعلى المستوى الثقافي مثلا سنجد الآن أن هذا التصور المكاني الجديد قد تغلب على الإحساس بفكرة النظر إلى الأماكن المجهولة من العالم كأنها أسرار غامضة، وكانت محلاً للخرافة، ولم يعد هذا وارداً الآن، ويمكن أيضا أن نتأمل كيف أن معرفة العالم بهذا الشكل المحدد قد أثارت صرعة معمارية أدت إلى إنشاء أحياء، بل ومدن كاملة تكاد العمارة تتماثل فيها جميعا، وفقدت الخصوصية التي كانت تقوم على فكرة إحساس المعماري بخصوصية المكان الذي ينتمي إليه.



وكما يقول ديفيد هارفي «لقد غدت الخرائط، وقد جردت من كل عناصر الخيال والاعتقاد الديني، ومن كل إشارة للتجارب التي استخدمت في وضعها، أنظمة مجردة ووظيفية ودقيقة تستخدم في إدارة واقعية لظواهر المكان. لقد أتاح علم الاسقاط الخرائطي، وتقنيات المسح التفصيلي للخرائط أن تقدم رسوما ذات دقة رياضية عالية. فقد عينت على نحو متزايد من الدقة حقوق الملكية في العقارات، وحدود الأراضي، ومجالات الإدارة والحكم الاجتماعي، وطرق التواصل وسواها».



وبالتأكيد يمكن القول إن الإنجاز البشري في تعيين الزمن والمكان بالشكل الذي وصلت البشرية إليه اليوم بفضل الستلايت، والتلسكوب ومنجزات مثل الفيمتو ثانية، وما سوف يستجد، هي في الحقيقة، إنجازات شكلت إحساساً عارماً بالمقدرة على التحكم بالمستقبل.



وهذا هو فضل العلم، إنه يجعل الإنسان قادراً على مواجهة المستقبل، أما العكس فلا يؤدي إلا إلى تزايد إحساس الإنسان بالضعف تجاه العالم، وإلصاق الخرافة بكل ما يبدو له غامضاً، يبحث عن ماضٍ سحيق بعيد يتشبث به كملاذ آمن خوفاً من الجديد، وخوفاً من المستقبل، ولعله بعد سنوات أخرى قد لا تكون بعيدة سيكون مكانه جحراً آمناً داخل أحد الكهوف، لا يدرك أن كاميرات الستلايت العملاقة تصوره في جحره وتبث صورته لعالم يبحث عن المستقبل.





إبراهيم فرغلي

نشرت في باب ثقافة إليكترونية "مجلة العربي" العدد607














































































No comments: