Sunday, June 1, 2008

مقامـــرة روائية


"إني أحدّثك لترى" لـمنى برنس
! مقامرة روائية جرأتها مكسب وخسائرها ليست هيّنة
بغض النظر عن التنظيرات للنص التسعيني من دون أن تقرأه، أعتقد أن نص "إني أحدثك لترى" للكاتبة المصرية منى برنس هو نص تسعيني بامتياز. وعلى الرغم من أن لغته تعتورها سمات تجعلها "عادية" وتفتقر الى أي جهد في تخليق لغة تليق بالسرد كما هو شأن كل كاتب حقيقي، فإن الرواية تضم في المقابل عددا من الملامح تكرس النص التسعيني، وتضيف إليه.الرواية الصادرة حديثا عن "دار ميريت للنشر" في القاهرة، تجسد نصاً ما بعد حداثي، من جهة كونه ينحو نحو النسبية وينفر من المطلقات. كما أنه يعتمد أسلوبا مضادا للبناء التقليدي للرواية، فهو يدخل "تفاصيل عملية الكتابة" في نسيج السرد كاشفاً أسئلة الراوية عن معنى الرواية، ومدى أهمية التقيد بأسس البناء التقليدي من عدمه، بحيث أن الكتابة تبدو أقرب الى مغامرة فنية تخوضها الكاتبة، خطوة بعد أخرى، من دون أن تعرف إلى أين يقودها السرد."يعنيني الآن أن أقامر في الكتابة كما قامرت في الحب: بجرأة أشد، سأعربد في الكتابة مثلما أعربد في الحب"، تقول عين الساقي، الراوية، والكاتبة الافتراضية، كاشفة عن النهج الذي سيسير عليه النص، حتى بعد أن تساورها الشكوك حول إمكان تطوره. "سأستكمل الكتابة مثلما يتراءى لي الآن. وإن لم أفلح في كتابة نص سردي شيّق فليعذرني القارئ، سأعيد الكتابة في شكل أقرب إلى قصيدة نثر مطولة".المثالب تشوب النص، مثل هلامية شخصية الراوية التي لا نعرف عنها شيئا سوى أنها باحثة اجتماعية لا تحب عملها، وتعيش مع جدتها الروسية ذات السبعة وتسعين عاما، تقول: "عين امرأة في منتصف العمر تقريبا، ملامحها مصرية جدا ودائمة الفخر بأنها من نسل الفراعنة، باحثة اجتماعية لا ترى جدوى من أبحاثها. وتريد أن تحب". أما البطل فهو "رجل تعدى منتصف العمر، من دولة عربية شقيقة، أجداده من البربر، صحافي يمثل بلده لفترة موقتة في مصر، وحتى هذه اللحظة لا يعرف ماذا يريد. ويعيش اليوم بيومه". على الرغم من ذلك تنجح الكاتبة في نص مشوق عماده قصة الحب بين الراوية-الكاتبة، والبطل المشار إليه. ويقدم النص قصة الحب هذه بلا ميوعة عاطفية من أي نوع. إذ تحكي الراوية عين، حبها للرجل الذي جعل منها امرأة بحياد آسر، وبنبرة إنسانية وصدق فني عال، تعبّر عن أعمق مشاعر الحب، التي تقارب التعبد، وأعمق المشاعر الحسية، وتلقي القفشات، وتبكي، بتلقائية مدهشة، بل وتلقي بنفسها في أحضان رجال آخرين، لكن بلا أي افتعال، أو محاولة للاستعراء الروائي. بالعكس، فالسرد يحافظ على نبرة "الصدق الفني" على امتداد النص، بالشكل الذي يجعله حالة استثنائية في النصوص السردية التي كرِّست لقصص الحب في السرد المعاصر. أهم سمات هذا العمل، إضافة الى صدقه، الجرأة الشديدة، وهي ليست في تناول الوصف الجنسي أو في تعدد علاقات الراوية، إنما في الطريقة التي تسرد بها الراوية هذه الوقائع، بلا رقابة ذاتية، وبلا افتعال، فكأنها تحكي عن حدث آخر عابر، مما هو مبذول ومطروق من شؤون الحياة.مع تقدم النص، تظل اللغة سلبية، إضافة إلى افتقار السرد إلى المبررات السيكولوجية والموضوعية التي توضح كيفية انتقال الراوية من مستوى وعي المرأة التقليدي، المؤسس على الأفكار الأخلاقية الإزدواجية، للطبقة المتوسطة، إلى وعي المرأة المتجاوزة أفكار المجتمع الشرقي التي تتعامل في الحياة بندية حقيقية وترفض الأفكار البورجوازية التي تضفي شبهة الامتلاك على العلاقات، فترفض الزواج والانجاب، وحتى التورط في علاقة عاطفية قد يفهم منها الرجل أنه يمتلكها. صحيح أن النموذج الذي تعبّر عنه الرواية لم يعد أعجوبة، ويعبّر عن نسيج واسع من طيف المرأة العربية، لكنه نموذج مسكوت عنه في النص المعاصر، لأسباب ليس هنا مجال تعدادها، وإن كانت تصبّ في مجال السمات العديدة للمجتمع العربي الذكوري. وتالياً كان من المهم توضيح التطورات السيكولوجية التي مرّت بها شخصية الراوية.تقدّم الرواية علاقة حب استثنائية في السرد المعاصر، متخلصة من أغلب القيود التي تحيط بالرجل والمرأة الشرقيين، كما تقدم نموذجا لامرأة تتعامل مع جسدها بلا تعقيدات، عن وعي حقيقي بأنها تمتلكه، وليس هو الذي يمتلكها، ساردةً العديد من العلاقات العابرة التي تمرّ بها الراوية في أوقات تأزم علاقتها الرئيسية، مع صبي من سيوة، ثم مع عدد من الأجانب في رحلة قطعتها من سيوة حتى الجزائر في الصحراء، كأنها تتعمد أن تؤذي نفسها نكايةً بعشيقها الذي يبدو أنه يفكر في أن يتحرر من علاقتهما. وعندما تتوقف لتسأل أسئلة عن جدوى علاقاتها العابرة من فرط ألم الخواء الذي يعقب كل تجربة، لا تتوقف كثيرا أمام الإجابة إذ ترى أن ذلك، على الأقل، أقل وطأة من الشعور القاسي بالوحدة. لذلك، ومرة أخرى، لا تتردد أن تلقي بنفسها في أتون علاقة غريبة مع شاب كورسيكي تلتقيه صدفة في رحلة أخرى إلى سيناء، فتفتتن به، على الرغم من عدم تكافؤهما الاجتماعي والفكري، وتجد في علاقتها به إرضاء للجانب الوحشي من نفسها، وتستجيب ممارساته الشاذة لـ"التعرف الى الألم الداخلي". لكن يظل اللافت هو الطريقة الحيادية التي تصف بها الراوية كل تلك المشاهد كأنها تحكي عن جسد لا يخصها.أما السؤال الأخلاقي الوحيد الذي تتلقاه عين حول طبيعة حياتها فيأتي من شخص أجنبي؛ مثقف من النمسا، تلتقيه صدفة، ويمارسان الحب، لكنهما يختلفان فيعايرها بأنها "امرأة لليلة واحدة" فتردّ عليه بالقسوة نفسها عن عهر الرجل الذي لا يحاسبه عليه أحد، كاشفةً أزمة المفاهيم الأخلاقية في عصر العولمة.يتضمن السرد، أيضا، دفقا عاطفيا يتسرب بين ثناياه مكوّناً حالة من الصوفية تسم بها الراوية مشاعرها تجاه عشيقها، في مستويين: الأول يأتي من الحكي عن تطورات العلاقة، وخصوصاً في فترات تأرجحها، حين تعرف الراوية أن الراوي سيتزوج امرأة من بلده، أما المستوى الثاني فيتدفق في مقاطع سردية شعرية، تجرح حداثة النص، لكنها تتسق مع منطق السرد، كـ"مقامرة" روائية. في النهاية تبدو الرواية كأنها ثمرة هذه العلاقة، كأنها الطفلة التي كانت تتمنى عين أن تنجبها من عشيقها، لكنه رفض، فأنجبت هي هذه الرواية، كما تعترف هي في كلمة على ظهر الغلاف.الصدق الفني الذي يميّز هذا العمل، ونبرته الإنسانية، وجرأته، عناصر كفيلة أن تمنحه امتياز الجودة، لكن مثالب اللغة، والشخصيات الهيولية التي كأنها قادمة من عدم، وبلا تطور، قد تجعله عملا مبشّرا، ومقامرة قد تعادل مكاسبها خسائر لا يستهان بها
.
إبراهيم فرغلي
هذا المقال نشر في (النهار) اللبنانية 31 مايو 2008

No comments: