Monday, October 20, 2014

الاقتتال والعنف في غياب العقل والمنطق

ثقافة الكترونية

الاقتتال والعنف في غياب العقل والمنطق
هل تنجح الإنترنت في نشر الاهتمام بالفلسفة؟

إبراهيم فرغلي




هل ثمة علاقة بين اختفاء الفلسفة من تفاصيل الحياة اليومية وبين ما يشهده العالم اليوم من جنون الاقتتال المذهبي والقومي في مواقع عديدة من أرجاء العالم، ومشاهد العصور الوسطى المستعادة للقتل على المذهب والخلاف العقائدي، وصولا إلى العنف لأسباب عنصرية ليس فقط في مجتمعاتنا العربية بل حتى في بعض معاقل الديمقراطيات الغربية مثل الولايات المتحدة؟

ورد السؤال إلى ذهني حين كنت أقرأ مقالا لأحد الفلاسفة البريطانيين، وهو نيكولاس ماكسويل،  يرى فيها أن الفلسفة تعرضت للتهميش بسبب الفلاسفة أنفسهم، وبسبب تقاليد تم توارثها عبر سلسلة العائلة الفلسفية العريقة أدت إلى تشكيل نظام أكاديمي وتعليمي عالمي وسم الفلسفة وجعل منها مجالا منغلقا، مقصورا على نخبة الفلاسفة والاكادميين المختصين وتلامذة الفلسفة.

لكن سؤالا آخر وثيق الصلة بالمسألة أظنه يفرض نفسه على الفور، ويتعلق بالوسائط الافتراضية الجديدة ودورها في عزل أو توسيع دائرة الاهتمام بالفلسفة في ظل عصر تكنولوجيا الاتصالات والعولمة الرقمية. ومدى وثاقة علاقة الفلسفة بالعلوم التقنية من جهة أخرى.

في المقال المشارإليه لنيكولاس ماكسويل، وهو أكاديمي بريطاني درس علوم الفلسفة في الجامعات البريطانية لمدة تزيد عن ثلاثة عقود، يقول أن هناك اليوم ما يمكن أن نسميه "فلسفة رديئة"، فهو يعتقد أن المؤسسات الأكاديمية عملت على ترسيخ فكرة "المعرفة من أجل المعرفة" فيما يتعلق بالفلسفة، وفي المقابل نسيت أو تجاهلت تلك المؤسسات أن الهدف الرئيس من المعرفة هو تحقيق الرفاهية للبشرية، وبالتالي فعندما تنتهي مرحلة ما من المعرفة النظرية فلا بد من أن يتم تطبيقها او الاستفادة منها في الواقع الاجتماعي للبشر، وهذا ما لم يحدث.

كأن ما يقوله ماكسويل بصوغ آخر أن الفلسفة كعلم يبتغي الحكمة والعقل ترك العالم بلا عقل وظل نائيا بنفسه عن كل هذا الجنون، وأن الجامعات الأكاديمية اهتمت بالمشكلات النظرية والمعرفية على حساب كيفية توظيف هذه المعرفة بوضعها في قلب الحياة لكي تسهم في جعل الحياة، أو لكي تصبح وسيلة أساسية من وسائل محاولة تغيير العالم إلى آخر أقرب ما يمكن إلى الحكمة والتعقل والرفاهية. كيف أمكن لقلب الحكمة (الفلسفة) التي أدت دورا رئيسا في شيوع عصر الأنوار أن تبقى اليوم ساكنة ترقب العالم وهو يبدو في مواقع كبيرة منه راغبا في العودة لعصر الظلام؟!

والحقيقة أن سؤال ماكسويل السابق عن مدى إخفاق الفلسفة في التفاعل مع المشكلات التي يواجهها الإنسان المعاصر اليوم، يقع في قلب اهتمام هذا المقال، لأن المنجز الفكري الإنساني بشكل عام اتسم دوما بالاهتمام بقضايا الوعي والذات، ثم بقضايا العلم، من خلال تحليل المعرفة العلمية، فهل ابتعدت الفلسفة حقا عن هذا الهدف الفكري عبر اهتمامها بمنجزها المعرفي؟


أم أن الأولوية التي منحت للتقنية الحديثة والصناعة قد أدت إلى مشكلات كبيرة في الوقت نفسه مثل الاحتباس الحراري والتلوث والتفاوت المرعب في الدخل بين الأفراد في أرجاء العالم، وهو ما قد يعد دليلا إضافيا على غياب الدور الذي ينبغي أن يلعبه الفكر الفلسفي في تأكيد القيم العالمية التي يجب أن تتحقق حتى تؤدي الثورة الصناعية والتقنية دورها على الوجه المأمول؟

بداية ينبغي، وبسبب ما يقوله ماكسويل على وجه التحديد، أن نتوقف بالفعل للسؤال، هل حدث نوع من التطوير لمنهج التقاليد الأكاديمية الفلسفية بحيث يحدث نوع من التفاعل مع المجتمع؟ بصوغ آخر عندما يقرر شخص ما أن يدرس الفلسفة، فما هو الأفق العملي الذي يبتغي من وراءه هذا النوع من الدراسة؟ إما أن يكون طموحا وجادا بحيث يتمكن من مواصلة الدراسة الأكاديمية ويصبح أستاذا في الفلسفة، وإلا فإنه غالبا سيعمل في أي مجال آخر، لا علاقة له بالفلسفة. قد يعمل في الصحافة أو الترجمة أو أي مهنة أخرى.

أليس هذا ما يقصده ماكسويل، بشكل أو آخر؟ أن الفلسفة أخفقت في حل مشاكل العالم لأنها لم تنجح في تطوير تفاعلها مع الحياة اليومية والعملية للبشر.


والمفارقة هنا مدهشة لأن الفلسفة في الواقع لم تترك موضوعا من دون أن تتناوله، من جوهر العقل وأصل الوجود إلى الأخلاق والحرية والهوية واللغة، ومن علاقة الأفكار الأصولية بالعنف إلى التفكير المنطقي وصولا إلى السعادة فلسفة الحب. فكيف تحاول الفلسفة أن تحل مشكلات العالم من دون أن تجد صيغة تحل بها مشكلاتها؟

طبعا إذا عرضنا هذا الموضوع على المتخصصين في الفلسفة فسوف ينقسمون إلى فريقين على الأقل، وفيما قد يرى أحد الفريقين أن الفلسفة ليست مهمتها التعامل مع الواقع مباشرة، بل يمكن أن تستفيد منها مؤسسات أخرى تأخذ بالنهج الفلسفي في مفاهيمها مثل مؤسسات التعليم، فربما سيرى فريق آخر أن الفلسفة يمكن أن تدخل في كافة قضايا الحياة اليومية وأنها ليست مجالا مستغلقا على القضايا الجدلية أو المختصة بالموضوعات الميتافيزيقية فقط.

لكن المؤكد قطعا أن مشكلة الفلسفة عربيا لا يمكن مقارنتها إطلاقا بنظيرتها في الغرب، لأن التراكم الفلسفي في الغرب لم يشهد الانقطاع الذي شهدته الفلسفة العربية بعد مراحل ازدهارها في عصور النهضة العربية. كما أن الغرب في النهاية يمتلك المناخ الفكري الملائم لطرح أي فكرة للنقاش بضمان كامل لحرية التعبير، بينما العالم العربي يتعثر في عوائق حرية التعبير والتفكير ويواجه عقبات كبيرة في انتشار أفكار ظلامية تجد قدرة أكبر بكثير على الانتشار من قدرة الفكر العقلاني والفلسفي. 

لكن بالعودة إلى المشكلات المقصودة من قبل ماكسويل فسنجد أنها تتمثل أولا في كيفية العمل على توسيع دائرة الاهتمام بالفكر الفلسفي لدى الجمهور العادي لحثه على وسائل التفكير المنهجي والعقلاني، وتاليا طبيعة مشكلات الفلسفة الخاصة بالإبداع الأكاديمي بحيث يمكن لمن يدرس الفلسفة أن يعمل في مجالات واسعة أخرى غير البحث الأكاديمي إذا شاء مثلا.

من المؤكد أن هذه الأسئلة ليست من طرحي الشخصي ،على الرغم من اهتمامي بالموضوع، فمن المنطقي والبديهي ان هناك الكثير من المتخصصين في الفلسفة ممن تؤرقهم الفكرة، وهناك مئات من الفلاسفة أو الأكادميين والباحثين ممن فكروا ولا يزالوا في كيفية التعامل مع المشكلة و في كيفية إيجاد الحلول، ولكن لنكن عمليين ولنتعرف على التجارب العملية التي تحققت بالفعل باستخدام الثقافة الإلكترونية وشبكة الإنترنت من أجل العمل على توسيع دائرة الاهتمام بالفلسفة ومجالاتها الفكرية المختلفة.



لدغات الفلسفة!



من بين النماذج المهمة والملهمة التجربة التي قام بها أحد الأكادميين البريطانيين الشباب المختصين في الفلسفة، والذي بعد عدة سنوات من قيامه بتعليم الفلسفة في الجامعة الحرة في لندن تقدم باستقالته إلى الجامعة، وعمل مع صديق من أصدقائه على إنتاج برنامج حواري مختص بالفلسفة يقومان فيه بعمل مقابلة مع أحد الفلاسفة أو المفكرين لمدة 15 دقيقة، ثم يبثون المقابلة على الإنترنت مجانا للجمهور العادي.
نايجل واربرتون هو مؤسس الفكرة التي أعطاها اسم "لدغات الفلسفة" Philosophy Bites بالتعاون مع صديقه دايفيد إدموندس، www.philosophybites.com  والنتيجة أنهما فوجئا بإقبال هائل على الموقع، وتعدت مرات تحميل الحوارات المسجلة مع الفلاسفة، أو المحاضرات التي يبثها واربرتون عن مبادئ الفلسفة وغيرها من موضوعات الفلسفة، ملايين المرات. المدهش أن واربرتون كان واحدا من الأكادميين المرموقين في مجال الفلسفة، لكنه قرر فجأة أن يتخلى عن التدريس من أجل أفكار أكثر قدرة على اجتذاب الجمهور لفلسفة. ويقول أن النبرة المحبطة للأكادميين الكبار من البيروقراطية الأكادمية شجعته على اتخاذ هذا القرار.

عامل آخر يشدد عليه واربرتون، هو فكرة الغموض والوضوح إذ يقول أن الشائع عن الفلسفة أنها تتسم بالغموض.لكنه يرى أن أي شخص لا يملك فكرة واضحة عن أي شيئ فلن يمكنه أن يكتبها بشكل واضح. وأن السبب في شيوع هذا الفكرة عن الفلسفة هو دخول مجال الفلسفة لبعض قليلي المعرفة الفلسفية الذين يرغبون في تمرير ذواتهم للإعلام. لكنه يرى أن الغموض لا يعني عدم الوضوح، وأن الفلاسفة الكبار كانت لديهم أفكارا مركبة ولكنها واضحة.



 Ziyad Marar talks with Nigel Warburton and David Edmond




والحقيقة أن هذا الموقع بالفعل يعد كنزا فلسفيا لمن يهتم بالفلسفة، فبه مئات المحاضرات المسجلة وحوارات لعدد كبير جدا من الفلاسفة والأكادميين المختصين في علم المفس والفلسفة في شتى الموضوعات الفلسفية. كما يضم روابط لكتب في الفلسفة لأبرز المؤلفات الفلسفية الكلاسيكية والمعاصرة. وفكرة لامعة من الأفكرا التي استخدمت فضاء الإنترنت بشكل فعال لتوسيع قاعدة الاهتمام بالفلسفة


 
مجلة الفلاسفة



من التجارب الالكترونية المهمة أيضا في انتشار الفلسفة على الفضاء الافتراضي مجلة الفلاسفة أو The Philosophers Magazine   http://philosophypress.co.uk  ، وهي مجلة الكترونية تختص بنشر مقابلات موسعة مع العديد من الأكادميين والمفكرين المختصين في فروع الفلسفة، وقد تأسست في العام 1997 على يد كل من  جوليان باجينيJulian Baggini ، و جيرمي ستانجروم   Jeremy Stangroom، بقصد توفير مادة فلسفية لجمهور واسع من القراء يمكن بها إثبات أن المادة الفلسفية مادة ممتعة وتتضمن الكثير من المعرفة التي يمكن أن يتشاركها القراء المختصون وغير المختصين معا. وتتضمن حوارات عديدة مع مجموعة من أبرز الفلاسفة المعاصرين وبينهم سيمون بلاك بيرن،  وميشيل دوميت، ودانيال دينيت، وهيلاري بوتنام و ت. سكانلون وجون سيرن وسلافوي جيجيك وسواهم.
ثم قام أحد مؤسسي مجلة الفلاسفة، وهو جوليان باجيني، وهو كاتب وصحافي مهتم بالفكر والأدب والفلسفة، بإنشاء موقع آخر بعنوان "مايكرو فيلوسفي" Michrophilosophy  http://www.microphilosophy.net/  يقدم فيه ما يسميه أفكارًا صغيرة حول أشياء كبيرة، وأفكارًا كبيرة حول أشياء صغيرة، وأفكارًا ثمينة بكلمات قليلة، وبذور الأفكار.

يضم هذا الموقع محاضرات للمؤسس في قضايا فلسفية تخص الديمقراطية والفلسفة السياسية وغيرها من المجالات الفكرية، وروابط لمواقع أخرى تنشر محاضرات أو أوراق بحثية فلسفية، إضافة لروابط لبرامج إذاعية وتسجيلات تلفزيونية ومواد بصرية مختلفة بالإضافة للكتب والإصدارات في مجال الفلسفة. وهو أيضًا موقع مهم لأنه يلقي الضوء على المشهد الفلسفي المعاصر ويحييه بشكل مكثف من خلال متابعة العديد من الفعاليات الفكرية.



النظرية الحرجة!



هذا الموقع الذي يحمل اسم    Critical Theory  http://www.critical-theory.com/ أيضا متخصص في الفلسفة، ولو أنه أحدث كثيرا مقارنة بمواقع ومجلات الكترونية أخرى، إذ أنشئ العام 2013 بواسطة أوجين والترز، في بروكلين بنيويورك. ومؤسسها الشاب حصل على الدكتوراه في الفلسفة ويستعد للعمل الأكاديمي في حقل الفلسفة، لكن هذا الموقع يوضح رؤيته العصرية لكيفية تداخل الفلسفة في كل مناحي الحياة، ويقدم الموقع قسما خاصا بالمواد الخبرية المتعلقة بأنشطة الفلسفة في الولايات المتحدة، أو الإعلان عن مؤتمرات فلسفية خاصة بموضوعات محددة لمن يرغب من المهتمين من الباحثين بتقديم أوراق للنقاش والمحاضرات في تلك الفعاليات، إضافة إلى الروابط الخاصة بالنقد والفلسفة، وتضم تنويعة كبيرة من المقالات عن فلاسفة معاصرين من سارتر إلى لاكان، مرورا بنيتشة ومقالاته ، ومن هيجل إلى بوردييه.

لكن اللافت أن ما يقدم هنا غير تقليدي في الكثير منه، فهو على سبيل المثال قد يبث مادة فيديو مصورة عن لعبة من ألعاب الفيديو تقدم فكرة من أفكار الفيلسوف الألماني هيجل عن نهاية التاريخ مع تعليق مواكب للصورة التي تبدو فعلا مثل لعبة. أو أن يقدم موضوعا عن علاقة بوردييو بالصورة، أو مراسلات الفيلسوف السلوفيني جيجك مع إحدى المعارضات الروسيات اللائي عرفن باسم Punk Protesters ، وتدعى ناديا تولوكونيكوفا،    Nadya Tolokonnikova ، وغيرها من التقارير.
كما يخصص الموقع قسما خاصا بطرائف الفلسفة وهو مختص بالوسائل التي تتناول موضوعات الفلسفة عن طريق القصص المصورة أو الكاريكاتير والأعمال الفنية بشكل عام.
وهذا الموقع يتصفحه شهريا ما يزيد عن 100 الف قارئ وفقا لإحصاءات الموقع.



كاريكاتير الوجودية

من المواقع المهمة والتي تجمع خفة الظل بالفلسفة موقع يعرف باسم كاريكاتير الوجودية، أو Existential Comics ، و http://existentialcomics.com/ ، وهي مجلة رقمية أو الكترونية تختص في القصص المصورة التي يعتمد مؤلفيها على مضامين فلسفية وتقدم بشكل فكاهي، عن السعادة مثلا، عن الحياة اليومية للبشر وتأثير الاقتصاد عليهم، وتفسير ذلك بشكل مرح وكوميدي أحيانا. وهو يقدم العديد من الأفكار الفلسفية ولكن في ياغة مرحة وعبر قصص من الحياة اليومية لأشخاص عاديين، أو باختراع مواقف هزلية بين الفلاسفة وبعضهم البعض.

هذه نماذج محدودة جدا وقليلة العدد للتدليل على الوسائل التي يقوم بها بعض المهتمين بنشر الفلسفة باستخدام المواقع الالكترونية والوسائط الافتراضية في نشر الفلسفة ودعم الاهتمام بها من قبل قطاع كبير من القراء والمهتمين، وكيفية استخدام الخيال من أجل ابتكار أفكار جذابة وطريفة.

أما فيما يتعلق باستخدام المواقع العربية في الفلسفة فإن الأمر بالتأكيد يختلف من حيث العدد أو الوسائل، ومع ذلك فسوف نلقي الضوء على الاستخدام العربي للإنترنت من أجل الفلسفة في العدد المقبل. ربما لأن العالم العربي في الحقيقة، رغم انتشار الأمية الأبجدية والثقافية يبدو اليوم في احتياج حقيقي وشديد من أجل الاستعانة بكل ما يعيد القيمة للعقلانية والعقل والابتكار والقدرة على التفكير المنطقي في ظل ظروف عبية ومأساوية تشهدها اليوم قطاعات واسعة من عالمنا العربي.


 نشرت في مجلة العربي - عدد أكتوبر 2014





No comments: