Tuesday, May 27, 2014

إدوار الخراط الذي فقد ذاكرته فنسيناه!

في عيد ميلاده ..محاولة للاحتفاء
إدوار الخراط الذي فقد ذاكرته فنسيناه!
 
إبراهيم فرغلي




 
تراودني منذ فترة طويلة فكرة الكتابة عن إدوار الخراط، ليس فقط من قبيل الوفاء لمعلم كبير تأثرت به في فترة من فترات بدايات الكتابة، ولأنه عندي واحد من رموز الكتابة الحداثية، مغامر ومجرب، ومن أرباب الصنعة الكبار، ولصديق كان يحتفي بنا ويشجعنا بكامل جهده، بل وأيضا وربما بالأساس؛ بسبب الإحساس بقسوة فكرة تعرضه لمرض الألزهايمر. هذا المرض الذي يجعل ممن يصاب به ضحية عبث الذاكرة.
حين تقرر الذاكرة أن تفقد جدواها يفقد الفرد سلاحه الرئيس في الحياة، أو بالأحرى قوته الرئيسة في مقاومة الزمن عبر التشبث بالذاكرة. لأن شحوب الذاكرة من أقسى الخبرات التي قد يمر بها المرء. قسوة أن تفقد تاريخك الشخصي، وربما بعضا من تاريخك العام. حيث لا يعود لوجوه الأحبة أو الأصدقاء معنى حميميا، وربما أي معنى من الأساس. فمع ذاكرة بيضاء تعرضت للمسح سيعاد تعريف صاحبها بكل شخص يلتقيه كأنه يلتقيه للمرة الأولى. سيعيش مع أشخاص يفترض أنه يعرفهم ويعرفونه كما لم يعرفه أحد، ولكنه، ويا للمفارقة يعيش بينهم كغريب، يتأملهم بدهشة ناسيا كل ما يمثله أي منهم كجزء من تاريخه الشخصي، ولعلهم سوف يبادلونه نفس المشاعر بوصفه صاحب الذاكرة الممحية، المستبدلة بأخرى تشبه ذاكرة طفل لا يعرف شيئا عن العالم.
منذ شاهدت فيلم Iris  الذي تناول قصة حياة الكاتبة البريطانية آيريس موردخ, وعلاقتها الاستثنائية بصديقها وزوجها جون بايلي، وهو صاحب الكتاب المأخوذ عنه الفيلم، تمثلت هذا الإحساس المروّع لشخصٍ يفقد تاريخه، حتى يصبح في مهب لحظة لا تاريخ قبلها، أما بعدها فالأمر سيان تقريبا.
وقفت جودي دينش (النجمة البريطانية التي أدت دور آيريس في شيخوختها) أمام الباب المفتوح، الذي بدا لها وكأنه يفضي إلى عالم آخر لا تعرف عنه شيئا، وليس مجرد باب المنزل. ارتسمت على ملامح وجهها لوحة من التعابير المتناقضة بين الدهشة والفضول والخوف والتسليم المطلق لمصيرها مع إحساس ما بالأمان بسبب ثقتها الكاملة في زوجها (أدى الدور جيم برودبنت، وحصل على أوسكار أفضل ممثل مساعد). وسألته بكلمة واحدة مقتضبة بنبرة تحمل تقريبا كل تلك التناقضات الشعورية المرتسمة على ملامحها :"إلى أين؟".
حين علمت من الصديق مهاب نصر قبل بضعة سنوات خبر إصابة الخراط بالألزهايمر بدا لي الأمر مفزعا. وما فجعني أكثر أنني حين تساءلت عن الخبر وتأكدت من صحته كانت الساحة الثقافية في مصر تتجاهل الأمر تماما، كأنها هي التي أصيبت بفقدان الذاكرة، أو كأنها تتخفى في ذاكرة الخراط المعطوبة فتبادله النسيان!
وددت أن أكتب عن الخراط، لكني اكتشفت أن مكتبتي هنا في الكويت خلت من أي من أعماله، فليس في السفر أثقل من انتقال الكتب إلى مكان تعلم انه محطة انتقالية وليست مستقرا. وهكذا كنت أؤجل الكتابة عنه ريثما أستعيد كتبه أو التقي بأي منها بالصدفة في مكتبة.
حين قرأت، أخيرا، خبر الاحتفال بعيد ميلاده الثامن والثمانين في دار التنوير التي قررت كذلك أن تنشر أعماله الكاملة قريبا قلت أنه لا بد مما لا بد منه، ولأحيي ذاكرتي وذاكرة الخراط، بتاريخي الشخصي معه على الأقل.
تعرفت على الخراط كاتبا من خلال النصوص التي كان ينشرها في مجلة القاهرة التي كان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور عبدالقادر القط، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كان لنص إدوار الخراط سمة تختلف عن غيرها من حيث الأسلوب بغياب البعد الواقعي، وأظنه راد تيارا كاملا ابتعد عن الواقعية في أجيال عديدة لحقت به، كما اتسم نصه بتجلي الخبرة الباطنية الداخلية لأبطال اعماله عموما، وفي سيادة خلفية شبحية للمونولج الخاص للراوي تمتح من الأسطورة بما تحيل عليه رمزيا، أو علم النفس، وعالم الأحلام. بالإضافة إلى اللغة ذات الجرس الخاص والدقة في اختيار المفردات، التي تبدو كذلك لغة مختلقة ومنحوتة بالاتكاء على مزيج من المعجم القديم والمعاصر معا.
اتصلت به لأول مرة في يوم وفاة يوسف إدريس، كنت أجري تحقيقا صحفيا عن إدريس، وبدأت منذ ذلك اليوم علاقتي بإدوار الخراط، وكنت قد قرأت له آنذاك عمليه الأساسيين رامة والتنين والزمن الآخر. والتقيته في شقته في الزمالك عدة مرات، في غرفة مكتبه التي تشبهه كثيرا.
غرفة كاتب، ومثقف رفيع الطراز، يطغى عليها الخشب، في الأرضيات وفي الجدران التي تحولت كلها إلى مكتبة خشبية تمتلئ أو بالأحرى تتكدس بالكتب، وتتناثر على ما بقي من مساحة الجدران، أو في اطر صغيرة أحيانا بين الكتب، لوحات فنية عارية وبعضها من اللوحات الكلاسيكية الشهيرة، أما المكتب الكبير نسبيا فمكدس بالأوراق والكتب أيضا، فيما تستقر قريبا من موضع الخراط، إلى يساره تحديدا، أباجورة صغيرة يبدو أنه يكتب على ضوئها الساطع باستمرار. وأمام مكتبه يستقر كرسي وثير وبجواره منضدة متناغمة مع طراز الغرفة، تعلو سجادة صغيرة لم أعد أذكر لونها الآن.
غرفة لها ذوق خاص، صارمة بموضوعها، لا تصلح إلا لكاتب، لكنها في الوقت نفسه لها روح خفيفة، وأناقتها لا تخلو من البساطة. شأن صاحبها الذي كنت أظنه قبل ان أتعرف عليه صارما، يمنح الانطباع بشئ من الحدة، لكن هذه الانطباعات سرعان ما تبددت تماما بعد التعرف إليه؛ إذ بدا ودودا بشكل مفرط، لعينيه ملامح العيون الطيبة، إذا سألته سؤالاً أجاب بعربية فصيحة دقيقة جدا، لكنها عصرية، وإذا تحدثت أنصت باهتمام.
أما الصرامة فكانت تخص الفن، الدقة الشديدة في استخدام اللغة، بعيدا عن الواقعية، متجنبا الكلاسيكية، والإصرار على الكتابة بالشكل الذي يرتضيه حتى، بتعبيره، لو لم يكن لما يكتبه سوى قارئ واحد. وأزعم أنني من هذه الفئة من القراء ممن تابعوا نصوصه بشغف، لا زلت أذكر التجارب الماثلة في الذهن، مثل المتتالية القصصية أمواج الليالي، ومجموعته القصصية البديعة حيطان عالية، واللغة التي بلغ بها حدا من العذوبة والرشاقة دون أن يتخلى عن سماته الذهنية في يقين العطش، طبعا إلى جانب كبريات أعماله التي توالت: حجارة بيبيلو وصخور السماء ومن قبلها ترابها زعفران وسواهما.
وبينما يعرفه غالبية قراءه ككاتب روائي، فإنه في الحقيقة أدى عديد الأدوار في الواقع الثقافي، مترجما لعدد من النصوص الإبداعية المهمة، وناقدا صاحب ذائقة خاصة، يتحمس لكل عمل تجريبي يمتلك سمتا حداثيا، وأحد أبرز من أدوا جهدا نقديا كبيرا في قراءة الأعمال المختلفة للأجيال اللاحقة عليه، سواء أجيال السبعينات والثمانينات، والذي اقترح من خلال قراءة أعمال بعض كتاب هذا الجيل مصطلحي "الحساسية الجديدة" والكتابة عبر النوعية، كما اهتم بالنصوص القصصية لعدد من قصاصي هذين الجيلين مصنفا بعضها فيما أطلق عليه "القصة-القصيدة".
كما أنه أحد من اهتم بتداخل الأنواع الفنية، وأبدى اهتماما كبيرا بالتنوع الفني فحاول أن يكتب الشعر، وأصدر ديوانا، كما مارس الفن التشكيلي من خلال فن الكولاج، وأقام أكثر من معرض فني.
إدوار الخراط في النهاية، وأيا كان مستوى تذوقنا لأعماله هو رمز من رموز النص الحداثي في العالم العربي، واكثر من كتب واحتضن الأجيال المتتالية من الشباب باستقباله لهم أو الكتابة عنهم وبشكل مستمر ودؤوب، ورمز من رموز الثقافة والفكر الليبرالي، وصحيح أنه ربما كان يكتب لقارئ محتمل، كما كل كاتب يرى أن نصه سيعيش طويلا، فإن ذاكرة القراء المستقبليين ربما هي التي ستعوضه عن النسيان ولن أقول الإهمال اللذان تعرض لهما في محنته التي يسعدني بشكل شخصي أنه تمكن من تجاوزها.
 نشرت في صحيفة النهار ابريل 2014
 
 

No comments: