Tuesday, May 27, 2014

ماركيز رحل لكنه ترك لنا المفاتيح

 
ماركيز رحل لكنه ترك لنا المفاتيح
أحجار الخيال.. تعيد بناء الواقع فنيا
 
إبراهيم فرغلي
 



ماركيز، الصورة لوكالة أف ب AFB
 
 
بالرغم من موته المتوقع، بسبب المرض، منذ سنوات، إلا أن الخبر جاء مفاجئا على نحو ما. ربما لأن ماركيز من الكتاب الذين يمثلون لونا ما من أسطورة، فكتاباته وأعماله الصحفية وحياته الخصبة تمثل جميعا لونا متفردا لحياة الكاتب، مثله في ذلك مثل هيمنجواي.
أظنه أيضا من القلائل الذين جمعوا بين الشهرة والانتشار المدوي وبين القيمة والالتفات النقدي غير الاعتيادي في الوقت نفسه.
ما يخصني منه على أي حال هنا يتعلق بالأسلوب، بكونه الكاتب الذي أضاء لي أو منحني مفتاحا مختلفا للبحث عن أسلوب يحقق فكرة الكتابة التي لا تنتمي للواقع، أو بالأحرى الكتابة التي تعيد إنتاج الواقع فنيا، عبر قوة الخيال من جهة، ومزج الخيال بالواقع بحيث يصبح كل ما هو عجائبي غير خاضع للمنطق، مقبولا ومصدقا وربما منطقيا وفقا لمنطق السرد. وأظنه فتح الطريق للعديد من الكتاب في أرجاء العالم لهذا الأسلوب بوسائل وتقنيات مختلفة، خصوصا وأنه نفسه ليس من ابتدع هذا الأسلوب الذي نعرف أن بورخس قد سبقه إليه على سبيل المثال، وربما نجد له آثارا بعيدا عن أمريكا اللاتينية حتى، كما في نصوص كتاب بريطانيين مثل سلمان رشدي في ابناء منتصف الليل، بل وحتى لدى الكاتب التشيكي الرائد فرانز كافكا، ولعل من يقرأ مائة عام من العزلة سيرى طيفا من اطياف أسلوب كافكا في المتاهة التي وجد فيها نفسه الابن الأكبر لخوزيه حين ذهب ليلتقي قارئة المستقبل ليلا في غرفتها.
مائة عام من العزلة مثلت بالنسبة لي لونا من الف ليلة وليلة، عصرية على نحو ما، وخيال خصب بشكل لافت، وهو عندي "عصب" أي كتابة جيدة، خصوصا وأن ماركيز في هذا النص الفريد أبدى براعة كبيرة في رسم ملامح عشرات الشخصيات، في تتبعه لأجيال أبناء وأحفاد مؤسس قرية ماكندو الأب خوزيه أركاديو بوينديا، وزوجته اورسولا، وكل شخصية تأخذ سمتها ومواصفاتها الشخصية بعناية من دون أن يتأثر إيقاع السرد المحتشد والمتدفق بلا توقف. بل والولوج بدواخل الشخصيات عميقا، دون ان يتأثر إيقاع الحكي السريع الذي يتحرك بالزمن أماما في المستقبل وعودة إلى الماضي، بين الفينة والأخرى.
وحتى عقب قراءة أعمال روائيين يحتفون بالأفكار في رواياتهم مثل كونديرا، او سلمان رشدي، وخوزيه ساراماجو، وسواهما، وجدت أن الأفكار في السرد الماركيزي موجودة، ولكنها منثورة في متن الحكايات، أو ربما في طبقات الحكي والسرد. فلا يمكن قبول فكرة أن قرية لا تعرف الموت لا تثير أسئلة عديدة عن فكرة الخلود وأسبابها، وهل تتحقق في النص بسبب أخلاقيات أهل القرية، وعدم فسادهم، أم لأسباب تحررهم من الوصاية والسلطة السياسية؟
 هل يمكن فهم تعاطف الشقيقان خوزيه اركاديو وأوريليانو أكبر ابناء بوينديا، بحيث يتوحد الأخ الأصغر أوريليانو مع شقيقه خوزيه أركاديو حين عشق الفتى الأكبر قارئة المستقبل بيلار تيريزا، مقارنة، في مرحلة أخرى لاحقا، بالحقد الذي عشش في قلب شقيقتهم الصغرى تجاه الفتاة التي تكبرها وعاشت معهم في المنزل كأخت لهم، حين وقع في غرامها معلم البيانو الإيطالي، للدرجة التي جعلت الفتاة تقرر أن تمنع الأخت من الزواج حتى لو اضطرت لقتلها، بكون المرحلة الأولى كانت فيها القرية بلا سلطة، بينما أصبحت في الحالة الثانية تحت إشراف الحاكم المرسل من قبل العاصمة؟ وتتوالى الأسئلة التي تتولد مثيرة الكثير من الأفكار على مدى أحداث الرواية التي تمتد لستة أجيال متلاحقة من ذرية مؤسس القرية.
إضافة إلى سؤال آخر عن التناقض الذي تعيش فيه قرية تتأثر وتؤمن بالمعجزات، وقراءة الحظ والورق والمستقبل، وحتى نرى فيها مظاهر العجائبية العديدة من آثار الدماء التي تقتفي أثر الأم، أو غيرها الكثير من العجائبيات، وبين المنطق العلمي الذي يؤمن به مؤسس القرية، والذي وضع حتى تصوره لبناء القرية الأولي وفقا لتلك التصورات العلمية والتخطيطية، امتدادا باهتمامه المستمر بالكيمياء وتجاربه في المختبر، مرورا باختراعه لذاكرة القرية حين أصيبت القرية بالأرق الذي أدى لفقدانهم للذاكرة. وربما لذلك سنجد انه بالرغم من توصيف تخطيط القرية وحياة ستة أجيال فيها، إلا أننا لا نرى تصورا واقعيا واضحا لها، وهو ما يحيل لكونها حالة ذهنية أكثر من كونها موقعا جغرافيا واقعيا. أي أن القرية نفسها تجمل في جوهر بنائها الفني دلالات ذهنية وفكرية عدة.
هذه الأسئلة وغيرها في تقديري أسئلة يمكن أن يعاد صياغتها في كل قراءة لهذا العمل ولأعمال ماركيز الأخرى، التي أظن أن أغلب القراءات التي دارت حولها عربيا احتفت او سلطت الضوء على الفكرة الإيديولوجية ومظاهر الديكتاتورية فقط أكثر من الانتباه للعديد من الأسئلة الأخرى التي يطرحها النص.
الواقعية السحرية عند ماركيز تصنعها الأسطورة الممتزجة بعناصر من التراث الشعبي، تأتي الأسطورة للواقع فتجعل منه مزيجا من الواقع والخيال، ولو أنني أؤمن أن الواقع بالفعل في كثير من الأحيان قد يكون غرائبيا بما يفوق الواقع. وأظن أن تراث متناقضات عوالم كولومبيا وأمريكا اللاتينية كانت تمتح بمثل هذه الغرائب، وهو ما نشهده نحن اليوم في عالمنا العربي، وأظنه سينتج تيارا من الكتابة التي تستلهم الغرائبي والسحري، لها بالفعل اليوم صدى واسع في كتابات العديد من الكتاب من أجيال مختلفة.
بينما في مقاربتي للغرائبية حاولت أن يكون مصدر الغرائبي صوت خفي لروح غير مرئية مثلا، أو التماهي بين الواقع والأحلام، أو استخدام الأجواء الكابوسية حينا أو فكرة النبوءة كما في أبناء الجبلاوي، في محاولة ربما لترسيخ طابع خاص بالعجائبي في الكتابة العربية يختلف عن تيار الواقعية السحرية اللاتيني. خصوصا وان الأدب الذي ننتمي إليه في النهاية سليل تراث واحدة من أكثر نصوص السرد عجائبية وسحرية وهي "الف ليلة وليلة".
وأظن أن نصوص ماركيز في النهاية ستظل ملهمة وقابلة للقراءة وإعادة القراءة بما تحتويه من أسرار الخيال
 
 

No comments: