Tuesday, May 27, 2014

الثقافات المتباينة أرواح مشتتة تبحث عن الكمال

تُرجمت روايتها "إله الصدفة" للعربية
الدنماركية كيرستن توروب:
 الثقافات المتباينة أرواح مشتتة تبحث عن الكمال
إبراهيم فرغلي
من الصفحات الأولى لرواية "إله الصدفة" للكاتبة الدنماركية كيرستن توروب، تتجلى حساسية خاصة جدا في موضوع الرواية وفي لغتها وتنعكس على الشخصيات الرئيسة فيها. خصوصا نانا، الدنماركية الثرية، نموذج "الآلة الغربية" الخاضعة لترس العمل الرأسمالي منزوع القلب، الذي لا يعرف سوى لغة المال. نانا المصابة بحالة من حالات القلق الهيستيري على فتاة إفريقية، التقتها على أحد شواطئ جامبيا بالصدفة في زيارة سياحية هناك لتنشأ بينهما علاقة مركبة، تتراوح ما بين إحساس بالعطف والشفقة من جانب نانا، يصل إلى حد الإحساس المستمر بالذنب تجاه ظروف تلك الفتاة، وبين مشاعر ملتبسة من الأخيرة تجاه السيدة الأوربية التي قررت مساعدتها ونقلها إلى لندن، لتقيم عند زوجين من أصدقائها هناك.
بالرغم من الطابع الواقعي للرواية إلا أن الكاتبة الدنماركية كيرستن توروب  Kirsten Thorub  ، تمنح خصوصية العمل من خلال اللغة الخاصة، وإعادة توصيف الشخصيات وفقا لمصطلحات سيدتها الرأسمالية في عالم ظالم، لا يقتصر ظلمه على دول كبرى تزيد من إفقار الدول الفقيرة، بل إن تلك الحضارات التي يفترض أنها متقدمة تحول أبناءها إلى مجرد أرقام بشرية مهووسة بجمع المال، لا تجد وقتا لغير العمل، مصابة بكل ألوان القلق والتوتر النفسيين.
وبرغم تعدد كتابات توروب فإنها المرة الأولى، وفق ما تقول، التي تقترب فيها من علاقة الفرد الأوروبي بالآخر، وبالمناسبة تجدر الإشارة أن كيرستن توروب واحدة من أبرز أسماء الكتاب في الدنمارك اليوم، بفضل تنوع أعمالها الأدبية، وقد حصلت على العديد من الجوائز التقديرية ومنحتها الدنمارك تفرغا مدى الحياة تقديرا لمكانتها. وكانت زارت الكويت بصحبة الكاتبة الروائية والشاعرة العراقية الدنماركية دنى غالي التي ترجمت أيضا هذا الحوار بيننا.
تقول توروب أن اختيارها لموضوع الرواية، لم يأت متعمدا، بل جاء بمحض صدفة، ونتيجة لتجربة شخصية  "قمت بزيارة جامبيا بالفعل، وأقمت بأحد الفنادق وكان المكان مسيجا بحدود تفصل بين الجزء الملحق بالفندق والجزء الآخر التابع للشواطئ المحلية، وانتابني بالفعل الإحساس بأن الفندق يبدو كـ "جيتو" معزول عن أهل المكان. بدا لي كأنه نموذج مصغر لما يحدث في العالم، الأغنياء يعيشون في عالم مرّفه، مسيج بكل الحدود التي تضع الفقراء وتعزلهم في الجانب الآخر. لم أجد أن هناك معنى لوجودي في هذا المكان إذا أصبحت معزولة عن أهله، وتعرفت على شابة صغيرة من هناك، وتمشيت معها على الشاطئ، وحين عدت إلى بلادي ارسلت لها مساعدة صغيرة تعبيرا عن مشاعري تجاهها، وانتهى الأمر عند هذا الحد، لكن بعد عدة سنوات كتبت لي رسالة. لم يكن هناك في الرسالة أية مطالب، ومع ذلك لاحقني الإحساس بأنها ما كانت لتكتب لي لولا أن شيئا خطيرا قد حدث لها، أو لعائلتها. ووجدتني اضع نفسي مكانها وأحاول ان افهم كيف تراني. وبدأت أفكر في الكيفية التي يرى بها الأوروبيون الآخر، وكيف يمكن حقا أن يكون التعامل الحقيقي وجها لوجه مع هذا الآخر، بعيدا عن المنظمات الدولية المختصة في المساعدات وبرامج التنمية. كيف يكون الأمر حين يشعر المرء أنه متورط عاطفيا في التفاعل مع الآخر. وفي صباح اليوم التالي بدأت في كتابة هذا الكتاب.
في مونولج خاص بالراوية نانا، وإزاء انفعالها العاطفي المفرط بسبب ظروف الفتاة "مارياما"، وإحساسها بالمسؤلية تجاهها، تنبثق من بين كلماتها إشارة تصف رحلتها الى افريقيا بكونها "في قلب الظلام"، وهو ما يستدعي رائعة جوزيف كونراد، التي تحمل نفس العنوان، وتدور وقائعها في الكونغو. ومن يقرأ العملين يشعر أن هناك، على المستوى الفكري، تقاربا في الفكرة بينهما.
تقول توروب:"هناك توازي في النهايتين بين الروايتين، والحقيقة أنني لم أفكر في الأمر قبل أن تطرحه أنت الآن، لكن كورت بطل قلب الظلام لكونراد يوازي نهاية نانا في اله الصدفة. فنانا بسبب سيطرة النقود عليها انتهت نهاية تشبه نهاية كورت، فالانحلال الاخلاقي لديه يوازي نهاية نانا. هذا هو في تقديري المصير الذي تقود إليه الرأسمالية في الحالتين".
شخصية بطلة العمل "نانا" تطرح تساؤلات عديدة في ذهن القارئ، فهي تبدو شخصية شديدة الشك بالآخر، ربما بسبب عقدتها الشخصية حين اكتشفت أنها ابنة بيولوجية لأب آخر غير أبيها الطبيعي. لكن هل يمكن أن تمثل ثقافة تتوجس من الآخر، خصوصا أهل الجنوب، وتتشكك فيه باستمرار. من جهة أخرى، سنجد أنها تجمع تناقضات فهي يفترض انها شخصية عقلانية مادية، لكنها تنشغل أيضا بتلاقي الأرواح، وبالكثير من الجوانب الروحية، وأحيانا تصف نفسها في عين الآخر بإرهابية ملونة، هل هذه التناقضات تعبر عن مأزق ما تعيشه الشخصية الأوربية اليوم ؟
تقول كيرستن توروب:"ليس بشكل عام، فهي سافرت كثيرا الى دول أخرى عديدة، ولم تكن تعاني من هذه الشكوك. لكن الشكوك تبدأ حين تتعامل مع الفقر. والمعنى أيضا أن المخاوف والهواجس تتشكل حين تلتقي الثقافة الأوربية مع ثقافة أخرى لا تفهمها، ولا تستطيع فك الغازها. وليس هذا بالتأكيد إحساس كل الأوروبيين، لكن قطاعا منهم يفكر بهذا الشكل، وربما نانا هنا تمثل هذا الجانب.
وفيما يتعلق بالجزء الثاني من السؤال أرى أن نانا رغم توجسها من الثقافة الأخرى، وبالرغم من عقليتها العلمية التي لا تؤمن إلا بما تراه ويخضع للقياس، لكنها عندما التقت بتلك الفتاة الإفريقية "مارياما"، شعرت أنها تمثل الجانب الروحي المكمل لها في الوقت نفسه، الجانب الذي قمعته بداخلها، فهي تؤمن بذلك في الأساس لكنها قمعت هذه الفكرة لصالح الحسابات المادية، لكي تنجح في مسيرتها العملية التي تمثل كل حياتها كما كانت تردد لنفسها".
من يقرأ نص "إله الصدفة" سيلاحظ على الفور أن جانبا من خصوصية اللغة تتحقق مما يبدو وكأنه تراكيب شعرية سردية في التعبير عن بعض المشاعر أو الأفكار الفلسفية، مثلما وصفت مقاربة البكاء في داخل النفس البشرية كأنه مطر في السماء. أو في وصف التكامل الروحي بين قلب غفريقي وقلب أوربي، وغيرها. وتقول توروب تعليقا على الملاحظة
" أعتقد أن اللغة لها علاقة بالجانب الروحي، وأظن أنني لتأكيد الانتقال بين الأفكار المادية والأفكار الروحية أستخدم هذه اللغة مثل المثال الذي ذكرته، وبشكل عام هناك علاقة بين الاثنين في كل إنسان، فنحن جميعا لدينا هذين الجانبين معا بشكل او آخر".
وهناك بالتأكيد، حس فلسفي لا يظهر على سطح النص، لكنه كامن في طبقاته، في تحليل نفسيات الشخصيات وأفكارها وتناقضاتها، فهل هناك علاقة تربط توروب بالفلسفة؟ سألتها فقالت:
"انا بالفعل مهتمة جدا بالفكر الفلسفي، وأهتم بأن يكون هناك مضمون فلسفي أو فكري عموما في كل عمل أو نص أعمل على كتابته، سواء كان يتعلق بمفاهيم فكرية محضة أو يقارب الأفكار الاجتماعية وأحاول ربطها بمضمون الكتاب. وتأتي كطيف في خلفية ردود أفعال الأشخاص وسلوكهم وأفكارهم".
وتضيف "بشكل عام أعتقد أن الشعر والفلسفة توأمان، يدخلان في متن النصوص السردية. عندما تكتب يظهر موقفك الوجودي من العالم، وهذا هو الموقف الفلسفي. وقد قرأت دريدا كثيرا قبل كتابة "إله الصدفة" وخصوصا فصل من أعماله عن "استضافة الآخر"، بالمعنى الفلسفي، اي ما هو مدى تقبلك للآخر أو إيجاد مكان له لديك".
وبسبب ابتعاد المشد الدنماركي الثقافي عن ذهننا سألت توروب:
-       كيف ترين أو تقيمين المشهد الدنماركي بالنسبة للمشهد الأدبي الأوروبي، وهل تعد الدنمارك جزء من هذا المشهد، أم أن عدم معرفتنا بالأدب الدنماركي يعود إلى غياب الدنمارك من المشهد الأوروبي؟
فقالت:"الأدب الدنماركي ينتمي لأدب دول الشمال الخمسة، الدنمارك، فنلندا، النرويج، أيسلندا، السويد. الذي يعد ادبا مشتركا، لدينا تاريخ مشترك ولغة مشتركة، حتى لو اختلفت فلها أصل لغوي واحد. تأثرنا بالأدب الفرنسي والبريطاني والألماني في السابق، لكن مؤخرا بدأ تأثير الأدب الأمريكي بسبب زيادة الترجمات من الأدب الأمريكي. بالنسبة لترجمة الأدب الدنماركي لم يحظ بالاهتمام كما هو الحال في الدول الصغيرة. مع ذلك ترجم الأدب الدانماركي للروسية والألمانية والفرنسية، وهو يعد مرتبطا بالمشهد الأدبي الأوروبي بشكل ما.
وبشكل عام يمكنني القول أن لدينا الكتاب القدماء الكلاسكيين مثل هيرمان بانك، بانتو بيجين، ومن الكلاسكيين الحداثيين الكاتب المهم توم كريستنسن، وهو كاتب مهم، وتجربته تستحق القراءة، وتقوم المترجمة والكاتبة دنى غالي الآن بترجمة عمل من أعماله للعربية، وطبعا في المسرح أهتم كثيرا بمسرح سترنبرج من السويد، ومن الكتاب الشباب صوفيا أوكسن من فنلندا لها تجارب مهمة تمزج الأدب بالتاريخ وركزت على فترة احتلال روسيا لمنطقة البلطيق في الحرب العالمية. وأنا متفائلة كثيرا بمستقبل أدب منطقة الشمال بسبب التجارب الشابة، ومنها الشاعرة إنجر كرستنسن، وقامت أيضا دنى غالي بترجمتها للمجلس القومي للترجمة في القاهرة".
نشرت في صحيفة النهار - بيروت  

No comments: