Tuesday, May 27, 2014

قصر العزلة

 

قصـر العـُـــزلة

إبراهيم فرغلي
قصة قصيرة

نشرت في صحيفة الأخبار في مايو 2014

 
لوحة من أعمال الفنان إدوارد هوبر Edwrd Hooper
 
 انفتح باب الغرفة بعد أن سُمح لي بالصعود إلى الطابق الأخير، وجدت رجلاً طويلاً محني الظهر من فرط طوله. أول ما يلفت الانتباه في مظهره بشرة بيضاء ناعمة يكشفها وجهه البيضاوي الحليق، الذي تبدو عليه آثار النعمة، بينما لحق الشيب بشعرات رأسه الخفيف.
تأملني للحظات بعينيه الرماديتين، وقبل أن أمد يدي إليه بالمظروف الذي يحمل اسمه "جورج بهجت"، استدار وأولاني ظهره. همستُ له بطبيعة مهمتي واسم من ارسلني، فبدأ يضحك بلا صوت تقريبًا، ولكنه هز كتفيه مع الضحك حتى خرج من الغرفة. التفت لي قائلا أنه سأم من الانتظار وأن بإمكاني انتظار جورج حتى يأتي. دفعني داخل الغرفة وأغلق الباب، فيما تصاعد صوت ضحكاته بشكل وحشي.
تأملت الغرفة التي يتوسطها فراش صغير، فيما استقر قريبا من باب الشرفة كرسي بمسندين مكسو بجلد أخضر عتيق. وإلى أحد الجدران اتكأت خزانة ملابس بلون خشبي متهالك، وبجوارها منضدة تراصت عليها أكوام من كتب في مجلدات خضراء وحمراء كابية. بجوارها وضع طبق فضي أنيق امتلأ بثمار البرتقال.  
جلست على الكرسي ممسكا المظروف، وبمرور الوقت والملل، بدأت أتفحص الكتب، وعناوينها: "قصر العزلة" لكاتبة إيرانية تدعى ثريا اسفيندياري، لاحقا سأعرف أنها الزوجة الثانية لشاه إيران الأسبق، "بئر العزلة" لكاتبة بريطانية اسمها مارجريت رادكليف، "مائة عام من العزلة" لماركيز، رواية اخرى بعنوان "الجبل السحري" لتوماس مان، أوراق مصوّرة مطبوعة من كتاب بعنوان "السيدة الخرساء وقصر العزلة"، "تاريخ قصر العزلة في شتوتغارت". استوقفتني تلك العناوين وبدت لي مثل كنز من المعرفة والعزلة معا. تصفحت الكتب بشغف، وحاولت أن أتخيل شكل الرجل الذي جئت للبحث عنه، لا بد أنه أسعد من على وجه الأرض، معزولا، آمنا، يحيا بين كتب العزلة الرائعة.
فكرت آنذاك أنني لو سؤلت يوما عما أريد لأجبت فورا أنني لا أتمنى سوى الحياة في قصر العزلة. لكن أحدا لم يسألني. ربما لأنني عُرفت دوما بكوني شخص صموت، قليل الكلام. ومع ذلك فالمفارقة جسدتها معرفتي بأصدقاء أو زملاء لطالما اهتموا بانتزاع الكلمات من فمي، مرة بدعوى الاستعانة برأي رصين في أزمة عاطفية، أو لدعوتي للإصلاح بين صديقين متخاصمين، وأحيانا باسم استشارة من صديقة تواجه أزمة عائلية، أو نفسية. 
 كنت أتعجب من عمى بصيرتهم، وثقتهم في الإنصات إلى قليل الكلام، أو بالأحرى؛ أبكم مثلي لا يجيد الحديث، أعيش بينهم ذاهلا مندهشا، بينما أغلق قلبي على قصر العزلة الذاتي الذي أعيشه بامتياز، إما غارقا في أفكار تلاحق مخيلتي، أو مع الكتب التي تفتح لي أبواب العالم المغلقة وتحول قصر عزلتي إلى واحة من الصخب والحياة.
 
 كان من بين دواعي غبطتي عندما بدأت رحلة العمل، شعوري بأنني أخيرا سأتخلص من استشارات الأصدقاء العاطفية والاجتماعية، بوصفي رجلا مشغولا ضيق الوقت، لكن الحذِر دوما لا ينجو من قدر. فبعد أسابيع قليلة دعاني رئيس القسم لشرب القهوة في مكتبه. أخبرني أنه يحتاجني في مهمة لا بد لي من تنفيذها مساء اليوم. لم يخبرني بالتفاصيل حتى وصلت القهوة. تجرعتها في حبور، سعيدا بأنني أثبت في فترة قصيرة قدراتي التي يبدو أنها أهلتني لكي أتولى مهمة سيكلفني بها رئيس القسم نفسه، مفضلا إياي عن الزملاء المخضرمين.
بنبرة هادئة ورصينة تحدث الرجل الأسمر، صاحب العينين الضيقتين، طالبا مني الذهاب إلى عنوان محدد في منطقة المنيب، للقاء شخص، لم أعد أذكر اسمه الآن، ودعوته للحضور إلى الصحيفة للقاء رئيس القسم للضرورة.
تصورت أن الشخص المعني يشغل منصبًا مهمًا في مؤسسة أو هيئة تهم رئيس القسم، أو لعله مصدرا يمتلك معلومات عن قضية تشغل الرأي العام. ومن باب الفضول توجهت بالأسئلة إلى مديري الذي نفى ذلك بحركة جدية، اوحت لي أن الموضوع أكبر من ذلك وأهم. فصمت منتظرا أن يخبرني بالسبب أو على الأقل بما ينبغي أن أقوله لهذا الرجل إذا ما سألني عن سبب الدعوة للمثول أمام رئيس القسم.
 رئيس القسم لم يرد عليَّ بشئ، وخرج من الغرفة بغتة، وهو يشير لي بيديه أن أنتظر. بعد خروجه بدقائق دخلت الغرفة زميلة، يعطب جمالها إطار نظارة طبية مقعرة يخفي زجاج عدستيها براءة عينيها الجميلتين. كنا نشك دوما أنها على علاقة برئيس القسم من دون أية أدلة على هذه العلاقة، باستثناء تعمدهما المكوث في المكتب بعد انتهاء وقت العمل الرسمي، وخروج الجميع.
حيتني الزميلة وأخبرتني بنبرة ناعمة حنون، أن هذا الرجل، المطلوب مني لقاءه، على علاقة بإحدى الزميلات اللائي يعملن في قسم ارشيف الصور، وأنه وعدها بالزواج، ثم تخلى عنها، بلا مقدمات.
رسمت ملامح الاهتمام الشديد على وجهي، موحيا بامتعاضي الشديد مما اقترفه الرجل النذل، وأمنّت على الواجب الذي نلتزم به جميعًا طالما أننا زملاء عمل، بأن يقدم من يستطيع منا يد العون للزملاء، خصوصا أننا، وبفضل التجمع اليومي للإفطار في بوفيه المكتب، أيضا أكلنا معًا "عيش وملح". وطلبت منها العنوان تفصيلا.
وصلتُ إلى دربٍ مترب ضيق، يفصل بين صفين من المباني المتلاصقة التي تتراص مداخلها وتعلن عنها السيدات الكهلات والشابات اللائي كن يفترشن مداخل البنايات. مشيت بخطوات هادئة متحاشيا النظر إليهن، محاولا تجنب تنشق الهواء المختلط بروائح عطنة، لا أعرف كيف كن يحتملنها، محافظا على حرمات البيوت، التي لم تكن أي من الجالسات توليها أهمية من الأساس.
امام الشقة الموصوفة لاح لي أخيرا وجه الشاب الذي تأكدت من اسمه بترديده بصيغة سؤال فأجابني بإيجاب متحفظ. أعلنت له اسم من أرسلني فأظهر لي ودّا بالغًا على عكس توقعاتي؛ وأصر على دخولي لشرب الشاي، بينما أصررت على الاعتذار، وأنا أحاول أن أجمع ما يمكن أن يساعدني به معجم كلماتي المحدود، ووجهت له دعوة رئيس القسم له لزيارته في مكتبه، فأبدى الشاب تفهما للغرض من الدعوة وهز رأسه شاكرًا لي اهتمامي. فشرعت أردد كلمتا "ألف شكر" بطريقة مبتورة وسريعة، بدا لي حرف الراء فيها ليّنًا ونيّئًا بالنسبة إلى الوضع والمقام والمكان. وانصرفت متنفسا براحة عميقة. وأظن أن ابتسامة فتاة الأرشيف كلما رأتني بعد ذلك، كانت مؤشرا على نجاح المهمة.
فكرت طويلا عن أسباب اختياري من قبل رئيس القسم والزميلة صاحبة العينين الجميلتين خلف العدسات المقعرة، دون أن أهتدي لسبب محدد. حسن نية ربما أو لعلهما وجدا في ملامح إنسانية لم تطمس بعد. وبمرور الوقت حينما تبين لي أن مهنة البحث عن المتاعب كما تصورها الكلاشيهات الرديئة بالفعل تقتل جانبا ما من إنسانيتي بسبب التلاحق المستمر لمتابعة جرائم القتل والتعامل معها بوصفها أحداث يومية، والتخلي عن اللياقة لأخذ كلام من أصدقاء وأقارب المفقودين، قبل أن تمرد دماء قتلاهم. ولأسباب أخرى عديدة.
قلت لنفسي إذا فليكن، فليس أقل من بعض التدريب على القسوة. إذا كان الواجب يقتضي أن تميت قلبك لتنجح فلا بأس.
جاءني تكليف آخر بعد بضعة أسابيع من إحدى زميلاتي، جمعت بيننا علاقة زمالة ودية، حاولت من خلالها أن أفهم سر اكتئابها المستمر، وأحيانا، بكائها الذي كانت تجد في فترات غيابنا عن المكتب فرصة لاستمرائه بلا توقف.
أعلنت نادية أخيرا سر بكائها، واسمه الغرام. نعم، وقعتْ في الحب، ولا بأس في هذا إطلاقًا، قلت لها مؤكدا كلنا مغرمون. وقبل أن تبدأ فاصلا من النشيج عادت لتقول بين الدموع والنهنهة، التي كادت أن تفقدني صوابي، أنها لم تقع في غرام الشخص فقط، بل غيرت دينها من أجله. وأنها الآن مطاردة من أهلها، وأنها طلبت المساعدة من حبيبها لكي يتزوج بها كما وعدها، لكنها اكتشفت أنه نذل كبير. بدت المفاجأة أكبر من استيعابي. تماسكت وتساءلت: والمطلوب؟
قالت: أن تذهب إليه وتفاتحه في الأمر وتحاول إقناعه، لأنه يرفض أن يراني. تخيل الجبان؟
أكدت لها أنني سوف أساعدها في حل هذه المشكلة، ونهضت خارجا من المكتب وانا أقسم أنني سأختفي من المكتب لعدة أيام، وخلال الطريق أكدت لنفسي أنني لن أتورط في شأن أحد، لكني كلما تماديت في تحصين نفسي بالنذالة، كان ذهني يتسع راسما تفاصيل المأساة التي تعيشها نادية، فيصيبني الوجل.
 أمعنت في التأكيد على ضرورة التحلي بالندالة، فيما وجدت قدماي تسوقاني إلى مقر عمل ذلك الشاب، كأنني منوم مغناطيسيا، حتى وجدتني أقف معه أمام مبنى العمل، محاولا صياغة عباراتي المشتتة بأكبر قدر من الدقة لأشرح له أنني لست سوى رسول، وأنني لو كنت مكانه لحافظت على عهدي في الزواج من الإنسانة التي تربطني بها مواثيق الحب، وكلما رأيت امتعاضه الذي أوّلته بأنه اعتراض على تدخلي في شان خاص لا علاقة لي به، زاد إصراري في محاولة امتصاص غضبه بكلمات يبدو أنها أحدثت  تأثيرا عكسيًا، لأنه أنهى الحوار بيننا قائلا: "طيب طالما هيّا صعبانة عليك قوي كده ما تروح تتجوزها وتخلصها من المشكلة يا عم الفارس"!
وبدا أن بكاء نادية المستمر لاحقًا دليل إضافي على فشلي الذريع في تلك المهمة، التي تمنيت صادقا أن تكون آخر المهام من هذا النوع.
كان ذلك وهما للأسف، ولم أتمكن يوما من رفض أي اقتراح من هذه المطالب والرجاءات الإنسانية الأخوية، وكلها وقائع دعتني للرثاء لنفسي والشفقة عليها، من فرط دراميتها. لدرجة أن رمزاً ثوريًا ينتمي لجيل يكبرنا بجيلين على الأقل أصبح شيخا طاعنا، لكنه لم يفقد حماسه الثوري وأمله في جيلنا بأن يرث الحس الثوري الذي عاش به وأجيال أخرى ووصل بنا الى الحضيض في النهاية، رأى فيّ شيئا من المستحيل!
جاء الرجل يومها الى اجتماعنا الذي كنت أحضره بدعوى التعاطف، متوسما في شخصي خطيبا حماسيا ثوريا! سأضحك كثيرا حين أستعيد الواقعة ليلا.
أكدت لنفسي أن هذا الرجل الحصيف لا يمكن أن يكون قد توسم فيّ آفة الخطابة الثورية، إلا بوشاية خبيثة. ولم ينقذني سوى صديق مشترك بيني وبين الرجل؛ أكد له بحسم أنني لست الشخص المناسب لإلقاء البيانات، فيما كان الرجل يردد بصره بين صديقه الذي يثق به، وبيني بدهشة ورثاء وعدم تصديق، لكني تنفست براحة وأنا أهز رأسي مؤمّنا على رأي الصديق، دون أن يسمع  كلمتيّ المتلعثمتين "الف شكر".
أفقت من تداعيات ذهني، ربما لأنها هي التي قادتني إلى هذا المكان الغريب، للقاء رجل لا أعرف عنه شيئا؛ مكلفا من رجل أكن له ودّا وتقديرًا، وإن لم يجمع بيننا سوى تحيات صباحية خاطفة كلما التقينا في رواق من أروقة المؤسسة العملاقة التي نعمل بها. وعلى غير العادة في آخر لقاء لنا استدعاني في غرفته، وناولني مظروفا، قائلا أن العنوان مكتوب عليه. وطالبني بالبحث عن صاحب الاسم المكتوب لكي يتسلم المظروف. كان العنوان يخص أحد دور المسنين.
لم يكن من الصعب الوصول إلى المكان الذي يحتل ساحة خالية تعزله تقريبا عن المدينة. وحين دخلت أبلغت المسؤول الذي استقبلني أنني جئت لزيارة الأستاذ جورج بهجت، لأسلمه هذا المظروف من قبل أحد معارفه.
نظر الرجل للمظروف  لوهلة، ثم رمقني باسترابة، وطلب مني الانتظار.  رفع سماعة الهاتف المجاور له واتصل برقم، ثم أخذ يتحدث بصوت خفيض لم اتبين منه شيئا. انهى إتصاله وعاد إليّ مبتسما، ليصطحبني إلى صالون انتظار الضيوف. تناولت مجلة قديمة من الطاولة التي تتوسط الصالون لأتصفحها. وكلما سمعت خطوات قريبة من باب الغرفة، ارفع بصري غير أنني لم ارى سوى بعض النزيلات، اللائي كن يتمشين إما فرادى، على عكازات، يلقين إليها بثقل أجسادهن التي أهلكها الزمن، ومشقات الحياة. كانت النظرة التالية من نصيب ثنائي تمثله سيدتان عجوزتان ترتديان عبايتين سوداوين، إحداهما ثقيلة الجسد متينة البنيان، والأخرى قصيرة، ومكتنزة. وأحيانا كنت ارى أخريات في ثنائيات، يمشين بتؤدة، تتعكز كل منهما على الأخرى كأنها كل سندها في الحياة.
****
والآن ها أنذا قد انتقلت إلى غرفة الطابق الأخير، في انتظار من لا أعرف.
بدأت بمائة عام من العزلة، صفحة وراء أخرى، في قرية ماكوندو الأسطورية وشخصياتها العجائبية، وانفلت الزمن، أو لعله توقف، فيما وقائع القرية الأسطورية تتفجر أمام عيني بالحياة والمفارقات :شخصية تلو الثانية، وجيل من بعد سلف. وحين أستفيق، وأعود إلى الواقع،  أرمق المظروف لوهلة ولا تسعفني الذاكرة بشأنه. فأعاود القراءة. و لمّا قرصني الجوع تناولت برتقالة من الطبق الموضوع على المنضدة، قشرتها وفككت فصوصها، ثم التهمتها تباعًا عائدا إلى عزلتي في قرية العزلة الأسطورية ماكندو. ثم غفوت دون أن أشعر متى غلبني النعاس.
لا اعرف متى أو كيف استيقظت. لوهلة لم اتمكن من تحديد مكاني، لكني اكتشفت أنني ممدد على الفراش، تقلبت على جنبي، وتجمد قلبي. فقد شعرت أن هناك من ينام بجواري. فتحت عيني مفزوعًا. وجدت امرأة غافية ينتظم إيقاع تنفسها. تنام على جنبها وعلى ضوء القمر الشاحب المتسلل من نافذة الشرفة رأيت عينيها مفتوحتين تحدق فيّ، فارتعبت. ثم أغلقت عينيها أو هكذا تهيأ لي فصرخت، إذ بدا لي جليّاً أنها بلا جفنان، بمعنى أدق كان لها أربعة عيون، اثنتان حين تفتح عينيها ومثلهما عندما تغلق جفنيها. أمرتني بصوت هامس أن أصمت. وأن أعود للنوم، وامتثلت مرعوبا. فلم يكن بإمكاني أن أتحرك. فاستدرت لأنام على ظهري، أغلقت عيني وأنا أدعو الله أن يكون ما اراه ليس إلا كابوسا سأستيقظ منه في أي لحظة. ومن أعماق لبي كنت أدعو الله أن يمنحني النوم هربا من هذا المأزق اللعين.
 استيقظت في الصباح، فتحت عيني بحذر. لم تكن موجودة، دخلت الحمام، وخرجت اتفقد الغرفة فوجدت كل مافيها كما هو. تذكرت ما حدث وأنا أشك في كونه حلما أكثر منه واقعة حقيقية.
عدت الى الكتاب وتابعت القراءة، وسمعت طرقا على الباب فلم أرد، متوقعا أن يدخل السيد جورج أخيرا. ولم يدخل أحد. وبدوري لم أجد نفسي قادرا على استقبال أحد. فكيف أبرر وجودي منذ صباح اليوم السابق في غرفة رجل لا أعرفه. ليس هذا فحسب، بل لعلهم سيسألوني عنه وأنا لا أعرف عنه شيئا. توقفت الطرقات وعدت للقراءة بكل توقي للعزلة عن العالم، والولوج فقط في عالم عزلتي الداخلية الذي أصبح مصطخبا بشخصيات القرية المعزولة عن العالم؛ "ماكوندو".
وهكذا مرت الأيام، أو ربما هكذا توقف الزمن: استيقظ لأقرأ، من مائة عام لعزلة، ومنها إلى عالم السحاقيات العاشقات في بئر العزلة، إلى ازدواجية السجان الذي يقهر الآخرين بينما يشعر في أعماقه بالحاجة للاستكانة في حضن غانية تقهره، حتى يغلبني النوم، وفي حلكة الظلام أستيقظ على عيني الفتاة ذات العيون الأربعة، التي تأتي للنوم بجواري ليلا وتغادرني في النهار حيث تسقط من ذاكرتي نهائيا، فأعود إلى الجبل السحري مرتقيا مع هانز كاستروب جبال الألب السويسرية للوصول إلى المشفى الواقع في قمة الجبل، في رحلة أخرى إلى زمن آخر، كما سبق مع ماكوندو، وخرساء نهر دجلة، بينما تخليت عن زمني الواقعي الذي توقف عند مدخل هذه الغرفة.
 في إحدى الليالي التي استيقظت فيها في منتصف الليل، أدهشني أنني لم أجد تلك المرأة ذات العيون المرعبة بجواري كما يحدث كل ليلة. تجولت بعيني فلمحت طيفا لفتاة تقف خارج الشرفة. كانت جميلة، شعرها أسود حالك، وبدا ضوء القمر كأنه شعاع سماوي يتسلط على وجهها، ليريني سحراً، خصوصا جمال عينيها الواسعتين المبتسمتين. لكنها حين أغلقتهما  فوجئت، وفهمت أخيرا أيضا، أن الجفنين موشومان بصورتي عينين أخريين.
  أتيح لي لاحقا أن أتأمل العينين المرسومتين على الجفنين عن قرب، كانتا عسليتين. وردّاً على دهشتي الفاضحة؛ ستقول لي أنها ترى الأحلام، وأطياف الأرواح نصف الميتة للنائمين عندما تطوف في جولات ليلية إلى عوالم أخرى. ارتجفتُ فابتسمتْ. فتحتْ عينيها لتراني، ثم أغلقتهما لترى الأشباح وأرواح أنصاف الموتى النائمين، وربما أرواح الموتى الراحلين.
اما الآن فأغوتني بابتسامة جميلة، ناعمة وناعسة. نهضتُ من الفراش ولحقت بها إلى الشرفة. ترددت قليلا، خوفا من أن تكون رحلتي معها خلف أشباح أنصاف الموتى وارواح الموتى الهائمة. لكني استعدت جمال ابتسامتها فنفضت مخاوفي. فتحتُ الباب فلفحتني نسمة باردة. نظرتُ يمينًا حيث اختفت فوجدتها تسير في امتداد الشرفة؛ الذي بدا كرواق ضيق مظلم ممتد بلا نهاية. واندفعت أهرول خلفها مثل المجذوب، وكلما توقفتُ التفتتْ لي ولوّحت تكرر دعوتها المغوية لكي أتبعها. وكان الرواق أمامنا يتسع كلما ركضنا، وكأننا في سباق ينتهي بالضوء خارج النفق.
 

No comments: