Thursday, April 21, 2011

الرقابة.. ظلال من خريف الديكتاتور

الرقابة.. ظلال من خريف الديكتاتور

القبس-21 ابريل2011

قامت الثورات.. نعم، لكن الظلال المتراكمة عبر سنوات
الوصاية، التي رسخت قيم المراقبة على الضمائر والأفكار، واستبعدت حرية الفرد في تقرير مصيره وأحلامه مازالت جذورها متغلغلة في ذهنية الرقيب، هذا ما حدث في مصر، إذ منعت الرقابة دخول عدد من الكتب إلى مصر منها كتاب النبي لجبران خليل جبران، ورواية للمخرج السينمائي رأفت الميهي، وأخرى للروائي إبراهيم فرغلي. لا يعود الأمر فقط إلى استمرار المؤسسة ذاتها رغم التغيير، وإنما أيضا إلى المسارب البيروقراطية المعقدة والمضطربة الموروثة من عهد سابق. فرغلي يلقي بعض الضوء على طبيعة الآلية الرقابية التي تعرضت إلى جانب منها روايته «القبس»


إبراهيم فرغلي

 
قبل سنوات، في ندوة جمعتني مع الشاعر اللبناني عباس بيضون والكاتب سماح إدريس في فرانكفورت عن الرقابة في العالم العربي، قلت إن الرقابة في مصر هي جسد هلامي لا يمكن القبض عليه، وقصدت بذلك أنه لا توجد جهة محددة اسمها الرقابة، بل هناك جهات خفية تحرض على المنع، لا يمكن أن تعرف ما هي بالضبط. هناك جهاز للرقابة على المطبوعات الخارجية، وهناك الرقابة على المصنفات الفنية، وهناك الأزهر الذي كان أعضاء بعض لجانه يتدخلون بين الآن والآخر لمنع كتاب أو آخر، إضافة الى الرقابة الشفهية غير المكتوبة التي كان يمارسها جهاز أمن الدولة الذي تم حله أخيرا، عبر توظيف العاملين بالطباعة، أو التشديد على صغار الناشرين بضرورة عرض النصوص التي يجدون فيها ما يستوجب اتخاذ الحيطة الأمنية على ما كانوا يتصورون أنه أمن الدولة، إضافة إلى العمل التطوعي الذي يتمثل في رقابة البسطاء والعوام من عمال المطابع في بعض الجهات الحكومية، ممن كانوا يتطوعون لممارسة دور الرقيب، والذين تحميهم ميوعة السلطة، وموقفها الهلامي الملتبس في ما يتعلق بالرقابة وازدواجية المعايير التي ترعى عملية الرقابة، والمدهش أن هذا كله يحدث في وقت يمنع فيه القانون المصري مصادرة اي كتاب من دون حكم قضائي.

ألعاب النظام

 فكرة الرقابة، بهذا المعنى، تبدو جزءا من ألعاب النظام القديم المخلوع في مصر، الذي كان يستخدم أوراقا عدة للعب السياسي مع القوى المختلفة في المجتمع، ليسبغ على نفسه صفة حامي الأخلاق تارة، او المحافظ على القيم الدينية تارة أخرى، فيما أنه لا يعدو، باستخدامه لأذرعه الممثلة في سلطات الرقابة، كونه يقوم بامتدادات ترسيخ سلطاته،  بأن يقيم الاسلاك الشائكة حول سلطانه وحماية سلطته وترسيخ استقرارها، وزرع الخوف والرهبة لدى اصحاب الكلمة من شبح الرقيب، بحيث يولد لديهم رقيبا ذاتيا يأمن منه النظام، إضافة إلى أهداف ضمنية أخرى بينها الحفاظ على شعبية البسطاء والقوى التقليدية المحافظة التي تسود في اي مجتمع محروم من الثقافة والتعليم الجيدين.

الرقيب هنا، عن وعي أو بلا وعي، يلعب دورا محددا له بدقة، هو دور ذراع السلطة التي تصور للجمهور أنها حامية الأخلاق والقيم، لكنه في الواقع ليس سوى ظل من ظلال سلطة الدكتاتور، فالحاكم، عبر أجهزته الرقابية يرسخ في الأذهان أن كل شيء تحت السيطرة، وأن هناك حدودا للكلام وحدودا للتفكير، واشاعة فكرة ان الشعب لا وصاية له على نفسه، يجب أن تكون هناك دائما سلطة تحدد له ما ينبغي أن يقوله وما لا يجب قوله، وأن هناك حدودا للأحلام والأفكار.

استغباء واستبعاد

المصادرة واطلاق يد الرقيب بهذا الشكل في الحقيقة كان، ولا يزال، يجسد فكرة جرى ترسيخها لعقود، وهي أن الفرد لا يملك أن يتخذ قرارا، فالدولة هي التي تحدد له كل شيء، لكي ترسخ فكرة حياد المواطن ووابعاده عن الانشغال بالسياسة، وشغله بشؤون حياته اليومية فقط، فهو شخص منزوع الإرادة، لا قدرة له على التفكير، السلطة هي التي تحدد له ما يجب أن يعرفه وما لا يجب أن يعرف، وتستكمل دائرة الوصاية هذه ممارسات إعلامية أقل ما يمكن وصفه بها أنها رخيصة تقوم على الكذب وتضليل المواطنين، ومثالها الصارخ ما حدث من قبل التلفزيون المصري في أثناء أحداث ثورة 25 يناير، وهو ما أدى الى اقالة وزير الإعلام السابق وحل وزارة الإعلام، استجابة من المجلس العسكري للغضب الشعبي من قبل الثوار لممارسات الوزارة التي لم تكن قد أدركت أن الشعب المصري يثور على كل مظاهر استغبائه واستعباده واستغلاله على مدى العقود الثلاثة الأخيرة.

أبناء الجبلاوي

رواية أبناء الجبلاوي، تعرضت بوضوح شديد، ولكن بقدر كبير من الفنية للسخرية من هذه الوسائل الإعلامية الساذجة في التعامل الإعلامي مع القضايا الجماهيرية عبر افتراض خيالي تصور فيه الرواية اختفاء كتب نجيب محفوظ فجأة، وبدلا من علاج الموضوع يتم التعامل مع القضية بالإنكار والكذب، الخ.. كما أن الرواية تدين في مواضع عديدة فكرة الرقابة والمصادرة على الرأي بأكثر من مستوى، خصوصا أن المصادرات في مصر بشكل عام، في هذه الحالة، وفي العديد غيرها، لا يمكن أن نجد لها أية معايير واضحة أو مفهومة. فهناك روايات فاحشة تملأ رفوف المكتبات، لا يتطرق اليها أحد، وفجأة نجد جدلا لانهائيا حول روايات تافهة. واحيانا يمنع كتاب مصور مثل «مترو» لمجدي الشافعي، بينما تفيض وسائل الإعلام بكليبات إثارية فجة، لا يتعرض لها أحد، فلا يوجد منطق للرقابة أو رؤية، فهي عبارة عن موظف يعطى كتابا لقراءته، وقد يتعارض ما في الكتاب مع أهواء الشخص وميوله (لا أعتقد ان مهمة الريب يمكن أن توكل إلى مثقف) وهذا عبث، فكيف يتقدم مجتمع اذا كانت رقابته واقعة تحت أهواء أشخاص؟

في الرواية يبدو البحث عن نجيب محفوظ لدى الجمهور لونا من الوان الثورة لاستعادة روح الشعب وتراثه وثقافته، ومن المفارقات اللطيفة أن ثورة 25 يناير العظيمة، التي قامت لتستعيد مصر روحها الأصيلة وحريتها واكبت العام نفسه الذي نحتفل فيه بمئوية ميلاد نجيب محفوظ التي تحتفل مصر بها على مدار العام.

هذه الثورة هي ثورة ضد كل مظاهر الرقابة والوصاية على الشعب والتي تحررنا منها إلى الأبد، وهي الرسالة التي ينبغي أن يفهمها الرقيب الذي يبدو أن الثورة لم تصل إليه بعد، والرقابة بهذا المفهوم أصبحت تنتمي لعصر بائد انتهى إلى غير رجعة. وهذا ما ينبغي للسلطات أن تعمل عليه في الوقت الراهن، خصوصا أن الجهة الرقابية التي قامت بالمصادرات اخيرا هي جهة تابعة لوزارة لم يعد لها وجود.

No comments: