Thursday, December 12, 2013

رادوبيس..ايقونة الثورة التي فضحت رجال الدين

رادوبيس
 
 
حينما أستعيد شخصيات نجيب محفوظ العديدة، وخصوصا الأنثوية منها، عادة ما تومض صورة رادوبيس، وتقفز إلى مخيلتي ساطعة أكثر من سواها. ربما لأنها أكثر شخصيات محفوظ قوة، وجمالا، وإدراكا لفكرة الحرية والتحرر. فتلك الغانية الفرعونية التي كانت فتنة متنقلة، ليس لما تمتلكه من آيات الجمال المثالية، والتي تقريبا لم تتكرر في اي عمل آخر لمحفوظ، ولكن أيضا لكونها تجمع إلى الجمال المعرفة، إذ كان قصرها، في جزيرة بيجة، مزارا ليس لرجال النفوذ وأصحاب رؤوس الأموال من التجارة فقط، بل كان موضعا لاجتماع الفلاسفة والفنانين والمفكرين أيضا.
 
وربما توارد ذلك كله إلى ذهني وأنا أفكر في شخصيات محفوظ لأختار من بينهم من يصلح أن يكون المكلف باصطحاب بطل روايتي «أبناء الجبلاوي» المدعو «كبرياء» في طريق البحث عن كتب نجيب محفوظ الضائعة.

كانت هذه الجميلة، التي فقدت صندلها في بركة المياه عارية -في مشهد مقتطع من إحدى الأساطير وظفه محفوظ بشكل مختلف هنا- قد تسببت في تضليل مفهومي عن الجمال لفترة طويلة من مراهقتي وشبابي. بالإضافة إلى انها جعلت من قصرها ملاذا للعشاق، ووضعت حريتها فوق أي اعتبار آخر، ومنحت نفسها الحق أن تختار هي، من دون إكراه من أي أحد أيا كان شأنه أن يتدخل في اختيارها) من تحب أن تقضي ليلتها معه، من كل عشاقها الذين كانوا يتوافدون لقصرها يوميا. ثم زهدت العالم حين وقعت في غرام الملك مرنرع الثاني، لتعرف الحب لأول مرة. لكنها رغم ذلك، تأبى إلا أن تحقق هذا الحب بشروطها التي تقتضي عدم التفريط في أثمن ما تملك: حريتها، وإحساسها بذاتها. فالموت أحب إليها من مجرد التصور أنها يمكن أن تصبح مجرد امرأة بين حريم الملك، الذي يقع في غرامها بدوره فيلبي لها مطلبها ويجعل من قصرها قصر الحب الذي يجمعهما.
 
 

 
رواية رادوبيس بالنسبة للكثيرين قد تعد «كلاشية»، أو ربما مدرسية، لكنها عندي تأخذ حيزا من الافتتان، بسبب اللغة البليغة الفاتنة، وبسبب رسم الشخصيات الفرعونية بشكل بالغ الإقناع. ولأسباب أخرى لها علاقة بما جسدته رادوبيس لقارئ مراهق كأيقونة للحسي الإيروتكي.

أما الجزء الأهم بالنسبة لي في البحث عن سر جاذبيتها فربما يعود للتناقضات العديدة التي تجسدها هذه الشخصية. فهي فتاة ريفية أحبت نوتيا في صباها ثم تخلى عنها، فتزوجت ثريا عجوزا وورثت أمواله بعد وفاته فقررت أن تسمتع بالحياة معلية اللذة على ما سواها. لكنها لم تكن غانية عادية، فقد وصل إلى فراشها أصحاب النفوذ والأموال جميعا، لكنها لم تحب أحدا منهم. وبالرغم من إيلائها اللذة أولوية أولى، فقد اعتنت بعقلها، وهو ما تكشفه تعليقاتها في الحوارات التي جمعتها بالنبلاء والفنانين في إحدى سهراتهم في قصرها.
 
ومن اللافت أيضا انها حين قررت أن تكون حرة للنهاية، لم تتمكن من أن تتنازل عن حريتها ولا حتى للملك مرنرع الذي وقعت في غرامه وبادلها الحب، فاشترطت أن يكون قصرها مرتع الغرام الآمن لهما. إذ أنها لم تكن لتتخيل أن تكون مجرد امرأة بين مجموعة من «الحريم» حتى لو كنّ حريم فرعون مصر.
 
في قراءاتي العديدة للرواية، لم أجد في نفسي القدرة على كرهها أو حتى رؤيتها من موقف نقد سلبي، بل على العكس كان الإحساس بالتعاطف هو الذي يسود، بالرغم من أنها كانت سببا في إثارة ثائرة الشعب ضد الملك الذي غرق في الملذات ونسي شؤون الحكم، والذي أصر بعناد على أن ينزع امتيازات الكهنة لصالح مشروعات الملك أو حتى شؤونه الخاصة، فهي وبالرغم من استئثارها بحب الملك، لم تتدخل في شؤون السلطة، ولا أبدت شهوة لا للمال أو النفوذ، وحين تدخلت، فقد فعلت ذلك من موقع الإحساس بالمسؤولية بعد أن زارتها زوجة فرعون بنفسها وهي تكبح غيرتها الشديدة، وبسبب من حبها للملك وعدم رغبتها في أن يتورط في القلاقل بسبب الكهنة.
 
ولكني حين أعيد تأمل سيرتها، والصورة التي صورتها عليها في «أبناء الجبلاوي» لتصحب البطل في رحلة البحث عن سر اختفاء كتب محفوظ، أجد أن اختياري لها في دور دليل الراوي إلى سر العقل الضائع، ربما يعود لأنها في أول الأمر وفي منتهاه كانت سببا لكشف مطامع الكهنة في السلطة، الذين جعلوا منها ضحية إذ صوروا لجمهور الشعب البسيط أن هذه الغانية هي التي تنفق الأموال المقدسة التي اقتطعت من الكهنة والمعابد المقدسة.
 
وصحيح أن وجودها في حياة الملك كانت القشة التي يسرت للكهنة إثارة الشعب على الفرعون وقتله في النهاية، لكنها في النهاية تبدو ضحية لم تكن ترغب سوى في الحب الذي حرمت منه طويلا، ولم تكن لها من أطماع السلطة والنفوذ والاستبداد، ما كان لفرعون ولا لكهنته الذين كانوا يرون أنه بسحب اختصاصاتهم وممتلكاتهم يفض العقد المتوارث بين الفراعنة والكهنة على اقتسام النفوذ والثروة.
 
فهي  لم تكن تمثل بما تمتلكه من جمال فاتن وعقل جميل وحس عارم بالكرامة والحرية إلا الثورة التي قد يراها حاشية الملك وفلوله شؤما ولعنة، على الأقل هذا ما قاله لها طاهو احد عشاقها القدامى وذراع الملك القوي «أيتها المرأة الهلوك المدمرة. لقد كان جمالك لعنة على كل من رآه. عذب قلوبا بريئة، وخرب قصرا عامرا، وزلزل عرشا مكينا، وأثار شعبا أمينا، ولوث قلبا شريفا. إنه شؤم ولعنة» وهكذا جاءت رادوبيس بالثورة فاستحقت لعنة كل من لا يعي معنى الثورات
 
نشرت في المصري اليوم في ملف عن نجيب محفوظ من إعداد أحمد الفخراني في 11 ديسمبر 2013.

No comments: