Tuesday, January 24, 2012

بيتي بيدج: نملة الذات وكهرباء الجسد الزائدة



بيتي بيدج..نملة الذات وكهرباء الجسد
يوسف ليمود


ماذا بحق المسيح تريدون من حياة غبرت؟ وما كل هذا الصخب الذي ما تفتأون تقلّبونه كما يقلب فلاح في أرض بور! ألم أقل إنني لم أحاول أبدا أن أجعل من حياتي فرقعة أو أكون رائدة أو أحاول تغيير العالم أو أبدو سابقة على زمني؟ أبدا لم أنظر إلى نفسي كمحررة، ولا أعتقد أني فعلت شيئا يستحق هذا النبش والصخب. أردت أن أكون “أنا”، فقط. ولم أعرف طريقا آخر لأكون. وما العجيب في أن فتاة إغراء أدارت ظهرها لحياتها وبحثت عن الخلاص! خلاص من ذنوب لم تقترفها أصلا. أعرف أننا جميعا مذنبون ولو لم نعِ ما اقترفناه، رغم ذلك أتساءل: ما ذنب طفلة ولدت لأم غير راغبة في وجودها، وأبٍ قاسٍ سيء المعاملة يأتي للعالم بأطفال، فقط لأن الناس تتناسل؟ الرجال يجب أن يثبتوا أن لديهم شيئا غليظا تحت بطونهم يغزون به الأبد ببصقة. دودة يسكّنون بها خوفهم من الموت. وبعد أن يتورطوا في حماقتهم في تمثيلية التكرار هذه، يبدأون في عقاب أنفسهم بشكل معكوس: أنت بنت؟ صورة مصغرة من العاهرة أمك! خذي على دماغك إذن! الزوجة للبصاق السفلي والبنت لبصاق الغضب. هكذا يكون الرجل رجلا، زوجا فحلا وأبا صارما!
كنت أفهم كل شيء قبل أن أدرك أي شيء. كنت ممتلئة، بالذكاء الجمال الطموح، وبالقدر ذاته ألما. ألم؟ يا للغة الكسيحة. أنا أستعمل كلمات قاموسكم. كنا فقراء زائد كوننا تعساء. يسافر أبي إلى أية ناحية مصطحبا نعجته بحثا عن لقمة مستقرة. ميكانيكي سيارات. وعلي الطفلة التي هي أنا أن ترعى قبيلة الأطفال الأصغر. كان مستحيلا أن يستمرا معا. حين انفصلا، أبي عن أمي، كنت في العاشرة، فكان بيت الأيتام لسنةٍ ملجأنا، أختي الأكبر وأنا. والمسكينة أمي كان عليها أن تعمل تقريبا كخادمة: حياكة ملابس، تصفيف شعر… الخ. تلك فنون الفقراء غير المعترف بها. وكنت أساعد أمي في شغلها. طبعا نفعتني هذه الخبرات فيما بعد وأنا في أوج شهرتي كفتاة إغراء. كنت أصمم ملابسي بنفسي، أختار البكيني الذي تشتهيه مسام جسمي، ماكياجي وتسريحة شعري كما يريدهما إحساسي باليوم ونور النهار. ذاك سر المهنة. ليس الشكل فقط ما أقصد لكن الحالة. الروح. كيمياء الحس والذكاء التي تصعَد أبخرتها في اللقطة. إفرازات الخيال السحرية التي تحول طين الجسد ذهبا في لحظة كاذبة. اللحظة التي ستتجمد إلى الأبد مشحونة بحقيقة ما. من يمتلك هذا إلا المختارون؟ كنت لامعة الداخل، وكان حتميا أن ألمع في الخارج. هذا حقي. قدَري. الجمال يعلن عن نفسه. هذا هدفه وامتلاؤه ومصيره. لم يكن ثمة خيار، وتلك براءتي!

أردت أن أكون نجمة في السينما فدرست التمثيل. ولكي أقيم أودي كنت أقبل أي عمل: سكرتيرة، كاتبة على آلة الكتابة… قبل إنهاء دراستي في العام الذي انتهت فيه الحرب الثانية، تزوجت من زميل دراسة سرعان ما استدعته العسكرية لترسله مع الترسانة البحرية إلى الحرب. طبعا عاد شخصا آخر وطلبت الطلاق. في الأثناء كنت أتنقل أبحث عن فرصتي في ولايات عدة: سان فرانسيسكو، ناشفيل، ميامي، هاييتي. وفي نيويورك، كنت أتسكع أحد أيام سنة خمسين على شاطئ كوني آيلاند، اصطادني شرطي مغرم بالفوتوغرافيا وخرج مني بألبوم إغراء كامل. كانت هذه هي المرة الأولى التي تتحد فيها نزوات الكاميرا بنزوات جسمي ونشوته في استعراض نفسه. ألبوم كامل كان مدخلي الحتمي لشهوة العالم. كانت نوادي الفوتوغرافيا وقتها تبرر العري بالفن. لكن هذا لم يكن في الواقع سوى سوق للحم الأنثوي. غير أني لم آبه لأخلاق السوق التعيسة تلك. منذ البداية تعودت الظلم وخبرت حقارة العالم. كان شاغلي أن أقول بجسدي “أنا هنا”. كان جسدي آلتي التي أردت العزف عليها ويسمعها العالم. بل لأنصت أنا إليها أولا. عملت موديلا بنادي الكاميرا إذن ولم أمانع في الوقوف في أي وضع. وكيف أمانع وهذا في الحقيقة كان يهيّج رغبة سرّية داخلي. كان حاجة. وفي سرعة وميض الفلاش أصبحت رمزا جنسيا للقارة كلها، بل وخارجها. كل المجلات تطلبني. كل المصورين يلحسون عريي بعدساتهم. احتاروا في تفسير جاذبيتي. قالوا إنها ابتسامتي العريضة الطافحة سعادة! كانت السعادة جسدي وجسدي كان ابتسامة.
دخلت مع الفوتوغرافي إرفينج كلو عالما داكنا من الجنس الذي يمارس في الظلام. كانت تُطلب منه صور تُرسل إلى مريديها بالبريد: فيتيش وملابس جلدية وأحذية بكعوب مبالغ في ارتفاعها وسياط وحبال وسيور وسلاسل. لعبت في اللقطات والأفلام القصيرة دور الضحية المقيدة التي يُمارس فيها التعذيب تارة، والمتسلطة السادية تارة أخرى. كانت هذه الأفلام محرمات ذلك الوقت، تُوزع وتُمرر في السر. ونجاحا إثر نجاح، تقافزت أطياف جسدي على خشبات المسارح والتلفزيون في أدوار لا تخلو من ظلال شبق. أصبحت فتاة البين اب والبلاي بوي رقم واحد في العالم، سابقة بعدد اللقطات والانتشار على مونرو الجميلة. آه مارلين! كم كنت أعرف روحك مثلما أعرفني لتشابهنا وطفولتنا الأليمة! وكم كنت أحبك وأغار منك في الخفاء! وهل الغيرة إلا نوع من الحب؟ المهم أنني وصلت! أطلقوا عليّ: “ملكة جمال البن أب”، “ملكة التلوّي”، “الملاك الداكن”، ” الفاكهة المحرمة”، “فطيرة التفاح”، “السحر”، “النداء”، “الخطر”، “الفاتنة ذات العلامات السود” و”ذات الأقواس القاتلة” و”اللعوب”… الخ. تعرفون أن عمر فتاة البين اب والبلاي بوي والموديل يُعد بالشهور. أنا امتد بي عمر المهنة سنوات. سبع سنوات على عرش الإغراء هي خرق لكل المقاييس!


أعود لحكاية الذنب! مات شاب مقيدا بالحبال أثناء جلسة جنس مازوخية. وذاع أن الحادثة كانت وحيا مباشرا من صوري “الشريرة الداعرة”. نتيجة الفضيحة تلك كانت الحبس لـ كلو، الذي كنت أعمل معه. تلوثت سمعته كمصور لـ “البورنو الرخيص البذيء”، وسمعتي معه طبعا. ولإنقاذ ما يمكن، أنفقت كل ما أملك للحصول على نسخ الصور تلك وإعدامها. واستدعاني الكونجرس للشهادة في القضية لكنني اعتذرت عن الحضور. وطالبَت المحكمةُ بحرق نيجاتيف الصور المشبوهة التي استخدم كلو في بعضها رأسي وركّبه بالمونتاج والخداع البصري على أجساد أخريات. فهل كانت تلك الحادثة سبب تركي المهنة ولجوئي إلى الدين؟ طبعا كثيرون اعتقدوا هذا، وما كان لي أن أوضح وقتها الأسباب حتى لو استطعت. هناك الكثير الذي يستحيل شرحه في حينه. والأمر بسيط. ربما الكهرباء الزائدة التي تحكمت في حياتي هي ما جعلت رد فعلي لا يخلو من تطرف. لكن لكي أوضح هل أبدأ وأقول بعداوتي للزمن، أم هي روح الفنان الذي يعرف متى ينسحب في اللحظة المناسبة لكي يضمن لصورته الخلود كما عرفته الدنيا من خلالها؟ هما الشيء نفسه أعتقد. الزمن اللعين الذي يعمل فينا كما تعمل الرطوبة في لوح من حديد. كان جسدي ما يزال في عنفوانه حين انسحبت. كنت في الرابعة والثلاثين وقتها. وكنت بدأت التعري أمام الكاميرا في السابعة والعشرين. لكن نملةً كانت تمشى على رمال جمجمتي الداخلية منذ البداية. لم أنس الزمن يوما. طوال الوقت لم أنس العمر الافتراضي لتلك الفورة والبضاضة واللمعة. العمر الافتراضي لأوتار آلتي الحبيبة. ألا ترون أن للهلع براءته؟ تخيلوا لو لم يكن هناك زمن يتآكلنا، هل كنا سنجري كي لا يفوتنا قطار ما؟ الزمن لي كان الموت.
الزمن! نعم، ذلك الذي ما تكاد نملته المتسلقة أعصاب دماغي تدخل سردابه الجاثي كقبر مهجور حتى تنفرد شاشات بحجم الأفق أمام ناظري أرى فيها الحقيقة: مصائرَ الأخريات وكيف تتراقص أشباح أجسادهن كهياكل عظمية تحركها خيوط في يد مجنون ثم يختفون كغبار طيّرته عاصفة: تيدا بارا التي ويا للسخرية فسّر البعض اسمها بمعني الموت، بإعادة ترتيب الحروف منTheda إلي Death.

خيالاتها على الشاشة الصامتة ربما كانت مفتاحا للأخيلة التي كانت تتراقص على شاشتي الداخلية التي كانت تنفتح أمامي كنبوءة. ألم يكن لها الكهرباء الزائدة نفسها التي لخبطت كياني وحركتي؟ ألم تبلغ أوج الشهرة والثراء حين اقترن اسمها بشارلي شابلن؟ أربعون فيلما صامتا نجوا من كارثة الحريق الذي أتى على مخازن شركة فوكس للأفلام. لكن عريها المكسو بالمخمل كان أسطورة في الزمن. كنت أراها على شاشة جمجمتي، وأرى آلة الدعاية والأكاذيب التجارية اللازمة لخلق الأساطير حولها: “الفتاة المصرية المولودة لممثلة فرنسية ونحات إيطالي”، “الأميرة المصرية التي رضعت دم الثعبان وكانت ستُقدم كعروس لأبي الهول في زواج سري. تمردت على قبيلتها كي تظل عرافة وشهوانية إلى الأبد” إلى آخره من خرافات كانت تبيع جيدا في السوق آنئذ. تزوجت وأفل نجمها وعاشت في هدوء مع السرطان الذي نهش معدتها وماتت.

وبعين حدسي رأيت مارلين مونرو كبرق خاطف وجمال موهوب للآخر ليس لها، إذ نصيبها المأساة كانت. ألم نتشابه جدا! ألم تبحث طوال حياتها الصاخبة عن الأمان العاطفي، الخلاص بمعنى ما؟ وما الفرق في أنها قتلت نفسها أو هم قتلوها؟ لا أرى فرقا حقا، منذورة للموت كانت. في الأخير فالجمال الخارق مخلوق للقتل كما قال أحدهم. والقتل وسائله ومعانيه عديدة!


بيتي بيدج: رأيت بيتي جرابل، ذات السيقان الجمل في تاريخ هوليود





رأيت بيتي جرابل ذات السيقان الأجمل في تاريخ هوليوود حد اتخاذ اختصاصيو صناعة الجوارب النسائية نسب سيقانها مقياسا للجمال. تلكما الساقان اللتان أمّنتهما استوديوهات هوليوود بمبلغ مليون دولارا. كان هذا في الأربعينات، أي مليارا بحسابات اليوم. وأسمع صوتها وهي تغني في صرير عابر تصدره نملة دماغي حين تصل إلى شريان مسدود. ألم يستخدموا جسدها كملصق يعلقه الجنود في ثكناتهم في الحرب الثانية كي يَقتلوا بحماس أكبر أو يموتوا على وهم لذيذ؟ ألم يتكالب عليها مديرو الاستوديوهات في النهاية لينهوا أسطورتها؟ زواج طلاق وزواج ثانٍ وإدمان كحول وخيانات وطلاق وسرطان وموت!
رأيت الكثيرات ممن لحست عدسات الكاميرا أجسادهن لتقدمها لعيون الملايين تلمع كدمية من البلاستيك. وقوفهن عراياها أمام العدسة والرسام أو رقصهن في علب الليل، صور متجردة من المخمل والبريق تبخّها نملة دماغي كالبرق تخبو الشاشة بعدها وتنطفئ.
رأيتني كيس لحم ينزلق من بين أفخاذ تعاستين في لحظة مارقة! وأسأل أين هما الآن من شطراني نصفين وأورثاني التعب! خارجي جسد هو الجمال وداخلي نملة هي التيه! لكن كان علي أن أمشي الطريقَ إلى آخره. كنت أنجح في عقد هدنات بيني كممثلة في سيرك العالم وبين نملة الضياع التي تريد أن تجد الطريق. أردت أن أهب جسدي أسطورته التي يستحق لأتوقف في اللحظة المناسبة، قبل أن يخونني هذا الجسد مهزوما بالوقت. نضارة الجسد تشبه الضيف، على الجسد نفسه وعلى العالم. والضيف الذي لا يعرف متى يغادر يعرض نفسه للمهانة. ولا تنسوا جمال الغياب. الغائب هو الأجمل دائما، كما قال شاعر!


 أردت أن أهب جسدي أسطورته التي يستحق لأتوقف في اللحظة المناسبة



أردت أن أمسح الماضي كما تمسح إسفنجةٌ غبشَ نافذة. أردت إيقاف دبيب النملة التي تتجول في سراديبي باحثة عن مخرج. كنت أشعر بها طوال الوقت كهسيس ساعة رملية. ترس يدور على لحمي الممزق والمرمي في صحراء. أُحاول إسكاتها بالصخب بالرقص بإشباع الرغبة بعنفوان الممارسة، لكنها لم تك تكف عن المشي في خيوط دماغي. تتسلق أدق الشرايين وتهبط. وفي حركتها الخفية تهمس لي أين أنت الآن يا بيتي وإلى أين؟ أنت لست سعيدة ولن تكوني، أنت ضائعة، أشلاء، أنت مذنبة تجاهي وتجاه ذاتك، أنا هي أنت، بسجنك لي تسجنين نفسك، إلى متى يا بيتي، رغباتك وطموحاتك لن تنتهي وأنت ستنتهين، ليتك تشبعين الرغبة ببراءة الرغبة، لكنك تعرفين أنك تنتقمين لحرمانك القديم، حركتك ليست فعلا حرا قدر ما هي رد فعل فيه القليل من الحرية القليل من البراءة، انظري كيف يستخدمون جسدك في السوق وفي الحرب والقتل، جسدك ليس أكثر من شيء، فكرة، صورة معلقة في ثكنة جندي أرسلوه ليموت بعيدا عن أمه، أنت قاتل بلا قصد، جسدك على كل الأغلفة، على تقويمات الشهور، على بطاقات البريد، على الطوابع، على أوراق اللعب في أيدي السكارى والملاعين، أصبحتِ ثقبا وهميا لاستمناء المحرومين، بضاعة، سلاحا في أيدي السياسيين، قنبلة تُرمي على فلاحين في حقل، وتقولين لم أرد حياتي أن تكون فرقعة؟
جاءت الفضيحة وكانت عنق الشريان الذي اختنقت فيه النملة. كانت المؤشر والعلامة واللحظة. أخذت حقيبتي ورحلت عن نيويورك. أردت أن أتلاشي. أن أولد من جديد، من دون أب وأم. لجأت إلى الكنيسة والروح القدس ولم أكتفِ. أسست طائفة وكنيسة. الكهرباء الزائدة! تزوجت مرة ثانية وتطلقت. ومنعني طلاقي من التبشير في إفريقيا التي تخايلت لي كمقبرة رحيمة لدفن هياكل الموتى المتراقصة في ذاكرتي. كان ذلك في مطلع الستينات. تعاونت مع منظمات مسيحية عديدة والتقيت زوجي الأول أثناء العمل التبشيري. تزوجنا مرة أخرى وتطلقنا بعدها بقليل. الكهرباء الزائدة! عدت إلى فلوريدا، بلدتي الحبيبة سنة سبعة وستين. تزوجت مرة أخيرة وبعد ثلاث سنوات تطلقت. الكهرباء الزائدة!
انتقلت في أواخر السبعينات مع أخي إلى لوس انجلس. أردت العيش في هدوء. تخففت حتى من مجهوداتي مع الطائفة التي التفت حولي. نسيت العالم وظننت أنه نسيني. لكن للعالم منطق وروح وإرادة أخرى. كان هناك من يحفر في الطين بحثا عن ذهب. مجلات وصحف تخربش بإبرتها في اسطوانتي القديمة تحت مسمى وهمي: “الحنين إلى بيتي بيدج”! عاد الماضي، جسدي القديم، إلى الأغلفة التي هجرها وظن أنها نسيته. شخوص كاريكاتورية سميت باسمي تسرد حكايات مستلهمة من حكايتي التي لا يعرفها إلا الرب وأنا. يا لعالمٍ يقتات على نفايات الأخيلة والحواديت! عاد طيف جسدي الصاخب إلى عين الحاضر بينما أستحلب أنا الهدوء في الضوء الخافت لغرفتي الفقيرة. الفتيات تقص الشعر ويصبغنه على صورة “الملاك الداكن” التي كنتها يوما. مقالات وكتب تشرّح في جسدي وتسلط أشعتها السينية على نمل وجودي الأكثر سرية! مسرحية تُكتب عن فتاة بين اب استعملت اسماً شبيها باسمي “بيتي سو” وقلّدتني وقتلها مجهول. وصل الضجيج إليّ في عزلتي. مذيعون وصحافيون يتصلون بي لمقابلات وحوارات. المفارقة المضحكة جعلتني أتكلم بالصوت فقط لبرنامج “حياة الأثرياء والمشهورين” وأخبرهم أنني مفلسة أعيش في مسكن جماعي للفقراء، وأنني في عزلتي لم أعرف أني حييتُ من بعد موت، بمقاييس العالم طبعا لا بمقياسي أنا عن الموت والحياة. رأيت هذا الصخب فرصة لتحسين وضعي المادي. حقي. هم يتاجرون بي ويجب أن أحصل على نصيبي من الصفقة. وقعت عقدا مع وكيل في شيكاغو وفشلت بعد ثلاث سنوات في الحصول على شيء. وقعت عقدا آخر مع شركة كيرتس التي مثلت عقارات جيمس دين ومارلين مونرو، أتاني منها الفرج والتأمين المادي لأيامي الباقية. كتب لا حصر لها تناولتني. كلهم ينبشون في أسطورة البين اب بيتي بيدج: ماذا فعلتْ في سنوات اختفائها من عالم الأغراء في نهاية الخمسينات! حد أن أحدهم كتب سيرة اخترعها تثبت مرضي بالفصام النفسي ونوبات الجنون. طبعا أثار هذا أنصاري وأنا معهم عليه. ربما الملعون على حق، ولكن غريزيا كان علي أن أدافع عن نفسي!
رغم العقود الثلاثة التي مرت على انزوائي وارتشافي الوحدة، والتي كانت كفيلة بجعلي أتخطى حياتي كلها، خصوصا وأنا بهذه القوة الروحية، إلا أني تحاشيت الظهور في كل اللقاءات والحوارات التي تملقني أصحابها من أجلها. على أية حال رأيت أن تدركوا حقيقة شكلي من صوتي المجرد وذبذباته: امرأة بدينة مترهلة، فسدت أسنانها، تحتاج من يدبر احتياجات حركتها في مساحة أمتار! وهل يجب أن أفزع الطير بشكلي لكي أثبت أني قوية ويقال إنني تخطيت نفسي؟ الأمر ليس هذا. ببساطة لم أرد أن أخون ذكرى جسدي القديم. ومرة أخرى: الجمال يعلن عن ذاته، وعكسه يتوارى. في الأول براءة، وفي الثاني حكمة. هذا هو.  فن الحياة. أن تعرف كيف ومتى ترقص وكيف ومتى تنزوي وكيف ومتى تموت. أهي الكهرباء الزائدة؟ فلتهبنا الحياة إذن كل كهربائها ولو قالوا إننا مرضى ومجانين!
الطائفة والكنيسة؟ لا أدري حقا! قلت قبلا، ربما هي الكهرباء الزائدة. غير أني أفرق بين لجوئي إلى الدين كتوق روحي وخلاص، وبين ذلك الكيان الطائفي الذي نُسج من حولي وجعل مني أشبه بعنكبوت نبية. أنا لست نبية وما كان لي أن أكون. لكني أعرف أن الأنبياء اضطروا للكذب لينقذوا الخراف الضالة. الناس ليسوا متساوي القدرات. الطبيعة ليست عادلة. لهذا خُلق الكذب الأبيض كما تسمونه. وأين يذهب هؤلاء المساكين وهم محاطون بمؤسسات بغيضة تمتص دماءهم في العمل وترسل أولادهم ليموتوا في الحرب وتلعب بمصائرهم كلاعب الشطرنج بأحجاره. ثم، أليس هذا النظام الكهنوتي المسربل بالأسرار موجودا في كل أديان الأرض؟ لو أن فردا ارتقى بعلمه وصعد السلم الروحي فما حاجته للكنيسة أو المعبد إذن ما دام وصل إلى نفسه؟ لكن أحدا لن يقدر على توصيل هذا لفردِ قطيع. الفرد يجب أن يمر بنفسه بكل السراديب والأكاذيب والأبنية والهياكل كي يصل وينفصل. وهذا ما حصل معي. لست نبية ولم أرد وما كان لي أن أكون.
لكن هل استطيع الآن أن أقول إنني وصلت إلى نفسي؟ أنا الآن في الخامسة والثمانين، ولا يوم يمر دون أن أسأل نفسي من أنا؟ الأيام التي أمامي معدودة ومازلت أجهل من أنا! ربما في لحظة الموت وحدها أعرف الجواب! رغم ذلك، فالهدوء والطمأنينة يسكناني. وفي لحظاتٍ أرى نورا ينشقّ داخلي. أشعر حينها أنني امتلكت الأبدية وأنني لن أضيع وأن براءتي ستحملني خفيفة إلى حيث ينبغي أن أذهب. أرى حياتي كلها كحلم في برهة. لكنه طويل لا نهائي كالأبد. كنت حلما. حلم له جسد. أجمل ما في الحلم الجسد. وأجمل ما في الجسد الحلم.

وهل أقدر، بعد هذا التطهر الطويل، أن أقول إنني حققت خلاص جسدي من رغبته؟ ربما الأبلغ أن نسأل راهبة. الجواب الذي أعرفه لا، ولن أصدق من تقول نعم! هذا الصرصور المختبئ في مغارة الأنوثة لن يكف أبدا عن الصرير! سمعت امرأة في التليفزيون الذي أقضي أمامه يومي كله منذ سنين تقول إن تلك الحشرة هناك لن تسكت حتى لو تخطت المرأة المئة عام! أبدا لن تسكت إلا مع النفس الأخير. ابتسمت. كانت المرأة في التسعين! لكني أرى إلى ماضيّ بشفقة. روحي متصالحة مع جسدي، أخذ دورته وهِباته من اللذة حين كان لا يشبع. حقه وأخذه. وُهب ووهَب. إنها قصة الأنين البشري. أنين الألم وأنين اللذة. صراخ يتطاير مع عظامنا في الفضاء. وماذا عن التفاصيل الغابرة، كلِّ ذاك الصخب الذي صنع ألمنا وعذابنا؟ لابد أنه محفور على خلية ما وسط الركام، كاسطوانة تدور وتدور في مجال تراب صاحبها، في جاذبية الفضاء البعيد. إنه المصير يا أصدقائي!
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
يوسف ليمود كاتب وفنان تشكيلي مصري مقيم في سويسرا
·         RSS 

No comments: