Wednesday, July 13, 2011

العقل العربي في زمن الذكاء الاصطناعي

                 
العقل العربي في مجال الذكاء الاصطناعي

إبراهيم فرغلي

يبدو جليا أن حاجة المجتمعات العربية اليوم للعقل والعقلانية أصبحت ملحة وضرورية خصوصا وأن الشعوب العربية، أوغالبيتها العظمى، قد بدأت طريقها نحو الحرية، ولا يبدو أنها ستتراجع عن مطلبها هذا من تونس الى مصر ومن اليمن الى سوريا وليبيا والعراق وغيرها. ولأن الحرية صنو العقل والعدل فقد بدا واضحا ان الثورات التي حققت مطالبها الأولية بإسقاط النظم الديكتاتورية كما حدث في مصر وتونس واجهت سريعا موجات الثورة المضادة التي استعانت بالمخزون الكامن من "غياب العقل" في إثارة الفتن و النعرات الطائفية بين فئات الشعب المختلفة، وهو ما يجعل من الضروري بمكان أن يستعيد العقل العربي- الغائب  أو المغيّب ربما - مكانه ومكانته التي لا يمكن للثورات الجديدة ان تحقق مطالبها في العدل والحرية والحق دون سند كبير من القيم التي تتمخض عنه، ومن تراث العقلانية والاستنارة، وفي العالم الافتراضي هناك مساحات كبيرة لغياب العقل وأخرى لحضوره بكل تراث التنوير والعقلانية والعلمية، وهنا جولة في شبكة الإنترنت تبحث عن العقل.
بداية يمكن التوقف عند تعريف مختصر للمفهوم العقل من الموسوعة الالكترونية ويكيبيديا والتي تعرفه بأنه "مصطلح يستعمل، عادة، لوصف الوظائف العليا للدماغ البشري. خاصة تلك الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعيا بشكل شخصي مثل : الشخصية، التفكير، الجدل، الذاكرة، الذكاء، وحتى الانفعال العاطفي يعدها البعض ضمن وظائف العقل".

كما يمكن تعريف نظريات العقل بأنها "النظريات التي تبحث في العقل، ما هو وكيف يعمل، التي تعود تاريخيا إلى عه أفلاطون وارسطو وغيرهما من الفلاسفة الإغريق. النظريات ما قبل العلمية وجدت جذورها في اللاهوت والفكر الديني عموما. وركزت على العلاقة بين العقل،والروح (أو الجوهر الإلهي المفترض للذات الإنسانية). أما النظريات العلمية الحديثة فهي تعتبر العقل ظاهرة تتعلقبعلم النفس . وغالبا ما يستخدم هذا المصطلح بترادف مع مصطلح الوعي. بينما السؤال عن أي جزء أو اي صفة من الإنسان يساهم في تكوين العقل لا يزال محل خلاف. فهناك البعض يرى ان الوظائف العليا فقط (التفكير والذاكرة بشكل خاص) وحدها هي التي تكون العقل، أما الوظائف الأخرى مثل الحب والكره والفرح تكون "بدائية" و" شخصية" وبالتالي لا تكون العقل.بينما يرفض آخرون هذا الطرح، ويرون ان الجوانب العقلانية والعاطفية من الشخصية الإنسانية لا يمكن فصلها بسهولة. وانها يجب أن تؤخذ كوحدة واحدة. في الاستعمال الشعبي الشائع، العقل، يخلط عادة مع التفكير، وعادة ما يكون " عقلك" حوارا داخليا مع نفسك...". وهذه التفسيرات هي خلاصة مبسطة لكن خلفها تاريخ طويل من البحث والدراسة حول ما يعرف بتاريخ فلسفة العقل.

التعصب وتعطيل العقل

بين ما يثير تساؤلي الشخصي حول موضوع العقل هو هل ثمة علاقة بين التعرف على مفهوم العقل وبين تحرر الإنسان من الفكرة الجمعية التي يوافق عليها الفرد لمجرد ان هناك اغلبية تراها صوابا دون ان يخضعها للمنطق العقلي الموضوعي؟ وهل هناك علاقة بين مفهوم العقل وبين اعتبار البعض، خصوصا من المتعصبين لدين او طائفة او عرق وغيرها، أنهم – وحدهم- يحتكرون "العقل" دون غيرهم خصوصا  انهم يؤمنون بما يرونه الصواب الوحيد ام ان هذه الأفكار – بما تتضمنه من إقصاء للآخر ونفي له- هي نفي لمفهوم العقل نفسه؟

على صعيد آخر فإن إثارة موضوع العقل على الوسيط الافتراضي الممثل في شبكة الإنترنت يفتح العديد من الأسئلة لكن من أبرزها في اعتقادي الموضوع الخاص بالعلاقة أو اوجه الشبه  بين العقل البشري وقدرات الذكاء الاصطناعي التي يمتلكها الحاسوب، وهي القدرات التي يصفها العلماء بأنها تماثل تماما القدرات العقلية لدى البشر، فما هو الفرق بين العقل البشري كمحرك للعمليات العقلية الخاصة بالإدراك، وتلك الخاصة بالوعي وما يتبعه من مواصفات نفسية مثل المزاج أو التغيرات النفسية والمشاعر من حب وكراهية وغيره إلخ؟

هذا الموضوع في الحقيقة كان موضعا لجدال علمي كبير بدأ من اكثر من قرنين، وتطور على يد فرويد الذي لم ينكر، بأي حال من الأحوال، أن العقل، كان وظيفة دماغية، لكنه كان يرى أن العقل، كعقل، كان يملك عقلا خاصا به، لسنا واعين به، ولا يمكن التحكم به، كما لا يمكن الدخول إليه إلا عن طريق التحليل النفسي (خاصة، حسب فرويد، عبر تحليل الاحلام). رغم أن نظرية فرويد في العقل اللاواعي مستحيلة على البرهنة تجريبيا، الا انها قُبلت بشكل واسع، واثرت بشكل كبير على الفهم الشعبي الرائج للعقل. لاحقا وفي عام 1979، اعتبر العقل، من قبل دوجلاس هوفستداتر، كظاهرة إحيائية تبزغ من الشبكة العصبية للدماغ.
لكن نشوء مفهوم الذكاء الاصطناعي، اثر كثيرا على مفهوم العقل والجدل حوله, فلو كان العقل فعلا منفصل عن الدماغ، أو أعلى منه، لما استطاعت اي آلة مهما بلغ تعقيدها، ان تشكل عقلا. وعلى الجانب الآخر، لو كان العقل مجرد تراكم وظائف دماغية، لصار من الممكن ولو نظريا، تكوين آلة مع عقل. وهكذا أصبحت الدراسات الحديثة التي تبحث في مفهوم العقل، تربط بين دراسة الشبكات العصبية، وعلم النفس، علم الأحياء الخلوي والجزيئي، علم الاجتماع، تاريخ العلم، والألسنية.
ويمكن الاطلاع على الكثير من التفاصيل الخاصة بالعقل بالعربية والإنجليزية على موقع ويكيبيديا www.wikipidia.com  بالبحث عن كلمة عقل في العربية وكلمة mind، في اللغة الإنجليزية.

ظاهرة الزومبي

في روايته "كتاب الطغرى" يصف الكاتب المصري يوسف رخا، بين احداث روايته، مجموعات "الزومبي" وهم المعروفون في التراث الثقافي الغربي بأنهم الموتى الذين يخرجون من القبور، كجثث حية ، والمعنى أنهم كائنات حية بشرية لكنها بلا عقل، تبحث عن أحياء لكي تلتهم عقولهم ليتحولوا مثلها إلى جثث حية اخرى، ومن هذا الفصيل يجري رخا مقارنة بين "الزومبي" وبين البشر الذين يؤمنون بما يؤمن به غيرهم بقوة القطيع، وبالعادة والعرف، مع إلغاء كامل لعقولهم أو لميزة التفكير كسمة بشرية تميز بين البشر وغيرهم، منتقدا كيفية أن يتخلى إنسان عن عقله ويسلمه لغيره يزرع فيه ما يشاء ويطيعه هو حتى لو كان ما يطلبه الآخر هو قتل نفس بشرية اخرى تحت أي دافع أو شعار براق.
وعلى الإنترنت هناك في الحقيقة مئات المواقع الخاصة بثقافة  الزومبي بعضها ينشر قصصا تخييلية عن الموضوع، والبعض يشرح فلسفة هذه الفكرة وتاريخها. وفي محرك البحث جوجل يمكن كتابة كلمة zombie ، وعلى الفور سوف تظهر الاف الصفحات الخاصة بالموضوع.

من المهم الإشارة هنا الى كتاب العقل من تأليف الفيلسوف والمفكر جون سيرل (ترجمة د. ميشيل حنا ماتيلس- عالم المعرفة سبتمبر 2007) وفيه يقول:" من الممكن تصور كائن يماثلني تماما بكل معنى الكلمة، ولكن تماما من دون حياة عقلية ووفقا لهذه الحجة من المحتمل منطقيا أن يوجد زومبي مثلي تماما: جسيمات جزئية مقابل جسيمات جزئية، ولكن خالية من الحالات العقلية كليا. في الفلسفة الزومبي هو جهاز يسلك تماما كالكائنات الإنسانية ولكن من دون حياة عقلية من دون وعي او قصدية حقيقية. وتدعي هذه الحجة ان وجود الزومبيات ممكن منطقيا. وإذا كان وجودهم ممكنا، ولو منطقيا؛ اي اذا كان ممكنا منطقيا لجهاز ان يمتلك سلوكا وجميع الآليات الوظيفية وحتى البيئة المادية، كل هذا من دون امتلاك حياة عقلية فعنئذ إن تحليلات الوظيفي المادي خاطئة، لأنها لا تضع شروطا منطقية وافية لامتلاك عقل".
ويأتي هذا الشرح من جون سيرل في معرض الاشارة للجدل الذي أثاره ديكارت حول مدى ارتباط العقل بالجسد حيث قال"لا يمكن لي أن أتصور أنه يمكن لعقلي أن يوجد من دون جسدي لهذا لا يمكن لعقلي وجسدي ان يكونا كيانا واحدا". ويشرح سيرل هذه الحجة بأنها تقول إنني يمكن ان اتصور ان جسدي يمكن له ان يوجد كما هو ولكن من دون عقلي لهذا فإن عقلي يختلف عن جسدي او عن اي جزء منه او اي وظيفة من وظائفه.

تقنيات حديثة وعقول مراهقة

لا شك ان البحث عن مفهوم العقل هو بحر كامل من المعارف والدراسات يمكن للإنترنت أن تيسر للقاريء العربي بعضا من فيضه، وقبل أن نلقي الضوء على بعض المواقع المرتبطة بالعقل والعقلانية أتوقف عند بعض الدراسات التي أجريت لبحث علاقة من نوع آخر وهي تأثير وسائل الإتصال الحديثة وفي قلبها شبكة الإنترنت والحواسيب الآلية في العقل البشري.
وهذا النوع من الدراسات، مع الأسف، لا يزال نادرا على المستوى العربي، وهو حديث نسبيا حتى في الغرب إلا ان العديد من الجامعات الأمريكية والكندية واليابانية قدمت عبر الباحثين والأكاديميين العاملين في مجال الدراسات الخاصة بوسائل الاتصال الحديثة، عددا من الأبحاث والدراسات؛ بعضها تخصص في بحث طبيعة ما يقبل عليه المراهقون على نحو خاص من برامج إلكترونية سواء كانت برامج الدردشة العادية، التي تعتبر وسيلة اتصال مفتوحة بلا انقطاع خصوصا بين الجنسين ممن يتبادلون المشاعر، أو الأصدقاء والصديقات، أو برامج التواصل الاجتماعي المختلفة مثل تويتر والفيس بوك، او برامج الألعاب الإليكتورنية، أو تحميل الأغنيات من على الروابط الخاصة بتحميل المصنفات السمعية المختلفة.
تصل هذه الدراسات إلى أن الأجيال الجديدة من المراهقين يضيعون الكثير من الوقت على حساب أشياء اخرى اكثر جدية، مثل التحصيل العلمي والدراسي، في الدردشة والتواصل الاجتماعي.

من بين المؤسسات المختصة بدراسة تأثير الاستخدام المستمر للإنترنت على العقل وخصوصا عقول المراهقين وجدت مؤسسة Kaiser Family Foundation أن معدل استخدام المراهقين لشبكة الإنترنت باستخدام الحواسيب أو اجهزة الآي فون وسواها في بريطانيا يصل إلى نحو ست ساعات ونصف يوميا، وقد أثار هذا المعدل المرتفع إهتمام الباحثين، بالرغم من كل ما يقوله المراهقون عن أن هذا الاستخدام المفرط للإنترنت لا يؤثر سلبا على تحصيلهم العلمي، أو قسم شاب أن الإثني عشر ساعة التي يقضيها للعب لعبة من ألعابه المفضلة مثل War craft، أو غيرها، لا تضيع وقت التحصيل الدراسي، أو إصرار فتاة  أن بإمكانها إنجاز بحث دراسي في اللغة، تنجزه بينما تقوم بتحميل قائمة أغنيات جديدة على جهاز I Tune ، وترد على صديقاتها على برنامج الدردشة المفتوح على جهاز الحاسوب الخاص بها في الوقت نفسه.
وقد أدت هذه الظواهر الجديدة بعد تزايد مظاهرها الى اهتمام الآباء والمختصين في التربية والدراسات الاجتماعية ببحث نتائج هذه السلوكيات والتأكد مما إذا كانت هذه الوسائط الجديدة تلحق ضررا بعقول المراهقين أم لا.

من بين ما اهتمت به دراسات مماثلة اجريت على من يمارسون اللعب بالألعاب الإليكترونية ذات الطابع العنيف وتلك الخاصة بما يشبه ممارسة الجرائم، حيث وجدت أن مثل هذه الألعاب ترفع الإحساس بالعنف لدى المراهقين وتؤثر سلبا على سلوكهم, بنسب تفوق اقرانهم ممن لا يمارسون هذا النوع من الألعاب.
إيجابيات وسلبيات
ويرى المختصون وبينهم جوردان جرافمان Jordan GrafmanK ، رئيس قسم النيروبيولوجي في "المعهد الوطني للنيروبيولوجي" أن هناك مخاطر عديدة من افراط استخدام المراهقين لهذه الوسائط الحديثة في تأثيرها السلبي على العقل خصوصا وان أغلب الدراسات تشير إلى أن العقل في طور المراهقة لا يصل إلى النضج الكامل قبل عمر 25 عاما، أي ان وظائف المخ لا تعمل بطاقتها الكاملة، أو لا تكتمل قبل هذا العمر، وهذا ما يفسر تشوش المشاعر والتوترات والحساسية المفرطة في هذا العمر، والتصرف على نحو ينافي المنطق الطبيعي، والجنوح للغضب والعنف.
وبينما يرى البعض أن الطريقة التي يعمل بها المخ في التنقل بين الدراسة والرد على تعليقات اصدقاء الفيس بوك تشبه طريقة عمل المخ في اثناء القيادة حين يمكن القيادة وقراءة العلامات على الطريق، أو التحدث في التليفون، وهي سلوكيات تعتمد على مناطق التحدث في المخ. وبالتالي فهي مناطق لو زاد التركيز عليها فإنها تؤثر سلبا على التحصيل العميق والتركيز المتعمق في رؤية الأمور.
من جهة أخرى يرى البعض ان كل ثورة تكنولوجية في العالم تؤدي إلى صدمات اجتماعية في أغلب المجتمعات التي تستخدم هذه التقنيات الحديثة، لكن الدراسات الحديثة توصلت في نفس الوقت أن مقاييس الذكاء المعروفة بال IQ، قد زادت بنسبة 15 بالنسبة للجيل الجديد مقارنة بالأجيال الأسبق في نفس العمر، وأن مقياس الذكاء قد زاد بالنسبة للأبناء بمقدار 25 مقارنة بالآباء.
لكن المطلوب الآن إجراء مثل هذه الدراسات التربوية والاجتماعية والإعلامية، نظريا وميدانيا،على مجتمعاتنا العربية وشبابها الذين يعرفون اليوم بأنهم استخدموا التكنولوجيا الحديثة في عمل اهم ثورات شعبية عرفتها المنطقة العربية على مدى تاريخها. وهي دراسات من شأنها أن تفهم وتعمل على زيادة الوعي العربي وتحديدي السبل لاستعادة الكفاءة الواجب أن يحظى بها العقل العربي الذي غيب طويلا من قبل المستعمرين قبل أن تتسلم الديكتاتوريات المقيتة مهام تعطيل هذا العقل العربي الذي يشهد اليوم صراعا ثنائيا قويا بين عناصر إطلاق قدراته وتلك التي تريد كبحها.

نشرت في مجلة (العربي) - ثقافة ألكترونية العدد 632 - يولية 2011

No comments: