Wednesday, June 29, 2011

أم كلثوم..هرم مصر الرابع في الكويت

معرض الهرم الرابع أم كلثوم في الكويت
السفر عبر الزمن إلى عصر كبرياء الفن العربي

إبراهيم فرغلي


في ظلام القاعة التي صممت كأنها مسرح صغير تتوسطه شاشة ضخمة تبث مقاطع من حفلات غنائية لأم كلثوم، وتمثل جزءا من المعرض الضخم الذي يسوده الظلام حيث لا يتوهج بالضوء إلا ما يخص سيدة الغناء العربي، لمحت صديقي الذي شاركني جولتي الأولى، وهو يمسح عن عينيه دمعة، تجاهلتها، وأنا أدرك انه يسترجع زمنا، وعصرا كاملا كانت فيه أم كلثوم سيدة الغناء العربي، التي تمنحها الدولة جوازا ديبلوماسيا تقديرا لمكانتها، وكانت مصر، جوهرة الحلم العربي، وبؤرة الثقافة والفن.
لم يعجبني تاثر صديقي لإحساسي أنه يبكي زمنا مضى ولن يعود، زمن العزة، والنهضة، والحلم العربي، والقيم، والجمال والأناقة، والأخلاق، بينما كنت أتأمل المكان بفخر وانا أعرف ان من يمتلك ماضيا لا بد ان يمتلك مستقبله أيضا، مهما تعثر وكبا.
لكنني في جولتي التالية وحدي في المعرض ذاته، انتابتني حالة من الحنين، وقدرت دموع صديقي، بينما كنت أبرر لنفسي تأثري  بأغنيات أم كلثوم التي سمعتها جميعا في تلك القاعة، كلها ترتبط بتاريخي الشخصي، وايام المراهقة والحب الثوري المندفع والمتدفق بالحماسة، والرومانسية. استعدت زمني الخاص في صوت كوكب الشرق، لكني كنت أيضا، أدرك ان جزءا من الشحنة العاطفية التي انتابتني يعود لإحساسي بالفخر لأن قيمة مصرية في قامة أم كلثوم قد اعد لها معرضا بكل هذه الدقة والاصالة والحداثة والأجواء المترعة بالحنين، وبمزج العام بالخاص الذاتي ممثلا في بعض مقتنياتها والوثائق.



كنت، في الواقع، في حال من النشوة، ليس فقط من صوت ام كلثوم الذي كان يتدفق من ارجاء المعرض، كاشفا عن خامة الصوت القوي الذي حفر لصاحبته اسما ذهبيا في قائمة الاساطير البشرية، أو جمال الكلمات والألحان، أو من رحلة السفر عبر الزمن الذي يوفرها هذا المعرض بامتياز؛ عائدا إلى أوائل القرن؛ كاشفا رحلة عبقرية لإرادة حرة لفنانة عبقرية تركت بيئتها الريفية البسيطة، واجواء الإنشاد الديني التي شبت عليها، لتصل إلى قمة المجد والشهرة، مقدمة نموذجا رفيعا لإمرأة حرة، بكل ما تعنيه الكلمة، تعرف ذلك وتعيه جيدا حتى أنها طالبت، في أحدى حفلاتها، من جمهور ليبيا من النساء ان يتخلين عن اغطية رؤسهن لأنهن يجب ان يمشين مرفوعات الهامة. لا لم يكن هذا وحده، سبب نشوتي، لكن يضاف إليه نشوة المتلقي لجرعة فنية تسري في حواسه وتخاطبها جميعا، وتبقيه متفتح الذهن والمشاعر، ولاهثا من شدة انفعاله.

هذه الشحنة الوجدانية يكثفها ما تضمنه المعرض من أعمال فنية استلهمت "ثومة"، كما كان يطلق البعض عليها من محبيها، بينها أعمال تصوير وبوتريهات أبدعها فنانون مثل حلمي التوني، عادل السيوي، شانت أفيديسيان، جورج البهجوري، ابراهيم الدسوقي، محمد عمر خليل، هدى لطفي، وجيري فتروبا، فيصل سمرا، وبعض أعمال الفوتوغرافيا المعالجة فنيا مثل اعمال يوسف نبيل، إضافة إلى قطعة نحتية تجسد ام كلثوم في تشكيل حداثي معاصر للفنان آدم حنين. إضافة إلى عشرات الصور الفوتوغرافية اغلبها من تصوير فاروق إبراهيم.

أبدع كل من الفنانين المشاركين ببصمة خاصة وبعمل أو اكثر، وبينها لوحة البورتريه التي رسمها حلمي التوني، التي اختار لها ملمحا حزينا تعكسه تعبيرات العينين، من مرحلة عمرية صغيرة، في حالة خاصة لم تعرف بها أم كلثوم كثيرا، كأنه يتسلل إلى المسكوت عنه في شخصيتها، مقتربا من الذاتي الحميم. بينما قدم عادل السيوي ثلاثة أعمال جسد بها ثلاث حالات لأم كلثوم إحداها تقترب من الحالة التي قدمها التوني، لكنه أبدع بورتريها نادرا مجسدا ملامحها كأنها روح مصرية لها ملامح بشرية، واستخدم اللون الذهبي للوجه مما أعطاها تاثيرا فنيا مختلفا. أما ابراهيم الدسوقي فقد أبدع عملين يمثلان اتجاه النيوكلاسيك الذي يرسخه في العديد من أعماله الفنية الجميلة، وفيهما يقدم كوكب الشرق في حالتي تألق على المسرح، ملتقطا روحها الفنية، والكاريزما القوية التي كانت تتمتع بها في حضورها عموما، وعلى المسرح على نحو خاص.
بينما تألق المعرض بالجزء التفاعلي الذي يتضمن أجزاء من مقابلات تليفزيونية مع أم كلثوم معروضة في تليفزيون قديم، أو من مقتنياتها من أجهزة الراديو العتيقة التي تبث بطلب من المتلقين أغنيات لمعاصري ام كلثوم مثل صالح عبد الحي وعبد الوهاب وغيرهما، بينما تناثرت مظلات بلاستيكية شفافة يمكن لمن يقف أسفلها أن يستمع لغنيات أم كلثوم، وكذلك عرضت بعض الشاشات اجزاء من الفلام التي قامت ببطولتها، يجاورها ملصقات خاصة بالفيلم.
كما قدم المعرض عددا من أعمال الفيديو آرت التي تضمنت أغنيات أم كلثوم مصحوبة برقصات إيقاعية حديثة، أو بمقاطع من أغنيات أم كلثوم تغنيها فنانة شابة هي وفاء غربال، وديكوديكس ؛ وهو مقتطف من برنامج الموسيقى من القلب وتصميم الرقصات لفيليب دو كفليه، واجزاء من أفلام توثيقية ليوسف شاهين وغيرها.
لعبت الفوتوغرافيا دورا بطوليا في المعرض موثقة مراحل عدة في مشوار سيدة الطرب العربي (1904-1975)، منذ مراحل مبكرة من حياتها مرورا بوقوفها مع الزعماء المصريين والعرب، وصولا لحفل استقبالها الأسطوري في مسرح أوليمبيا بباريس في العام 1967، والعديد من حفلاتها التي أقامتها في أرجاء العالم العربي وبينها الكويت التي زارتها مرتين في عامي 1963 و1968.
الجزء المخصص لمقتنياتها تراوح بين بعض الفساتين التي كانت ترتديها في حفلاتها، والتي كشفت عن ذوق راق، كما كشفت عن فداحة ما أخفته عنا الشاشات بالأبيض والسود، من الوان وتفاصيل التطريز والفخامة، كما تضمنت المقتنيات بروشات ماسية ونظارة القراءة وبعض حقائب يدها وأحذيتها، والميكروفون الذي غنت أمامه لأول مرة.

بالإضافة للوثائق التي مثلت بعضها قصائدها المغناة بخط يد الشعراء الذين كتبوها، وصورة من جواز سفرها، بعض الأوسمة التي تقلدتها في عهد الملك فاروق وعهد جمال عبد الناصر.
هذا المعرض تحتضنه الكويت لمدة اربعة أشهر بعد ان اقيم في معهد العالم العربي بباريس ثم البحرين، بالتنسيق مع شركة التمدين لمراكز التسوق في الكويت، التي عكفت منذ زمن طويل لاحتضان هذا المعرض الفريد من نوعه ، وذلك تحت رعاية وزير النفط ووزير الاعلام الشيخ احمد العبدالله الصباح وبحضور الشيخة مي آل خليفة وزيرة الاعلام والثقافة في مملكة البحرين وسفير مصرفي الكويت طاهر فرحات ومدير معهد العالم العربي في باريس مختار طالب بن دياب، بالاضافة الى شخصيات سياسية واعلامية وفنية عدة.


قسم المعرض لأربعة اقسام يتناول كل منها جزئية تخص شخصية ام كلثوم فيها مقاطع صوتية وبصرية، صور خاصة، فساتين ومقتنيات شخصية، اسطوانات، وأعمال فنية صممت خصيصاً لها تزيّن المعرض الذي يقترح مساراً يعتمد على أربع مراحل للتعرّف على حياة أم كلثوم ومسارها الفنّي بين الرمز، الموهبة، الالتزام، التراث.

المعروف أن أم كلثوم واسمها الحقيقي فاطمة البلتاجي، ولدت، لعائلة متواضعة في قرية في دلتا النيل، وبدات دراستها في مدرسة قرآني، وكانت شرعت الغناء في الأعراس والمآتم ثم انتقلت مع عائلتها للعيش في القاهرة عام 1923، ويتناول الشق الثاني من المعرض موهبة أم كلثوم، التي بدأت في الغناء بدون فرقة موسيقية، وكان والدها وشقيقها يرافقانها في ترديد المقاطع الغنائية حتى عام 1926، حيث رافقها في أغنيتها تخت موسيقي وبدأت أولى جولاتها الغنائية في عام 1932 في مختلف البلدان العربية، فتنقلت بين دمشق وبغداد وبيروت وطرابلس الغرب، وعملت مع شعراء وملحنين كبار كثر مثل أحمد رامي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، كما غنّت لعمر الخيام وأحمد شوقي وبيرم التونسي وطاهر أبو فاشا وأحمد شفيق كامل، ما عُدّ تدشيناً لعصر ذهبي للموسيقى العربية.
أما قسم الالتزام، فيستعرض وجه أم كلثوم المناضلة والثورية والمدافعة عن حقوق المرأة. فأم كلثوم كان لها دور فاعل في السياسة المصرية، حتى بات يقال في الاعلام الأوروبي انّ الرئيس جمال عبد الناصر كان يملك سلاحين: أقوى سلاح حربي في الشرق الأوسط وصوت أم كلثوم.
ولعل هذا ما يفسر الحضور الجماهيري الكبير من المقيمين والمواطنين الكويتيين، والاهتمام الكبير بالمعرض، الذي يجسد بالفعل استعادة لزمن جميل، كان للفن العربي خلاله دوره القوي المؤثر في وجدان وذائقة جماهير تغذت ارواحها على الفن الرفيع، ولعلها الآن تتعطش لذلك الزمن، أو لما يغذي روحها ووجدانها طربا ونغما وقيمة فنية على السواء.


 نشرت في صحيفة النهار اللبنانية 

No comments: