Tuesday, February 8, 2011

عن الثورة والثورة والفوضى المستقرة


الفوضى المستقرة..!!



أظن أن المشاهد التي مرت بها مصر خلال الأسبوعين الماضيين تكفي لكتابة ألف ليلة جديدة، من الحكايات الغرائبية، والأحداث العجائبية، وتجسد في الوقت نفسه، لونا من ألوان انضغاط الزمن، من فرط ما أفرزت من أحداث تبدو، في تجاورها اللامنطقي، كأنها انشطار الزمن الراهن إلى شظايا من أزمنة سحيقة، وأخرى تنتمي للمستقبل، ولعل في هذا ما يفسر حالة التشتت والتخبط التي يعيشها قطاع كبير من الشعب المصري الذي تكيف على مدى الثلاثين عاما مع ما يمكن أن نطلق عليه "الفوضى المستقرة" ، التي أفرزها نظام الحكم الراهن على مدى العقود الثلاثة الماضية.

شخصيا لا بد أن أعترف بداية أنني من جيل نشأ على الفردية من فرط ما آل إليه العمل الجماعي من تشرذم، ولأخطاء إرتكبتها أجيال أخرى، حين تم تدجينها من قبل السلطة، ولأسباب أخرى تتعلق بنشأتي وحيدا ومنعزلا، وسوى ذلك، والمحصلة في النهاية تركيبة جعلتني أتشكك في كل مقولة يتفق عليها أو تميل للإجماع، عابرا طريقي الفردي بأدوات التشكك، والحماس المفرط لنقد كل ما المح عليه اتفاق من يفترض إنتمائي إليهم من جموع الجيل الذي انتمي إليه قبل غيرهم.

كما أنني مثلي مثل الكثيرين غيري، نشأت على اعتبار أن السياسة رجس لا يجب الاقتراب منه، إذ ترتبط عندي في كل ما هو مزيف، بالمصالح الذاتية، بعيون لا يمكن النظر إليها من فرط التلون اولكونها تظهر غير ما تبطن، وبالإدعاء، وأولا وتاليا بالكذب.

صحيح أنني منذ فترة اتابع التغيرات في القيم لدى الجيل الجديد، خصوصا عبر الانترنت، ووسائل الاتصال الجديدة، وصحيح ايضا أنني رصدت تحولات وتغيرات في القيم عبر هذه الوسائط جعلتني أتوقع أن يكون هذا الجيل الشاب الجديد من مستخدمي الإنترنت هم ورثة ثورة 1968 في فرنسا وبقية أوربا باعتبارها الحركات الشعبية والشبابية الثورية التي قادت ثورة تحررية  واجتماعية كبرى على كل الأخلاق البورجوازية السائدة في أوربا آنذاك، ووقود التحول في القيم في مجتمعات العالم تباعا.

لكنني لم أكن أتوقع أن يقوم هذا الجيل النبيل من الشباب المصري بثورته بمثل هذه السرعة.

طبعا اعترف أن الكلام الآن في قلب هذه الأحداث لن يكون بالعمق الواجب، فالصورة اليوم لا يمكن قراءتها في عجالة، ولا فهمها بكامل الدقة، لكن هناك مؤشرات يهمني الآن أن أتوقف عندها.

ليلة الثورة كنت قد ودعت آخر ضيوف ندوة مجلة العربي التي عقدت هذ العام، مؤملا نفسي بالنوم بعد أسبوع لم أنم فيه أكثر من 25 ساعة متقطعة. بينما كنت أسترجع لقطات من الأحاديث التي تناولت ما تم يوم الثلاثاء 25 يناير، ووداعي لأصدقائي المصريين وبينهم سيد محمود وأمينة خيري وحسن عبد الموجود واحمد حجازي وغيرهم : أشوفكم على خير في مصر الحرة..او أشوفكم في مصر بعد الثورة.

إنقطعت الإنترنت في مصر، وغابت صور كل الأصدقاء على صفحة الفيس بوك، وعرفنا بانقطاع الاتصالات الهاتفية أيضا، وهكذا شرعت في الاتصال بكل من أعرف من الاصدقاء الأجانب والعرب خارج مصر لمناشدتهم في إنقاذ مصر عبر بث كل ما يتاح لهم عن أخبار يوم الغضب بكل الطرق، عبر بث رسالة جاءتني من أصدقاء في مصر ليلة الجمعة، وجاءتني رسائل من الجميع من لندن وسويسرا وفرنسا والبوسنة والمانيا من اصدقاء كتاب وصحافيين بأنهم مع مصر بأكثر مما اتخيل.. وتابعت يوميات الثورة يوما بيوم وأنا أشعر بالفخر مبهورا بما حققه هؤلاء الشباب.

فرح وبهجة فخر كبرياء وإحساس قوي بأن ما يحدث يفوق الخيال، وأننا أصبحنا على بعد خطوات من حريتنا التي كنت أظنها على بعد سنوات أخرى.

ثم عادت الإنترنت، واستقبلت أول العائدين بفرح، لكني بعد لحظات..شعرت بالأسى وتمنيت أن تعاود الشبكة انقطاعها، فقد عاد صوت المصريين عبر الفيس بوك مثخنا بالتشتت، والتباين بين تأييد الثورة وبين الدعوة للهدوء.

اكتشفت أن قطاعا كبيرا من الناس في مصر لم يعوا ما يحدث..شتتهم غياب الأمن، واختفاء رجال الشرطة، واندياح السفلة من البلطجية وسارقي عرق الناس، والهجامين،وخروج المساجين من السجون، وأذهلتهم الحرائق، وحظر التجول، فاستعادوا لحظات الأمان الوهمية التي كانوا يعيشونها قبل 25 يناير وتمنوا استعادتها باي شكل حتى لو اقتضى ذلك التشكيك في شباب الثورة او الاستجابة لاتهامات الاإعلام الرخيص الذي ادعى أنهم خونة، أو مدفوعين من جماعات أجنبية، وغير ذلك من سخافات ساذجة وغبية.

لم يفهم الكثير، وبينهم افراد هنا، من المصريين والكويتيين، أن ما يحدث ثورة شعبية حقيقية، لا تهادن، وليست لها مصالح ذاتية أو شخصية، وانها ليست وقفة احتجاجية تنتهي بانتهاء اليوم، أو بخطاب لمبارك يقول فيه أنه باق لنهاية ولايته وأنه سيغير الحكومة ويعين نائبا له.

لم يفهم هؤلاء أن هذه ثورة فقد لأجلها 300 شابا أرواحهم، ناهيك عن الجرحى ، والتقديرات لم تصل للعدد الدقيق بعد،  لم يفهم هؤلاء جميعا أن هؤلاء الشباب قدموا أرواحهم من أجل مستقبل أبناء هؤلاء الخائفين، وأنهم لم يترددوا في تقديم هذا الدم مواجهين الرصاص الحي وبلطجية النظام، وقنابل المولوتوف والحجارة والغاز المسيل للدموع والمدرعات والرصاص المطاطي، وسيارات رش المياه والجمال والخيول. قدموا أرواحهم من أجل الآخرين. ولم يكن أيا منهم يتصور ربما أن الآخرين سيبيعوا هذا الدم تحت دعاوي وجوب عودة حياتهم المستقرة فأي استقرار؟

إن أهم ما تكشف عنه هذه الثورة الفجوة الكبيرة في المفاهيم التي تحرك وفقا لها شباب الثورة، وبين أجيال أخرى ممن تربوا على السلطة الأبوية الهيراركية التي تقدس كبار السن لمجرد ان سنوات عمرهم كثيرة، أو تقدس الأب من واقع سلطته لا من حيث مدى قدرته على أداء واجباته لأسرته. جيل الثورة يعي جيدا ان المسؤول كبيرا كان  أو صغيرا  يجب أن يحاسب، وأن يعزل إذا ثبت تقصيره، وأن تقصيره هذا كفيل بهدم شرعيته، هذا اذا افترضنا أن له شرعية، وأن هيبته تحددها سلوكياته تجاه أبناء شعبه، بينما الجيل القديم وحشود القلقين يرون أنه قائد واب لا يجب أن تمس هيبته دون وعي بأنه هو الذي انتقص هيبته بنفسه حين تجاهل مطالب شعبه وتعالى عليهم وحكمهم بقانون الطواريء الاستثنائي على مدى ثلاثين عاما.

إن هذه الثورة هي ثورة شابة نبيلة فرضت تحضرها من خلال كل سلوكياتها بدءا من نبل مطالبها وهي كلها مطالب تعلي من قيمة القيم الجمالية مثل العدل والحرية في مواجهة القبح ممثلا في الفساد والبلطجة والصياعة السياسية والاستخفاف بمصائر الناس وأقدارهم على حساب حياتهم بكل ما فيها.

وهي ايضا تكشف انها ثورة حداثة بكل ما تعنيه قيم الحداثة من الوعي والفهم والنضج والاستخدام الأمثل للتقنية الحديثة في السلوك والتعبير والتنظيم وبين قيم تقليدية شاخت وانتهت تقوم على الانتهازية والبلطجة وكان مثالها الصارخ يوم نزول بلطجية النظام المأجورين بالخيول والجمال إلى ميدان التحرير.

وابرز ما كشفت عنه أيضا هو الأكذوبة التي رددها النظام طويلا ليحكمنا بالطواريء على مدى ثلاثين عاما وليكتسب دعم الغرب في نفس  الوقت، من التأكيد على ان البديل الوحيد لنظامه هو الجماعات الإسلامية أو الإخوان المسلمين، وهو ما ثبت عدم دقته على مدى الاسبوعين الماضيين حين احتشدت الملايين في ميدان التحرير بينما لا يمكن أن تميز بينهم المسلم عن المسيحي وأن تجد بين الجموع الفئات جميعا من الفقراء المدقعين والريفيين وأهل المدينة من الطبقات الوسطى والوسطى العليا ومن خريجي الجامعات الأجنببية مع الكتاب والصحفيين والفنانين وسواهم.

إن كل الذين خرجوا للمظاهرات في القاهرة والاسكندرية والمنصورة والاسماعيلية والسويس وبني سويف وباقي محافظات مصر بلا استثناء كانوا يسهمون في صياغة معنى هذه الثورة بكل شعاراتها النبيلة، على يقين بأن ما يقومون به هو السبيل الوحيد للانتقال بمصر إلى مكانها الطبيعي الذي تقهقرت عنه لسنوات بسبب الاستقرار المزعوم الذي ضحك به هذا النظام على الشعب والعالم لسنوات ولا يزال يحاول، وهذا شأنه على أي حال،  لكن المدهش فعلا أن يصدق من اكتووا بهذا الاستقرار المزيف بأنه استقرار افضل من احتمالات الفوضى.

أعتقد ان عودة مصر لحالة الفوضى المستقرة التي كانت تعيشها سيكون صعبا إن لم يكن مستحيلا، لكن ما تحتاجه هذه الثورة الآن أن يفهم الناس أن الثورة تقدم لهم يدها لكي يستندوا علي قوانين وحقوق يتساوى أمامها الجميع وليس مجرد البحث عن كبير، فالكبير هو القانون والعدل والمساوة، وغير ذلك ليس إلا قيم عتيقة اكل عليها الدهر وشرب وتجرعنا بسببها مرارة الهوان وطرد الكفاءات لصالح اصحاب الولاء غير المؤهلين وكل الخراب الذي عشناه لثلاثين عام مضت. هذه القيم المريضة – تقول الثورة- أنها الآن بلغت مرحلة الشيخوخة إن لم تكن ماتت فعلا.. فانتبهوا.

4 comments:

Unknown said...

احييك يا ابراهيم على ما كتبت.. واقول: إن تلك ثورة لن تموت.. فقد أصبح لدى كل منا ثأر مع هذا النظام.. على الكرامة والمال الذى سلب والإبعاد فى الداخل.. فى العمل وفى الحياة.. تلك ثورة نبتت بذورها داخل كل منا.. ولكل طريقته فى التعاطى معها.. ووسط شائعات لم تتأكد صحتها حول خروج الرئيس للعلاج فى المانيا.. نقول الآن انتهت فكرة المساومة على الخروج الآمن أو الكريم.. فمحاكمته وعصابته أمر واجب على الجميع.. وملاحقته دوليا حتى خرج هو أقل ما يمكن فعله لأجل أرواح الشهداء والأحياء على حد سواء.. وأقول لك نهاية: مصر الآن بالفعل أصبحت حرة فى يقين كل المصريين إلا قليلا
كل التحية
إيمان إمبابى

Michel Hanna said...

رائع يا أستاذ إبراهيم
رائع

محمود مودى said...

أتفق معك أستاذ إبراهيم

لكن أتمني أن تكتب تصورك لما يجب أن يحدث والمدد الزمنية المطلوبة حتى يمكننا القول أن الثورة جنت ثمارها تماما

Anonymous said...

جميل المقال استاذ ابراهيم
الجانب التحليلي فيها يطمئن القلق قليلا بالنسبة لمن يشعر بالخوف من مجهول المستقبل
لكن ما بعد الثورة يحتاج للمزيد من التفاصيل
جاك فارس