Saturday, February 21, 2009



رحيل الطيب صالح

أسطورة الغائب الحاضر بامتياز



ترددت طويلاً قبل قراءة "موسم الهجرة إلى الشمال" قبل سنوات طويلة، كعادتي كلما سمعت عن عمل

أدبي جماهيري، أو متفق عليه. لكن النص الفريد تمكن من إسكات أصوات ارتيابي وترددي، بل، ومع استغراقي في النص، بدا فاتنا، قادرا على إغوائي لمنطقه، كنص، يمتلك لونا من التجريبية، تراوح بين مستويات سرد خطابية وصفية، وشفاهية، وثالثة تتناول المونولوغ الداخلي للشخصية، له نبرة خاصة، والأهم من ذلك كله، أنه نص مكتوب بحرية كاملة.هذا الحس بالحرية لم يتعلق بالتعبير عن المواقف الحسية بين مصطفى سعيد وعشيقته فقط، وإنما تعدى ذلك الى التجريبية في النص، مما جعله يعبّر عن موضوع الصدام الحضاري الدامي بين ثقافتين تتهم كل منهما الأخرى ولا تزال، في صوغ فني لا يعدم الدقة ولا الإيقاع الموتر، والمتأمل في أحيان أخرى، مقدّماً نموذجا لنص رفيع المستوى، بينما ظل البطل وعشيقته يعيشان في خيالي طويلا كنموذج لذلك التناقض المرعب الذي يصوغ علاقة شديدة التعقيد عمادها الحب – الكراهية - الانتقام. وكذلك مشاهد القرية السودانية والتفاصيل، التي كان يحفرها بدقة شديدة، وهي سمة في أعماله عموما، كاشفا نسيجا مجتمعيا معقدا وبسيطا وأصيلا في آن واحد.لعل هذا الحس بالحرية هو الذي اعطى الرواية ثقلها مقارنةً بأعمال أخرى سبقت في تناول الموضوع نفسه وعلاقة المثقف العربي بالغرب، وبينها مثلا "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، لكنها بالتأكيد كانت مختلفة في تلك النبرة المتحررة التي تضمنها نص الطيب صالح باقتدار. ثم قرأت عمله البديع "عرس الزين" فتأكد إحساسي بأني إزاء كاتب متمكن، من أولئك الكتّاب الذين يبحث الفرد عن أعمالهم جميعا. لكنه كان مقتّرا في إنتاجه، إذ لم ينتج سوى خمسة أعمال، صنع بها اسطورته الخاصة، وهذه واحدة من أبرز سمات الطيب صالح حين تتأمله. فقد استطاع أن يظل حاضرا في المشهد الثقافي والأدبي العربي بقوة، على رغم قلة إنتاجه، كما استطاعت روايته أن تستقطب اهتمام القراء من جيل الى آخر، كأنها كلما مر بها الزمن تبين قارئها ظلا أو طيفا كان غائبا من قبل.ومثلما كان مقلا في إنتاجه كان مقلا في الظهور الإعلامي، أو في إجراء المقابلات الصحافية، وأذكر انني في إحدى المناسبات الثقافية في القاهرة اوائل التسعينات حاولت التسلل إلى غرفة فندقه بعدما حاولت الاتصال به طويلا بلا جدوى، لإجراء حوار صحافي. لكنه رفض ذلك بشكل قاطع، لم يخل من المودة التي حاول بها تلطيف حسمه، مؤكدا أن ليس لديه ما يقوله. وتلك مفارقة لافتة اخرى، فعلى اللرغم من إصراره التام على عدم الظهور في المشهد الإعلامي، وعزوفه ونأيه عن الأضواء، فقد ظل مكانه في الوسط الأدبي، ممتلئاً، وحضوره، بالمكانة والصيت، قويا الى درجة لا يمكن تجاهلها.عندما تلقى جائزة ملتقى الرواية العربية في القاهرة لم يعدم جمهورا عريضا من الكتّاب والقراء معا، ممن تحمسوا لحصوله على الجائزة، لكن قبوله لها إثر رفض صنع الله ابراهيم للجائزة نفسها في الدورة الأسبق، وبسبب تعليقاته السلبية الضمنية لموقف الكاتب المصري، إثر إعلان فوزه بها اصاب عددا كبيرا من المثقفين المنحازين الى موقف صنع الله ابراهيم بنوع من الفتور. لكن ذلك لم يحرك مكانته ككاتب كبير، أو يقلل من قدره لديهم كروائي من طراز رفيع كثيرا، فقد كان ذلك مما لا يختلف عليه، وذلك على الرغم من اتهامه المستمر بالتكاسل، وتوقف مشروعه الإبداعي أو نضوبه. ولعل هذا على نحو خاص من ابرز مميزاته؛ لأنه استطاع أن يظل في قلب المشهد الأدبي، دائما على رغم ذلك كله.قبل أسابيع قليلة أعلنت جهات سودانية عديدة عن ترشيحه لجائزة نوبل للآداب، لكنها من جهة أخرى، قدّمت بذلك دليلا ساطعا على عمق الأثر الذي رسّخه الطيب صالح، وتأكيده أن مشروع الكاتب ليس مشروعا كميا، بقدر ما هو مشروع فني، يتضمن ما يرغب أن يعبّر عنه، مخلصا، وإلا فليتوقف.لكن ما يثير الدهشة بالفعل هو طغيان حضوره الى الدرجة التي لم يتمكن معها اي صوت روائي سوداني آخر ان يبرز من بعده، على الرغم من أن روايته الذائعة الصيت يعود نشرها لمرة أولى الى عام 1966. هل كانت موهبته استثنائية الى تلك الدرجة؟ ام أن المناخ السوداني لم يستطع إفراز موهبة نظيرة؟لا يقين لديَّ في هذا الصدد، لكن إذا كان إحساسي بالحرية في كتابة النص أحد ما لفت انتباهي مبكرا في قراءة هذا العمل، فإنه من الممكن فهم الأمر في سياق تعرض "موسم الهجرة إلى الشمال" لمصادرة السلطات السودانية، لكن المفارقة أن ذلك القرار اتخذ بعد ما يزيد على نحو ثلاثين عاما على صدورها. وبغض النظر عن الدوافع والظروف، فقد كان موقفا مريبا، أو على الأقل تأخر كثيرا، فقد نُشرت الرواية وترجمت واثّرت في اجيال عديدة، ليس من القراء فقط، بل ومن الكتّاب ممن تناولوا الموضوع نفسه لاحقا من رؤى مغايرة عدة. لكنه ربما أحد المؤشرات عالى المناخ الرقابي الذي قد يكون سببا من اسباب تعطل الحركة الأدبية السودانية.إستطاع الطيب صالح ان يقدّم في اعماله القليلة تلك صورا دقيقة للقرية السودانية، والتراث الشعبي، وأدوات الزينة للمرأة السودانية، ونماذج من الشعر الشعبي السوداني، والتقاليد الاجتماعية. في اختصار، قدّم ذاكرة لمكان عابر للزمن، باقتدار، كما تمكن من أن يقدم الى الأجيال العربية من الكتّاب نموذجا للكاتب الحقيقي الذي لا تستهويه الدعائية، ولا وهج الأضواء، وان يقدّم الى تاريخ الرواية نماذج رفيعة من النصوص التي يتزين بها تاريخ السرد العربي المعاصر، وفي ذلك كلّه ما يعزينا في الكاتب الراحل الكبير، الذي تمثل وفاته خسارة جسدية لمحبيه، وإرثا لا يستهان به للأدب والثقافة العربيين
إبراهيم فرغلي


نشرت في "النهار" اللبنانية في 19 فبراير شباط 2009

الإعجاز العلمي

مصر التي لا يحبها أحد
بقلم فاطمة ناعوت
نشر موقعُ جريدة «اليوم السابع» خبرًا عن كتابٍ جديد صدرَ مؤخرًا عنوانُه: «الإعجازُ العلمىّ فى الكتاب المقدّس»، للكاتب صموئيل عشاى. وقامت الدنيا ولم تقعد. فيا هول التعليقات التى وردت على الخبر، حتى قبل مطالعة الكتاب، فضلا عن قراءته وتأمُّله! حتى كتابة هذا المقال، وصل عددُ التعليقات ثمانين تعليقا، أقل ما يوصف به معظمُها أنها تعليقاتٌ خاويةٌ ركيكةٌ سابَّة فقيرةُ الوعى قامعةُ الحرية مصادرةٌ على الرأى الآخر! والأخطرُ أنها تشى بفتنة طائفيةٍ وشيكة، تنضاف إلى هموم وأثقال هذا الوطن الطيّب التعس! الذى لم يعرف هذه الأوجاعَ والتصدّعاتِ والشروخات فى هيكلِ مواطَنتِه، إلا حديثا، فى تزامنٍ، حذو الحافر، مع المدّ الدينىّ الوهابىّ، وفقر الوعى، وتهدّم المُثل، وتصدّع مفهوم المواطَنة بعيدا عن العقيدة، وانهيار منظومة الجمال، التى تكرّست وتغلغلت فى أوصال مصرَ، منذ عقودٍ ثلاثة. انظروا معى طبيعةَ بعض هذه التعليقات لنبكى معا على ما وصلنا إليه من ضِعةٍ فى الفكر، وفقرٍ فى الروح.(أبدأ بدعوة الكاتب القبطى صموئيل عشاى إلى الدخول فى زمرة المؤمنين! فانه يعرف انه كاذب ومضلل! (كأنما الإيمان مرادفٌ للإسلام فقط، وتدعوه بالكاذب قبل قراءة الكتاب!)- واسلامااااااااااااااه، كيف يجرؤ هذا ال.... ليدعى هذا؟- واسلاماااااااااه اين جيش محمد ليريحنا من الاقباط اصرخوا يا نساء الملسمين فيبدوا أن الرجال قد ماتوا!- ماذا يحدث ما هذه الاكاذيب والافتراءات على دين الله الحنيف!- هلموا لنصرة الاسلام بكتابت التعليقات واننى اطالب اعضاء مجلس الشعب بتقديم طلبات لاى وزير الثاقفه لمنع الكتاب واسلامااااااااااااااااااااه اكتب هذاالتعليق واعرف جيدا ان مديرة الموقع مسيحية سوف تمنعه، لا الله الا الله سيدنا محمد رسول الله- «بسم الله الرحمن الرحيم، قل يا ايها الكافرون لست ابعد ما تعبدون ولا انتم عابدون ما اعبد، صدق الله العظيم.« ارجو من السادة مديرى الموقع رفع الخبر حالا وعليهم نصرة الاسلام بالسماح للشيوخ الاعزاء بكتابة نقد لهذا الكافر المدعو صموئيل عشاى واوجه ندائى الى كل المسبميين فى انحاء العالم الإسلامى وبلاد الغرب الكفرة ان يجهزوا اسلحتهم للهجوم على هذا المنافق. الرجاء من الجميع الكتابة للذنديق عشاى حتى يرجع عن ظلالله.- فعلا اللى اختشوا ماتوا، الخ).وقد تعمّدتُ أن أنقلَ التعليقاتِ كما هى، بأخطائها اللغوية الفادحة، حتى فى النصّ القرآنى، لتعرفوا إلى أى مدى يصل خواءُ هؤلاء المقاتلين فى سبيل دين، لا يعرفون أبجدياته الأولى، اللغة، التى هى معجزةُ القرآن! يعنى هؤلاء لا قرأوا الكتابَ المشكلة، ولا قرأوا الإنجيلَ، الذى يهاجمونه بعماء، ولا حتى قرأوا القرآن، الذى يقاتلون من أجله!!ثم يرد مؤلف الكتاب على المعلقين، ويُخطئ فى اللغة بدوره قائلا: (لم اتوقع ان مجرد خبر عن كتاب يثير هذه الطجة واتلقى كل هذه المكالمات من اشخاص متعددون منتميين لتيارات سياسية مختلفه. اشكرك الاصدقاء الذين بادروا بالاتصال بى واطمائنوا على. اما الاشخاص الذين كفرونى فاننى اشكركهم).تبًّا. ليس تبًّا وحسب لنوعية تلك العقول التى تحمل السيفَ دون تعقّل ولا وعى، بل تبًّا وألف تبٍّ لمن بدأ هذا الهَزَرَ الذى قوّضَ اتساقَ مجتمعٍ وفتّتَ أوصاله. والذى بدأ هذه الأضحوكات هو د. زغلول النجار فى مقالاته الأسبوعية بجريدة «الأهرام». تلك التى تتفننُ فى سرد إعجاز القرآن العلمىّ. كأنما عقيدة المسلم ضعيفةٌ تحتاج تلك الإثباتات لكى تترسّخ! وكلما جدّت نظريةٌ علميةٌ جديدة تنسخُ وتمحو ما قبلها، كشأن العلم دائما متجددٌ ناسخٌ غيرُ ثابتٍ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، لا يعتذر السيد النجار، بل يجد لنفسه سبيلا سفسطائيًا يتماشى مع مشروعه الذى لا طائل من ورائه سوى مزيد من هدم هذا المجتمع. فحينما يودُّ النجار أن يثبتَ أن الإسلامَ حرّمَ الربا، لا يكتفى بإثبات ذلك وجوبًا، عبر نصّ القرآن، بل يؤكدُ ذلك عن طريق «سلب» هذه المكرُمة من الأديان الأخرى! زاعمًا أن الإسلامَ هو الدين «الوحيد» الذى حرّمَ الربا! ذلك أنه لم يقرأ لا العهدَ القديم ولا الجديد. فيخرجُ عليه مسيحىٌّ غيورٌ على دينه ليفنّد له آياتٍ من الكتاب المقدس حرّمتِ الربا، بل ساوتْ بين المُرابى وبين المُشرك. فلا يعتذرُ النجارُ عن جهله بالكتاب المقدس، ولا يتراجع عن بثّه الشقاقَ بين المسلمين والمسيحيين، بل هو سادرٌ فى طريقه غير عابئ بشىء سوى مشروعه الذى أفنى فيه عمرَه، ولو على حساب وحدة هذا البلد! كأنها الحربُ! والخاسرُ الأوحد هو مصر، التى لا أحدَ يحبُّها!لذلك جاء تعليقٌ واع، وسطَ كلِّ هذا الركام المحزن الضحل من التعليقات المتشنجة، كتبه أحدُهم تحت اسم «مصرى غلبان» يقول: «نفسى أشوف البلد دى حاجة تانية، ونعدم عشاى والنجار، ونولع فى اللى مبيحبش مصر، إحنا بنحب مصر أكتر من كل ده، احرقوا عشاى والنجار
نقلا عن موقع صحيفة "اليوم السابع" القاهرية في 21 فبراير