Friday, April 25, 2008

ضـــــرب مـــــــن عنفـوان أنـــــــــثوي


"بورقيبة على مضض" ليوسف رخا
ضربٌ من عنفوان أنثوي








كلما قرأت نصا جديدا ليوسف رخا لا أستطيع أن أمنع نفسي عن مقارنة لغته الإنجليزية التي يتقنها ولا يمارس بها سوى الكتابة الصحفية، بلغته العربية "المبتكرة" التي يدخرها للنص الأدبي. سوى أنه بينما تبدو لغة يوسف رخا الإنجليزية، رشيقة وذكية، وبليغة، فإن لغته العربية هي لغة رشيقة، مبتكرة، وأصيلة، أي غير مسبوقة.
إنطباعي عن لغة يوسف أخذ حد اليقين خلال قراءتي لكتابه الأخير الصادر عن دار رياض الريس:"بورقيبة على مضض..عشرة أيام في تونس". لغته التي تصفها حنان الشيخ بأنها "لغة سحرية..لغة بساط الريح".
اشتغل يوسف على هذه اللغة منذ قرر اكتشف فكرة كتابة الرحلة التي ينتمي إليها هذا النص. نعم هذه رحلة أخرى يدونها رخا في هذا الكتاب، بعد رحلته الاستثنائية إلى بيروت، ونشر تفاصيلها في كتابه "بيروت شي محل" عن "كتاب أمكنة" قبل نحو عامين. أما هذه المرة فيطير إلى تونس. لكنه، مرة أخرى، لا يكتب نصا من تلك التي عرفت بنصوص الرحلات، بشكلها التقليدي. إنما قرر أن يذهب إلى تونس، وأن يلقي بنفسه بين أهلها، وأن يستدعي من رحلته تلك ما يصلح للكتابة.
وإذا كان رخا قد حاول أن يفهم بيروت في كتابه عنها، فإنه هنا لا يحاول أن يفهم عن تونس شيئا قدر ما بدا يحاول أن يفهم عن نفسه.
المدينة هنا ليست سوى امرأة يقترب منها الكاتب كأنه مقبل على اكتشاف بصمة خاصة لأنثى لا يمكن أن تشبه غيرها. ومن خلال علاقته بها يحاول أن يفهمها، محاولا أن يكتشف بذلك جزءا خفيا آخر من نفسه.
قبل السفر تتداعى الصور المشوشة في رأسه عن المدينة، بينما يرتطم في ليلته الأولى بعبارة "مأوى بلا مقابل" التي يُعبَّر بها في تونس العاصمة عن الأماكن المخصصة للسيارات!
هذه العبارة،على ما بها من مفارقة معناها المباشر، هي، في ذاتها، عبارة جوهرية في رحلة يوسف؛ الذي يبدو جليا أنه يبحث عن (مدينة-أنثى) يمثل كل منهما "مأوى بلا مقابل"، لكن كم يبدو هذا عصيا!
لكنه وقع في غرامها، كما وقع في غرام بيروت من قبلها، فتسللت كلمات من لسان أهلها إلى نسيج سرده . كأنها تقول ما لا يمكن أن يقوله هو بأي لغة أخرى.
وقع في غرامها، واكتشف أنها نائية، واستعاد خبرة الحياة " كلها وجع وفراق"، وكما كل وجع وفراق استثارت نفسه علاقات أساسية في الحياة، بينها علاقته بأبيه الذي يستعيد جانبا من حياته في غير موضع من الكتاب، ثم علاقته بحسن الجريتلي (مؤسس فرقة الورشة المسرحية)، بشذرات من حياته في لندن في صباه.
ولأن من وقع في غرامها(المدينة- الأنثى) عربية، فقد عاد ليقارنها بين مثيلاتها المصريات اللائي سقطن،إلا قليلا، تحت أسر "الحجاب"، ومنها تداعى إلى نقطة الانطلاق، محاولا أن يفهم كيف أن ديكتاتورين مثل ناصر وبورقيبة قد تزامن ما فعله كل منهما ببلاده، فصار كل بلد منهما ما أصبح عليه.
هذه اللغة الاستثنائية التي استخدمها يوسف في الكتابة يصح ما وصفها به بيار أبي صعب من أنها "قنبلة موقوتة"، إذ أنها بالفعل، تفجر بين لحظة وأخرى خلاصة ما يوصف بها يوسف تداعياته عن النظام المصري منطلقا من مشاهدات أول انتخابات مصرية قبل عامين مثلا، أو عن توصيفه للتدين في مصر بكونه وسيلة للتستر على المعاصي، أو وصفه لتعامل محمود درويش مع الصحفيين بمنطق بدا ليوسف سلطويا ، أو مقاربة وضع مصر وتونس الآن، حتى لو كان الفرق في الحجاب في مصر وعفة سافرة في تونس. يسخر من مشاهد الديكتاتورية في مصر وتونس، ومن رموز الحكم فيهما، وغير ذلك.
وباللغة نفسها، بكل قوة إيجازها وكثافتها، يختزل مشاهد من مأساة فلسطين، مرورا على العديد من مآسي العرب: جمهورا ومثقفين، ومستعينا أحيانا بمقتطفات لجليلة بكار من نصها "البحث عن عايدة" وهي في الأساس مونودراما عن مأساة فلسطين من تأليفها وتمثيلها. ويستعيد وقائع أساسية في التاريخ العربي المعاصر في مصر، لبنان، فلسطين، وفي تونس، محاولا أن يرى ظلال ذلك كله على حياته بما فيها لحظة ولادته في إحدى المستشفيات القاهرية.
على عكس بيروت، لم ينشغل يوسف رخا بتصوير تونس، لا بالصور التي صاحبت كتابه السابق، ولا حتى بالوصف. لا وجود حقيقيا لصورة تونس. لكن هناك عبق. كأنه يبحث هذه المرة عن الروح أكثر من محاولة الفهم عبر الصور. يتنشق النسيم التونسي فيخبطه "ضرب من عنفوان أنثوي". هل تفتقر تونس إلى جمال بيروت؟ أم أن انشغال يوسف هو الذي اختلف هذه المرة؟ لا إجابة يقينية.
حتى أغلب من التقى من نماذج أهل المدينة: السمراء ذات الرداء الكحلي في الفندق، ومرافقته "م"، والمنصف المزغني، وعادل، وغيرهم تكاد لا تعرف شيئا تفصيليا عن ملامحهم. كذلك الأمر بالنسبة للشوارع والدروب، أو العمارة التونسية، لا وجود لها في النص، كأنها مدينة خيالية، تشعر بها ولا تراها. هل انشغل الكاتب بالأفكار واللغة السحرية على حساب الصورة؟ ربما. أو أنه انساق لمنطق اللغة التي أصبحت حالا من التكثيف " الحيطان أزرق في أبيض عكس ألوان التراب".
برغم ذلك يظل نص يوسف رخا العصي على التصنيف نصا استثنائيا، يخلق بلاغته الخاصة وجمالياته على السواء، بما يؤسس شكلا مختلفا للكتابة، يهرب بها مما يصفه بانقطاع أفق التخييل في النص التسعيني، ربما، أو يحقق به ما لم يستطع سردا، وهذا أيضا وارد، لكنه في الأساس، وهذا هو المهم، يفتح ثغرة مهمة

في آفاق السرد العربي المعاصر


نقلا عن (النــــهار) في ابريل 2008.

No comments: