Showing posts with label نقد - فكر - قضايا. Show all posts
Showing posts with label نقد - فكر - قضايا. Show all posts

Sunday, March 2, 2014

نوال السعداوي.. الأنثى هي الأصل!

لا تزال تحمل قضايا الحرية والمساواة والعدل بين أولوياتها
نوال السعداوي.. الأنثى هي الأصل!
 


إبراهيم فرغلي
 
لا اذكر أي منهما قادني للآخر "الأنثى هي الأصل"، أم "المرأة والجنس"؟ الكتابان الأساسيان من بين كتب الدكتورة نوال السعداوي، اللذان شاركا في توجيه عدة أجيال في مصر باتجاه فهم قضية حرية المرأة وفق أسس ثورية ومختلفة. لكني أذكر جيداً أنني قرأتهما متتابعين وعمري سبعة عشر عاما. وأظنهما الكتابان اللذان أسهما في تشكيل رؤيتي لقضية المساواة في المجتمع من منظور مختلف، وفي تغيير الكثير من سلوكياتي وأفكاري الذكورية المتوارثة في مجتمع يقدم فكرة القوامة باعتبارها مسألة بديهية تماما، مسيجة بهالة القداسة الدينية، ومحمية بتراث اجتماعي رهيب من احتقار المرأة والآخر.
وأزعم أن اهتمامي الكبير بالجنس في الكتابة الأدبية، ومحاولات تقمص الصوت الأنثوي في العديد من نصوصي، واقتراح كتابة نص أدبي بنبرة محايدة، إنسانية؛ لاذكورية ولا أنثوية، تعود أصوله الأولى للأفكار التي تعرفت عليها من خلال نوال السعداوي.
بدأت تلك الأفكار مما أصبح اليوم بديهياً عن مفهوم "العفة"، الذكوري، والازدواجية المقززة لمجتمع صنّم فكرة شرف المرأة في غشاء البكارة، وتسبب في ممارسات إجرامية عديدة في حق المرأة، وقهرها جنسياً واجتماعياً، فيما الأبواب السريّة لكل مظاهر اللاعدالة والكذب والدعارة الفكرية والأخلاقية مشرعة على اتساعها.
 بعد أن رسخت وجودها الفكري في المجتمع، أصبحت بعض آرائها تبدو وكأنها تبتغي الإثارة وتحمل طابعا دعائيا، تأخذ أشكالا من التطرف الذي لا يتناسب حتى مع حركات النسوية الجديدة التي لا ترى في المساواة إلغاء لأنوثة المرأة وهويتها الجنسية. والتي لا ترى أن الجمال والموازنة بين المظهر والعقلانية إثما في حق المساواة. أي أنها تعيد تأمل الكثير من الأفكار النسوية التقليدية من وجهة تأكيد الاعتبارات الجسدية الخاصة بكل من الرجل والمرأة، كما تمنح التكوين الطبيعي للمرأة من حيث قدرتها على احتواء روح أخرى (الأبناء) أهمية تقدير اعتبارات عاطفية تميزها عن الرجل من حيث فطرية الاهتمام بالآخر وغير ذلك من أفكار أعادت للمرأة لمستها الأنثوية المسلوبة من أفكار النسوية التقليدية.
ومع ذلك ففي النهاية يمكن القول أنه من حيث الجوهر لا يمكن أن نرى في الأنثوية أو أفكار النسوية الجديدة الا اتفاقا رئيسا مع جوهر مطالب النسوية التقليدية تصب في خانة دعم العديد من المطالب التي لا تخص المرأة العربية فقط، بل تمتد للمرأة في الغرب أيضا؛  مثل قضايا الحقوق الإنجابية (التي تتضمن – دون أن يحدها ذلك- الحق في اختيار إجهاض آمن وقانوني، منع الحمل، ونوعية الرعاية الصحية المتوفرة للأمهات)، والعنف في العلاقات الأسرية، وإسقاط الحمل، والتحرش الجنسي، والتحرش في الشوارع، والاغتصاب، والتمييز، وعدم المساواة في الأجور. وعموما فهناك العديد من القضايا الخلافية التي تنتج من تطور الفكر النسوي، مع ظهور تيارات جديدة مثل الأنثوية التي تمنح الحرية الجنسية الكاملة للأنثى، وهو ما تعارضه تيارات نسوية أخرى.
 وبالرغم من كل ذلك، ومن كل ما قد يكون مصدرا للاختلاف مع السعداوي، في النسوية وفي السياسة وغيرهما، تظل الكثير من أفكار نوال السعداوي ذات أهمية كبيرة تتحقق من حيث كونها محاولة تثوير فكري للمجتمع، في اتجاه العقلانية، من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل عام.
تقول السعداوي :"ليست المشكلة عجز العقل البشري, بل النظم الحاكمة الظالمة بقوة الأموال والإعلام والدين والسلاح, واستخدام اللعب السياسية والكلمات المراوغة لإخفاء الظلم والتفرقة"، وتتساءل حول مظاهر اللاعقلانية في المجتمع: "هل توقفت عقولنا عن التطور حتي يسيطر علينا اللامعقول ؟ كيف لأستاذ جامعي أن يعلق بعنقه خرزة زرقاء تقيه الحسد؟ كيف لأستاذة جامعية متخصصة بالنانو تكنولوجي أن تغطي رأسها لأنه عورة؟"، وتتساءل عن غياب العدل الاجتماعي بشكله الفاجر في مصر قائلة: "كيف يعيش1% من المصريين في القصور و95% في القبور؟".
وتظل أفكارها الأساسية التي طرحتها في مطلع السبعينات وتناولتها في أكثر من كتاب هي ما تناضل من أجله حتى اليوم، وهو ما عبرت عنه في "المرأة والجنس" مثلاً، بقولها: "المقاييس الأخلاقية الي يضعها المجتمع لابد أن تسري على جميع أفراده بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. والمجتمع الذي يؤمن بالعفّة في الجنس كقيمة خلقية، لابد أن ييسر أن تسري هذه القيمة على جميع أفراد المجتمع، أما أن تسري على جنس دون الجنس الآخر، أو على طبقة دون الأخرى فهذا يدل على أن هذه العفة ليست قيمة أخلاقية وإنما قانون فرضه النظام الاجتماعي القائم. وقد رأينا في المجتمعات الرأسمالية كيف كان الحكام الرأسماليون يفرضون على العمال والأُجراء قيماً أخلاقية معينة تضمن زهدهم في الحياة، وقناعتهم بأجورهم الضئيلة، وخضوعهم للقوانين الرأسمالية الجائرة، وتطوعهم في الجندية للدفاع عن مصالح هؤلاء الحكام وأطماعهم الاستعمارية. هذا في الوقت الذي يستمتع فيه الحكام الرأسماليون بقيم الجشع والنهم والربح المتزايد، والإفراط في كل المُتع التي حرموها على الطبقات الكادحة. واذا كان الرجال هم السادة في المجتمع فقد دعوا النساء الى الالتزام بقيم الشرف والعفة ليضمنوا خضوعهن على حين ينطلق الرجال مبيحين لأنفسهم الاستمتاع بكل ما حرموه على المرأة".
ولا تزال إسهامات الدكتورة نوال السعداوي الفكرية اليوم، في مرحلة ما بعد الثورات والانتفاضات العربية لها أهمية كبيرة، لأنها تؤدي دوراً أساساً ينطلق من يقينها أن الثورة الحقيقية ثورة عقلية، وأن المستقبل هذ الذي سيفجر هذه الثورة بعد أن بدأت الثورة الاجتماعية والسياسية.
يحسب لنوال السعداوي خوضها المستمر للمعارك المختلفة ضد التخلف والرجعية والأفكار الظلامية، وهو ما عرضها للعديد من المتاعب ومحاولات النيل منها من قبل خصوم حرية الفكر، والذين قاموا بتكفيرها أكثر من مرة كما أقاموا دعوى لتطليقها من زوجها، إضافة إلى الحملات المنظمة لتشويهها وتشويه أفكارها باجتزاءات مُخلّة، انتزعت من غير سياقها، من مقابلات تلفزيونية في برامج حوارية مختلفة، وبعض المقالات. فمثل هؤلاء لا يمكن أن يكونوا قرأوا لها كتابا، لا لها أو لغيرها.
وهي بذلك تضرب مثلا مهما يوضح كيف أن مجتمعاتنا العربية الذكورية التي لا زال التخلف سمة أساسية يجول في ربوعها بلا رادع، لا تكتفي بمحاولات قهر المرأة جنسياً واقتصادياً واجتماعياً وعاطفياً، بل ومحاولة إرهابها فكرياً إذا حاولت أن تناصر الأفكار المناهضة لقمع المرأة.
تعرضت نوال السعداوي للسجن في سبتمبر 1981م، في أواخر فترة حكم الرئيس السادات، كما تعرضت للنفي بسبب إرهاب معارضي آرائها ومؤلفاتها، وتم رفع قضايا ضدها من قبل بعض الأشخاص المحسوبين على التيارات الإرهابية للتفريق بينها وبين زوجها، وتم توجيه تهمة "ازدراء الأديان" لها، كما وضع اسمها على ما وصفت ب"قائمة الموت للجماعات الإسلامية" حيث هددت بالموت. كما رفضت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في مصر في 12 مايو 2008 م. إسقاط الجنسية المصرية عن المفكرة المصرية نوال السعداوي، في دعوي رفعها ضدها أحد المحامين بسبب آرائها المدافعة عن حقوق المرأة.
 
نوال السعداوي
نوال السعداوي (ولدت في 27 أكتوبر 1930)، طبيبة، ناقدة وكاتبة وروائية مصرية ومدافعة عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة بشكل خاص. ولدت في مدينة القاهرة، وتخرجت من كلية الطب جامعة القاهرة في ديسمبر 1954، وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة وتخصصت في مجال الأمراض الصدرية.
وفى عام 1955 عملت كطبيبة امتياز بالقصر العيني، ثم فُصلت بسبب آراءها وكتاباتها.
وتدور الفكرة الأساسية لكتابات نوال السعداوي حول الربط بين تحرير المرأة والإنسان من ناحية وتحرير الوطن من ناحية أخرى في نواحي ثقافية واجتماعية وسياسية. ومن بين أعمالها:
مذكرات طبيبة 1960، المرأة والجنس 1969، الأنثى هي الأصل 1971، الرجل والجنس 1973، الوجه العاري للمرأة العربية 1974، المرأة والصراع النفسي 1975، أوراق حياتي 2000، مذكراتي في سجن النساء، الزرقاء (مسرحية). قضايا المرأة المصرية السياسية والجنسية، معركة جديدة في قضية المرأة، الإنسان .. اثني عشر امرأة في زنزانة، موت الرجل الوحيد على الأرض(رواية)، تعلمت الحب، توأم السلطة والجنس، رحلاتي في العالم، كانت هي الأضعف (رواية). امرأة عند نقطة الصفر (رواية). سقوط الإمام (رواية) وغيرها.
نشرت في النهار- بيروت - في 18 ديسمبر 2013 

وزراة الثقافة الإخوانية ترث ميراث الفساد


أزمة وزير الثقافة المصري الجديد مع المثقفين إلى أين؟
وزراة الثقافة الإخوانية ترث ميراث الفساد







إبراهيم فرغلي

 مقال نشر في النهار - بيروت في فبراير 2013

عقب الأسابيع الأولى للثورة المصرية التي اندلعت في 25 يناير 2011، أثار عدد من المثقفين المصريين مجموعة من المناقشات والأفكار والاقتراحات التي كانت ترى ضرورة إعادة النظر في الكثير من الثوابت، وبينها فكرة ضرورة وجود وزارة الثقافة نفسها، بعد أن تبين مدى غياب الثقافة الفادح في الدولة المصرية، برغم وجود هذ الكيان الهائل، بكل مؤسساته وأجهزته الخاصة بالنشر والترجمة والفنون وسواها، والذي كان من المفترض أن يلعب دوراً بارزاً في إشاعة الثقافة في المجتمع.

لكن التطورات الأخيرة وخصوصا عقب تولي الوزارة اخيرا شخصا أثار وصوله لمنصب وزير الثقافة، وهو علاء عبد العزيز، جدلا واسعا، متبوعا بمجموعة من الاستقالات لعدد من أبرز رجال الوزارة، بسبب عدد من القرارات الاستفزازية التي اتخذها الوزير سواء بإقالة عدد من المسؤلين مثل أحمد مجاهد من منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب، ورئيس قطاع الفنون التشكيلية صلاح الميلجي ، ثم إقالة مديرة الأوبرا إيناس عبد الدايم.

وبالرغم من القلاقل التي أصابت الحكومات المتعاقبة خلال الفترة الانتقالية التي تولى فيها المجلس العسكري إدارة البلاد، وتلك التي أعقبت وصول الدكتور محمد مرسي للحكم، فإن وزارة الثقافة حاولت أن تبدو متماسكة، نسبيا، من خلال تواجد د.عماد أبو غازي وزيرا في المرحلة الانتقالية، وخلفه الدكتور شاكر عبد الحميد في حكومة الجنزوري، ثم تولي الدكتور صابر عرب المنصب من بعده، مقارنة بالعديد من مؤسسات الدولة المصرية، حتى تقلد الوزير الجديد منصبه.

 

فبعد أقل من مرور ثلاثة اسابيع على وصول علاء عبد العزيز للمنصب الجديد بدأت ظاهرة الاستقالات الجماعية، إذ قدّم الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة؛ سعيد توفيق، استقالته من منصبه احتجاجا على  ما أسماه "الأجواء المسمومة التي باتت تخنق الأنفاس وتشل العمل الثقافي والإداري في وزارة الثقافة"، وعلى سياسة الوزير في "أخونة" قطاعات الوزارة.

وأبدى توفيق ايضا اعتراضه على ما اعتبره "السعي بإصرار نحو تنفيذ سياسة اخونة الوزارة الذي بات واضحا للعيان"، مشيرا إلى "تصعيد من يميل بالولاء لجماعة الاخوان المسلميين، رغم تقييمهم السلبي بالنسبة لمهام عملهم".

وأكد توفيق أنه يقدم استقالته، أيضاً، احتجاجاً على "سياسة التنكيل التي يتبعها الوزير مع الكثير من قيادات الوزارة، حتى لو كانوا من اصحاب الكفاءة والخبرة".

جاءت استقالة توفيق عقب استقالة العديد من الشخصيات الثقافية من مناصبها في وزارة الثقافة مثل الشاعر عبد المعطي حجازي من تحرير مجلة "ابداع" الصادرة عن وزارة الثقافة، وأسامة عفيفي رئيس تحرير مجلة "المجلة" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، اضافة الى استقالة مجلس أمناء بيت الشعر. وخيري دومة من المجلس القومي للترجمة، إضافة إلى أعلان الروائي بهاء طاهر، استقالته من عضوية المجلس الأعلى للثقافة، احتجاجاً على استبعاد الدكتورة إيناس عبد الدايم، من رئاسة دار الأوبرا المصرية.

واعتراضا على قرار وقف انتداب إيناس عبد الدايم كمدير لدار الاوبرا، وهو ما أثبت وجود موقف "إخواني" خلف هذا القرار الذي تزامن مع ما أشيع عن وقف حفلات رقص الباليه، اعتصم العاملين بدار الأوبرا المصرية في دار الأوبرا، وتضامن العديد من الفنانين والمثقفين مع رفض قرار وزير الثقافة الدكتور علاء عبدالعزيز إنهاء إنتداب الدكتورة إيناس عبدالدايم من منصبها كرئيسة لدار الأوبرا المصرية، وتعليق كافة العروض الفنية والأمسيات الشعرية وسواها.

كما تظاهر العشرات أمام مبنى الأوبرا تحت عنوان "وقفة الإنذار الأخير" للمطالبة بإقالة وزير الثقافة الذي أثار تعيينه جدلاً كبيراً ويرفض توليه الوزارة العديد من المثقفين، فيما شارك في الوقفة عدد من الفنانين والسياسيين منهم أعضاء بجبهة الإبداع ومحمود قابيل، خالد صالح، سامح الصريطي، جلال الشرقاوي، يحيى خليل وغيرهم. كما شاركت مجموعة أخرى من المثقفين والفنانين أمام مكتب وزير الثقافة للمطالبة بإقالته.

من جهته، وبالطريقة نفسها التي يسلكها رئيس الوزراء وأغلب أعضاء حكومته، لم يبالي بتبرير قراراته، وأصدر وزير الثقافة قراراً بتعيين بدر الزقازيقي رئيس الإدارة المركزية لشؤون خشبة المسرح، رئيساً لدار الأوبرا. وأصر على التأكيد بأن ما يقوم به هو عملية تطهير للوزارة.

وأعرب عن رأيه تجاه المعارضين عبر الصفحة الرسمية لحزب الحرية والعدالة، وقائلا:"إن الصبيان الفاسدين داخل الوزارة والذين تربوا على النهب وسرقة أموال الشعب لن يستطيعوا تشويه ما يفعل من عمليات تطهير داخل وزارة الثقافة". وأضاف عبدالعزيز "مهمتي الارتقاء بالثقافة المصرية بعد ثورة مجيدة ارتوت بدماء الشهداء الطاهرة".

وهو خطاب يشبه تماما نفس خطاب كل القيادات الإخوانية، بداية من رئيس الجمهورية محمد مرسي، مرورا بكل رموز الإخوان في الدولة، الذين استخدموا "دماء الشهداء" سلما للنفوذ والسيطرة على مفاصل الدولة بعد الثورة، رغم أن قتلة هؤلاء الشهداء، لا يزالون يحصلون على أحكام قضائية بالبراءة، يوما بعد آخر، في ظل حكومة الإخوان.

وبالرغم من كل هذا الضجيج في الحقيقة، فإنني، وبشكل خاص، لم أجد في هذا الضجيج نبرة تشدني للانتباه، أو للتعاطف.

لأنني ومنذ فترة طويلة، أي من قبل الثورة بسنوات أجد أن أزمة الثقافة في مصر لا علاقة لها بوزارة الثقافة بقدر ما لها علاقة بالمثقفين أنفسهم، أو بقطاع كبير منهم، وبأزمة تعاطيهم مع فكرة الثقافة ومع كيان وزارة الثقافة.

فقد تحول دور وزارة الثقافة، منذ زمن طويل يعود لعصر السادات، من كونها مؤسسة هدفها انتشار الثقافة والفكر والارتقاء بالحس الفني وتوفير المنتج الثقافي والفني لكل المواطنين،  من خلال دعم تلك المنتجات، كما كان الحال في عهد ثروت عكاشة، إلى أن أصبحت مؤسسة تهدف أن تكون بوقا للدعاية للدولة، في عهد الدكتور عبدالقادر حاتم، ومن جاء بعده، بهدف إضفاء صورة عصرية على السلطة بوصفها الدولة المنتجة للثقافة والفنون، بينما تقوم، من جهة أخرى، بعمل نوع من الصفقات مع المثقفين لكي تستميلهم إليها وتتجنب انتقادها، والإيهام بأنها الحاضن الأساسي للمثقفين.

وفي هذا الوضع امتلأت المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة مثل الهيئة العامة للكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، ودار الأوبرا، وسواها، بجيوش من الموظفين، (تبلغ تقديراتهم نحو 90 ألف موظفا)،  ممن لا علاقة لهم بالثقافة من قريب أو بعيد، من الذين أتيحت لهم فرصة عمل في السكرتارية والإدارة أو المطابع أو الأقسام الأخرى المشابهة. وأصبحوا يشكلون قوة كبيرة داخل مؤسسات الوزارة، أدى إلى انهم مارسوا لوناً من ألوان الرقابة داخل الوزارة، حيث أثيرت العديد من قضايا الرقابة التي أجراها عمال مطابع الهيئة العامة للكتاب في عهد الدكتور سمير سرحان حين كان رئيسا للهيئة، والذي خضع لهم، مع الأسف، في أكثر من مرة ، وساهم في نشر أعمال أدبية "مراقبة"، أو مبتورة، لكبار كتاب مصر.

وفي كل المرات التي تعرضت فيها وزارة الثقافة لأزمة من أزمات قضايا حرية الرأي والتعبير، تنازلت الوزارة عن هذا الحق، وخضعت لابتزاز القوى المحافظة والرجعية؛ التي كانت وراء إثارة كل أزمة من تلك الأزمات، إما بإقالة مسؤلين عن السلاسل الأدبية، أو بمصادرة كتب أو رقابة بعض آخر منها.

أما ما يتعلق بالكثير ممن يطلق عليهم لقب مثقفين في مصر فقد وجدوا في مؤسسات الوزارة مجرد وسائل للارتزاق، إما بالحصول على تفرغ مرة، أو بالعمل في هيئة من الهيئات أو إدارة سلسلة من السلاسل، أو بغير ذلك من المزايا التي كانوا يسعون لها سعيا.

 وكفّوا بذلك عن توجيه النقد الواجب لكافة مظاهر الفساد في الوزارة التي كان واضحاً وجلياً أنها تمارس دورا دعائيا بامتياز، من مثل إقامة مهرجانات واحتفالات، والسعي للتأكيد على "ضخامة المنجزات"، أو تقسيم جوائز الدولة وفقا لأهواء ومصالح المنتفعين واللجان وسوى ذلك.

بقول آخر فإن الكثير من المثقفين المصريين كانوا يجدون في الوزارة والفرص التي توفرها لهم؛ سواء كانت فرصا للنشر المجاني، أو للحصول على مزايا عينية أو مادية، كان يقلص من فكرة الاستقلالية التي يفترض أن يتمتع بها أي مثقف.

مع التأكيد أن أي مثقف يمكن له أن يحافظ على استقلاله، حتى لو تعامل مع الوزارة بأي شكل، لأن هذا حقه في النهاية. لكنه لا يجب أن يعتبر هذا الحق منحة من قيادات الوزارة لكي يشيد بهم أو يتجنب انتقادهم، أو يتغاضى عن فساد من يمتثل فيهم لقواعد الفساد.

وبالتالي ففي ظل انشغال الكثير ممن يعتبروا مثقفين، بمنافعهم الصغيرة، وفي ظل تزايد جيش الكادر الإداري، أصبح من السهولة بمكان أن يتم تحويل توجه الوزارة من موقفها الليبرالي المستنير، المفترض، إلى أي توجه محافظ آخر مما يرغب فيه الإخوان بسهولة، وبالتالي أيضا من الممكن بسهولة أن تسير القافلة في وجهة المصادرة والرقابة ووقف فنون الرقص والباليه، وهو ما يبدو توجها إخوانيا محضا يتبناه رئيس الجمهورية نفسه، خصوصا بعد ان أذاعت إحدى القنوات الفضائية المصرية قبل ايام تسجيلا عمره ثماني سنوات لحلقة من برنامج حواري استضاف الدكتور مرسي بصفته آنذاك نائبا في مجلس الشعب عن الإخوان المسلمين مع الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي كانت تناقش مطلبا تقدم به النائب الإخواني لإغلاق مدرسة لتعليم الرقص بدعوى أنها تحض على الإثارة.

بوصف آخر  كما يقول الكاتب المصري محمد علاء الدين قائلا:" فقد سُلمت الدولة المصرية كما نعرفها بجهاز أمن دولتها، ومخابراتها، ووزارة إعلامها ووزارة ثقافتها، وكل أذرعتها التنفيذية والسلطوية لقبضة الإسلام السياسي".

وهو في مواجهة ذلك يقترح الاعتماد على لا مركزية حقيقية في مثل هذا المجال. بمعنى أن يتحرك المجلس الأعلى للثقافة بحرية اوسع بكثير، وكذلك كل الهيئات التي يسيطر عليها وزير واحد، بتوجه واحد، وعقلية واحدة ويقول متسائلاً: "أليس من الأفضل تحويل كل هذه الهيئات إلى هيئات مستقلة تحصل على تمويلها من الدولة ولكن يديرها مجلس أمناء مستقل، كما نجد في التجربة البريطانية مثلا؟".


لهذا فإنني أظن انه بات واضحا اليوم  أن إنعاش الثقافة المصرية لم يعد في حاجة لوزارة الثقافة، بقدر ما يحتاج لكيانات أهلية، مستقلة، تتولى الإنفاق على النشر، والاستثمار في الأنشطة الفنية والثقافية، كما هو شأن ساقية الصاوي مثلا، وكما شأن المكتبات الخاصة، وكما فعلت بعض المؤسسات الخاصة التي انشأت جوائز أدبية أهلية مثل مؤسسة ساويرس.

لكن ما نحتاجه اليوم أكبر من ذلك بكثير وأكثر طموحاً لمواجهة ما خلفته إدارات الثقافة السابقة، من فشل  وفساد، ومن خلق مناخ إداري ملائم، غير مؤهل للعمل الثقافي، لكي ينمو مع أي توجه محافظ ومتخلف مثل توجهات الوزير الجديد، هو تكاتف المثقفين والمبدعين الحقيقيين والمستقلين من أجل إنشاء ودعم كيانات مدنية أهلية مستقلة ودعوة رجال الأعمال ومحبي الثقافة والداعين للدولة المدنية في إنشاء كيان ثقافي ضخم يمثل البديل، القادر على إنتاج الفنون الرفيعة في المسرح والسينما والأدب والدوريات الأدبية والفكرية والنشر الفكري والإبداع عموما. البديل القادر على مواجهة كيان مؤسسي تم تسليمه بالكامل إلى الإسلام السياسي.

 

Saturday, December 28, 2013

Ibrahim Farghali: المفكر لا المثقف

Ibrahim Farghali: المفكر لا المثقف: المفكّر لا المثقَّف من مقالة للشاعر اللبناني أنسي الحاج، نشرت في الأخبار البيروتية نشرت في 3 فبراير 2009 أن تنهل الثقافة من...

Tuesday, December 17, 2013

علياء المهدي وفيلم عن المثلية وملحد

 
فرادى يصنعون ثورة ثقافية بعيدا عن الميدان!
إبراهيم فرغلي
 

ينشغل الكثير من المصريين اليوم بحوار عبثي عن الفارق بين 25 يناير و30 يونية، وما إذا كان الأول هو تاريخ لثورة شعبية حقيقية أم مجرد مؤامرة خارجية إخوانية! فيما يرى الكثير من فلول عصر مبارك، أو يحلو لهم أن يتصوروا، أن تاريخ خروج الشعب المصري لإعلان رفضه التام لوجود الإخوان في حكم مصر هو التاريخ الحقيقي للثورة.
شخصيا لا أحب هذا النوع من الجدل العبثي، ولا محاولات ليّ الحقائق وفقاً للأهواء، وأفضل بدلا من هذا العبث تأمل الفعل الشعبي الجماعي الذي أسقط مبارك في فبراير شباط 2011، وما تلاه من وقفات احتجاجية واعتصامات، وصولا للخروج التاريخي للمصريين في 30 يونية ضد الإخوان من جهة ما إذا كان فعلا ثوريا يتضمن رفضا للاستبداد والديكتاتورية والفشل الإداري، ولمشروع توريث الحكم كذلك، ويمتلك رؤية شاملة للبديل المفترض أن يستبدل به النظام القديم الغابر؟ بصوغ آخر أتأمل الأحداث "الثورية" من حيث النتائج على الأرض.
والحقيقة أن الجزء الأول من السؤال يمكن الإجابة عنه بسهولة؛ عبر رصد الأحداث التي نجحت في إسقاط رأس نظام مبارك الديكتاتوري، أما الشق الثاني من السؤال،  وعبر عديد الشواهد مما بذله النشطاء والثوار في الفترة اللاحقة لسقوط مبارك، فإنها تجعلني أتريث كثيرا، خصوصا وأن الثوار في غالبيتهم العظمى تفرقوا وتشرذموا من دون تحديد برنامج واضح لمطالب الثورة، ولم يتمكنوا حتى من الالتفاف حول مرشح رئاسي يمكنهم أن يقنعوا به جماهير الشعب، ولم يقدموا برامج ثورية للتوعية والأعمال المدنية الخاصة بالتنمية في المجتمع. ,اخفقوا في مشاريع ثقافية مستقلة يوضحوا من خلالها مفهومهم للثقافة والإعلام في مرحلة ما بعد الثورة. وباستثناء بعض المشروعات المستقلة مثل (الفن ميدان)، وبعض الحملات التي قامت بدور كبير في توضيح مدى سوء ممارسات المجلس العسكري في الفترة الأولى من المرحلة الانتقالية مثل عسكر كاذبون ولا للمحاكمات العسكرية والوقفات القوية ضد كشوف العذرية، فإن عملا ثوريا حقيقا لم يقدم نفسه للمجتمع من قبل أي قوة ثورية. بل إن المخطط الإخواني للوصول إلى الحكم بالتنسيق مع المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي وبعض القوى الخارجية، تم تمريره ووصول الإخوان للحكم، وكتابة دستور ظلامي يعود للقرون الوسطى تحت سمع وبصر المجتمع الثوري كاملا، والذي لم يكتف بهذا التمرير، بل إن بعض النشطاء والكتاب وغيرهم شجعوا على هذا المسار الذي كان عواره جليا للجميع حين تمت الموافقة على ترشح أشخاص مشكوك في صلاحيتهم القانونية للترشح مثل المرشح الإخواني محمد مرسي الذي نجح في الوصول إلى الحكم.
واليوم خلال الأحداث التي أعقبت تدخل الجيش لتنفيذ المطلب الشعبي بإقالة مرسي، تبين مدى الضحالة السياسية والثورية التي يتمتع بها العديد من النشطاء، الذين بدوا وكأنهم لم يتعلموا درس خيانة الثورة، من قبل الإخوان وداعميهم، وتحول النشطاء إلى محترفي كتابة التغريدات وبثها على تويتر، في محاولة لتبرير ما يفهمونه عن النقاء الثوري، باعتبارها جوهر مبادئ الثورة، وكأن ضياع البلاد الذي كان جليا لكل ذي نظر في عهد الإخوان لم يكن كافيا أو دافعا لهم لكي يعيدوا تأمل واقع الأمور، والتفريق بين فكرة العمل السياسي حين تمارسه جماعات سياسية مدنية سلمية وبين ممارسته على يد جماعات تدعي احتكارها للدين، وتخلط عملها السياسي بالإسلام، وتدعو للعنف في مواجهة من يرفض الفكرة في المجتمع. وظهرت فتاوي من الناشطين تشبه فتاوي الإخوان !
هذه المساخر الثورية في الحقيقة كشفت مدى قلة خبرة العديد من النشطاء، وقدرتهم المحدودة على رؤية الأمورالتي تقع تحت أقدامهم فقط، وعدم مد فكرة الثورة باعتبارها عملا جماعيا كبيرا، الميدان جزء واحد منه فقط، بينما تثوير المجتمع خصوصا في الريف والصعيد هو جانبه الأهم. وغرورهم على غير أساس سوى من أرقام متابعينهم على تويتر، وعدم قدرتهم على نقد الذات وإجراء حوار حقيقي بين مختلف التيارات الثورية لعمل تصور واضح لمسيرة الثورة وبرنامجها وكيفية تنفيذه بالاستناد إلى الخبراء في كل مجال، بدلا من الادعاء بما لا يفقهون عن جهل فادح. وهذا ما أدى إلى انسياقهم إلى المسار الخيالي الرومانسي الذي يثير الاشتباه بالدعم الغربي، بدلا من قراءة الواقع بوعي، والعمل المشترك المنظم، وتفعيل الفكر الثوري الذي يقول أن الثورة لا يمكن أن تطرح أسماء أشخاص أو أفراد لمجرد أنهم لم يكونوا أطرافا في النظام البائد، أو لأنهم يعرفون بعدم التورط في الفساد، حتى لو كانوا في المقابل بلا خبرة من أي نوع. وكان المفترض أن يطرح تصور للحكومات المقترحة بما يجب عمله كأولوية أولى تستوجب المحاسبة من القوى الثورية حال عدم اكتمالها.

 
بصوغ آخر فإن الخيال الثوري الفقير، وقلة الخبرة، والانشغال بالتفاصيل على حساب استراتيجية تحول الإرادة الثورية لبرنامج عمل كان من نتيجتها خطيئتين كبيرتين: الأولى وصول الإخوان للحكم، والثانية عودة رموز رجال مبارك بعد تاريخ الثالث من يوليو تموز، إلى الواجهة، وكأن ثورة لم تقم، وكأن شبابا لم يبذل روحه من أجلها. أي أن الأمر يبدو هنا، وبتعبير الصديق الشاعر ناصر فرغلي الذي أستعير فكرته اللامعة، كأن الثورة أصبحت فعلا للمقاومة والاحتجاج فقط وفقدت بالتالي معيار الفعل الثوري الحقيقي.
في المقابل هناك عدد من الظواهر التي تشكلها أعمال فردية بعيدة تماما عن الحشود والميادين والهتافات، أظنها تتضمن في جوهرها، مهما اختلفنا حولها واختلف تقييمنا لها، قيما ثورية عميقة، لما توفره من ضربات قاسية لجمود القيم الاجتماعية وللقيم الجماعية المتمثلة في الازدواجية وشيوع خطابات مزيفة عن أخلاقيات عتيقة في جوهرها تقبع كل ألوان السادية والعنصرية والتمييز واحتقار المرأة واحتقار الاختلاف.
ولا زلت على يقين، كما كتبت هنا من قبل أن صورة علياء المهدي العارية التي وضعتها على مدونتها على الإنترنت، كانت أول فعل ثوري فردي خاص يعبر عن ثورة امرأة شابة بطريقتها. وفعل ينتمي لتحدي قيم الذكورية العربية بقوة.

 
من بين ما استلفت الانتباه بقوة أيضا تظاهرات طلبة إحدى مدارس القاهرة اعتراضا على منع كتاب الأيام لطه حسين من التدريس. وهو في تقديري معيار ثوري بامتياز ولأول مرة في التاريخ الحديث أن يتظاهر طلبة ضد الرقابة ولأجل رمز ثقافي وتنويري بارز. وهذا الوعي الجديد في تقديري له أهمية مئة اعتصام في ميادين القاهرة.
الظاهرة الثالثة هي ظهور ملحد لأول مرة على شاشة التلفزيون المصري، يجهر بإلحاده، مغامرا بحياته، وسمعته ومعرضا نفسه لسخافات مذيعة تلفزيونية ريهام السهلي، كانت ترى الشاب كأنها تواجه مريضا نفسيا أو وحشا مخيفا حاولت أن تسخر منه لأجل ان تتغلب هي على مفاجأتها دون أن تدرك أن وجودها الإعلامي مثل غيرها في الإعلام المصري وربما العربي، هو أخطر ما يعانيه هذا الإعلام. هذا فعل ثوري بامتياز، لأنه بالإضافة للشجاعة التي ربما لا يمتلكها مئات من المثقفين والملحدين العرب في الإعلان عن إلحادهم لما يمثله ذلك من كونه تقريبا دعوة للانتحار، فإن هذا الفتى أشعل شمعة مهمة في نفق الحريات العربي المعتم باستمرار.
أما المثال الرابع للعمل الفني الثوري فيتمثل في أول فيلم مصري يتناول قضية المثلية في مصر كقضية أو موضوع رئيس. وهو فيلم "أسرار عائلية" من إخراج هاني فوزي، ورغم ان الفيلم لم يعرض بعد، بسبب الرقابة وإصرارها على حذف بعض المشاهد، لكن العديد من النقاد الذين شاهدوا العرض الخاص للفيلم كاملا تحدثوا عن العديد من إيجابيات الفيلم، ونقاشه لسؤال مهم هو هل المثلية الجنسية حرية شخصية أم مرض نفسي؟ وهو سؤال يستحق أن يطرح في مجتمع ما بعد الثورة كما أسئة كثيرة أخرى بعضها طرح وبعضها ينتظر انتهاء مهاترات النشطاء والثوار والقوى السياسية وفلول النظام القديم والإخوان التي تحرك المجتمع "المقاوم" في دائرة عنوانها "محلك سر".
 نشرت في النهار اللبنانية في  4 كانون الأول - ديسمبر 2013

Sunday, July 21, 2013

عن الليبرالي الميديوكر والليبرالي الأصلي

على هامش ثورة 30 يونية
عن الليبرالي الميديوكر والليبرالي الأصلي
إبراهيم فرغلي
ها نحن الآن نعيش الموجة الثالثة من الثورة المصرية التي تؤرخ بـ 30 يونية مرة أخرى. وها نحن نرى كابوسا ثقيلا ينزاح عن قلوبنا المغتمة من مهانة العام وما جره علينا من أعباء اقتصادية وسياسية وفشل ذريع، وها نحن ايضا نستعد هذه المرة للتعلم من كل اخطاء الماضي التي أدت إلى سرقة الثورة من بين أيدي صانعيها.
لكن لم يستمر هذا الإحساس أكثر من عدة دقائق أو ربما ساعات قليلة من إعلان الفريق السيسي انحياز الجيش لمطالب الشعب. ففور أن تحقق المطلب الجماهيري الواسع الذي احتشدت لأجله جماهير مصر في الشوارع، حتى قدّرت بنحو 30 مليون شخص يرفضون الإخوان، ويطالبون بإسقاط الرئيس المنتخب، سرعان ما دب الشقاق بين الليبراليين، مرة أخرى (الاختلافات كادت تضيع الثورة في مرحلتها الأولى)، حول الوسيلة التي يتم بها إسقاط النظام الإخواني، واتهم طرف من الليبراليين المؤمنين بعلمانية الدولة ومدنيتها الطرف الآخر بأنهم فاشيين لأنهم يتواطؤون مع العسكر ضد الإخوان، بينما اتهم الفصيل الآخر هذا الأول بأنهم يسعون لتقديم السلطة مرة أخرى للإخوان باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان دون مراجعة لجوهر فكرة الديمقراطية، وجوهر أسباب وضع مواثيق حقوق الإنسان.
أسباب اليأس
بداية لعله من المهم هنا الإشارة أن الموجة الثانية للثورة التي خرجت في 30 يونية، خرجت بعد أن شعرت باليأس من مرسي، ومن أي إمكانية لكي يكون رئيسا معبرا عن روح ثورة 25 يناير التي خرج من قاموا بها من جموع الشعب المصري، وهم يرفعون شعارا أساسيا هو (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية).
فقد حنث الرئيس المعزول محمد مرسي باليمين الذي أقسم عليه، ولم يحقق شيئا مما أقسم عليه؛ بداية من الحفاظ على أمن البلاد، والقصاص للشهداء، والحفاظ على المؤسسات الدستورية والقانونية، والنهوض بالاقتصاد. وهو ما لم يتحقق منه شئ، بل وعلى العكس تماما فقد كان مرسي أول من انقلب على الشرعية الشعبية من خلال إعلانه إعلانا دستوريا سلب بمقتضاه كافة اختصاصات السلطة التشريعية والتنفيذية، وأصدر بناء عليه عددا من القرارات التي أظهرت أنه ينحاز لفصيل واحد من الشعب ضد الفصائل الأخرى، وأصر على عناده حتى بعد أن انفض من حوله كافة مستشاريه من الكفاءات الوطنية من كل التوجهات.
وبعد العديد من الظواهر المدهشة من بينها إيهام أنصار الإخوان المسلمين أن وصول رئيس إخواني للحكم هو لتحقيق ما أسموه تطبيق شرع الله، بينما يعرف الجميع أن الثورة لم تقم بسبب أزمة هوية دينية، ودعك من الإخوان في النهاية لم يطبقوا شرعا ولا غيره، أقول أن الثورة أيضا لم تقم لأن الشارع المصري يفتقر للتدين، ولم يكن بين الألف شخص من الشهداء والمصابين في الثورة من رفع هذا الشعار، بل وعلى العكس لم يكن الإخوان في المشهد خلال الأيام الأولى للثورة، إلا بعد أن شعروا، بحسِّهم الانتهازي، أن الشعب مُصّر على إسقاط الحاكم (مبارك الذين أفتى قادتهم بحرمة الخروج عليه يوم 25 يناير).
أقول أن الخروج للمطالبة بإسقاط مرسي جاء بسبب العديد من المظاهر الغريبة مما سبق الإشارة إليه، بالإضافة إلى مظاهر البلطجة الإعلامية باسم الدين في عدد من القنوات المعروفة بتوجهها الديني، والتي ظهرت فيها العديد من وقائع التحريض على القتل وتكفير المعارضين للإخوان المسلمين، وما كان يتوازى مع هذه الدعاوي الرخيصة من أعمال عنف فعلية (تراوحت بين القتل والتهجير والاعتداء على دور العبادة) ضد الطوائف الأخرى سواء الأقباط أو الشيعة أو البهائيين، والتي لم تتدخل الدولة  (نظام مرسي برعاية المرشد العام للإخوان) إطلاقا لإيقافها أو حتى التنديد بها، إضافة إلى محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي، وتعذيب المعارضين وقتلهم أمام قصر الاتحادية من قِبل أنصار الرئيس المعزول؛ بل وبتحريض شخصي منه. ناهيك عن الإدارة الفاشلة والهزلية لكل ما له علاقة بإدارة الدولة اقتصاديا من خلال الإصرار على تعيين رئيس حكومة ذو ميول إخوانية دون أي كفاءة من أي نوع، ثم مسخرة إدارة ملف موضوع سد المياه في إثيوبيا، الذي أدير بطريقة مروعة وبدائية وتعبر عن الفشل التام وانعدام الخبرة، ثم إعلانه الحرب على سوريا.
 وهكذا أحسَّ الشعب أنه في مواجهة حاكم لا يشعر لا بحجم مسؤلية الدور الذي يقوم به ولا طبيعة الدولة التي تولى إدراتها، بالإضافة لتزايد الأعباء على المواطنين بشكل غير مسبوق اقتصاديا، وعلى مستوى انعدام الأمن، مما جعل الخروج للشوارع هو الحل الوحيد لتصحيح مسار الثورة.
نخبة ضعيفة
وبدا جليا في هذه اللحظة أن النخبة التي كانت سببا في وصول الإخوان للحكم بسبب ضعفها، وعدم مصداقيتها وغياب كفاءتها وحرصها على تصدر المشهد كنجوم للثورة، قد أطاح بها مع الإخوان، جماهير الشعب الذين قرروا ان يعبّروا عن رفضهم التام للإخوان، ولكل مظاهر الطائفية؛ "شعبيا"، وبلا وصاية من النخب أيا كانت.
وثبت للمرة الثانية أن الشعب يسبق النخبة في التعبير عما يرغب وعن أمانيه لبلده، ويفجر مفاجأة كبيرة، وقد كان من الممكن أن تستمر موجة الغضب طويلا، وربما ينتج عنها الكثير من المواجهات وهو ما تجلى في الأيام الأولى لخروج المتظاهرين الرافضين لمرسي إلى الشوارع حيث وقعت مواجهات عنيفة بين الإخوان والمتظاهرين في بين السرايات وفي الصعيد، وهو ما أكد أن أنصار الإخوان لا لغة يمتلكونها سوى لغة العنف والسلاح، وتدخل الجيش معلنا تبنيه لمطالب الشعب عبر خارطة طريق تعيد بناء مطالب ثورة 25 يناير التي ضرب بها الإخوان بقيادة المرشد عرض الحائط.
بيان الحقوقيين
وبالرغم من هذا كله فوجئ الجميع ببيان وقّع عليه عدد من الحقوقيين والنشطاء السياسيين يحذر من عودة العسكر للحكم، ويطالب بسرعة تسليم السلطة إلى مؤسسات منتخبة ديمقراطيًا، وعدم إقصاء أي فصيل سياسي، وإخراج القوات المسلحة من العملية السياسية. وهذا كله مقبول في حد ذاته بالتأكيد، لكن البيان الذي يبدو في ظاهره ديموقراطيا وطنيا وثوريا نص على فقرتين متعاقبتين هما كالتالي:
3. الإعلان عن إجراء الانتخابات الرئاسية خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من الآن، تليها الانتخابات البرلمانية خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر من الآن.
4. تأجيل عملية وضع دستور دائم للبلاد إلى ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، نظرًا لأوضاع الاحتقان والاستقطاب السائدة التي لا تسمح بصياغة دستور ديمقراطي توافقي. والتأكيد على ضرورة وضع دستور البلاد الدائم عبر عملية شعبية ديمقراطية تشاركية لا تستبعد أو تقصي أي طرف أو توجه سياسي أو فكري أو عرقي أو ديني أيًا كان. والتأكيد كذلك على عدم التعجل في طرح مسودة هذا الدستور للاستفتاء قبل إنهاء حالة الاستقطاب والاحتقان المخيمة على البلاد.
وهذا النص في تقديري هو أخطر ما ورد في هذا البيان الملتبس، والذي يجعلنا نشك في ما يقصده.
إن ما بدا جليا للجميع خلال الثورة في مرحلتها الأولى بعد 25 يناير، أن القوى الإسلامية حاولت تأجيل صياغة الدستور لما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، وثبت لاحقا أن الهدف من ذلك هو "طبخ دستور" على هوى هذه الجماعات، وبما يتوافق مع تحقيق مصالحها، وضمان بقاءها في السلطة للأبد وفقا لذلك الدستور. وهي عملية تحايل انكشف زيفها تماما بعد الدستور الذي تمت دباجته بشكل عبثي في ليلة واحدة من قبل لجنة لا تليق بوضع دستور لدولة عريقة مثل مصر يعود أول دساتيرها لما يناهز قرن كامل.
كان الارتباك الذي حدث من إدارة المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي يتأكد في طرحه لفكرة تأجيل الدستور وعمل إعلان دستوري اتاح الفرصة لقوى الإسلام السياسي من ترتيب أوراقها. خصوصا وأن المجلس العسكري سمح للأحزاب الدينية أن تنشأ رغم تعارض ذلك مع الإعلان الدستوري، كما تغاضى عن العديد من مظاهر الانتهاك في حقوق الأقليات دون ردع، وغير ذلك من مآسي شهدتها مصر حتى انتقال السلطة للمدنيين.
وأدرك الجميع، خلال المراحل الانتقالية، مع تعدد الأخطاء، وانكشاف عدم الشفافية من قبل العسكر، أن المسار الطبيعي والبديهي بعد أي ثورة وكما حدث في ليبيا على سبيل المثال هو حكومة انتقالية ورئيس مؤقت مدني، يعهد لها صياغة الدستور والاستفتاء عليه ثم عمل انتخابات تشريعية وأخيرا انتخابات رئاسية.
وبالتالي فإن عودة الموقعين على البيان لنفس المربع يجعلنا بالفعل نرى أن هناك إما إصرار على تكرار أخطاء النخبة الذين كانوا كالريشة في مهب رياح العسكر والإخوان والولايات المتحدة. أو أنهم على أسوأ تقدير يتمتعون بقدر من النقاء الثوري والإنساني الذي يجعلنا نتشكك كذلك في مدى أمانة مهمتهم إذا كنا نعرف جيدا أن هذا المسار قد أدى إلى تسليم البلاد إلى الإخوان، الذين سرقوا الثورة جهارا نهارا، وركبوا صهوتها ثم حادوا بها عن سبيلها إلى سبيل آخر تماما تبين من خلال ما أثير وثبت لاحقا.
بينما الأحرى بهؤلاء الحقوقيين والنشطاء أن يجاهروا بالقول أنه لا يمكن لدولة مدنية أن تحقق طموحها كدولة مساواة وهي تؤكد في دستورها انحيازها لدين من الأديان، فالدولة كيان اعتباري لا ينبغي أن يكون له دين، وهو ما نجده في العديد من دساتير العالم ليس في الغرب فقط، بل وفي كثير من دول الشرق في آسيا خصوصا سنغافورة مثلا وإندونيسيا، التي ترفع شعارا وطنيا يمثل شعار الدولة هو "الوحدة في التنوع" رغم أن المفارقة المدهشة هي أن هذه الدولة تضم على أرضها أكبر تجمع للمسلمين في العالم والذي يناهز 220 مليون مواطن إندونيسي، لكنها، أي الدولة ترفع قيمة المواطنة على ما سواها.
جدل ليبرالي ليبرالي
وهكذا بدأ جدل كبير بين الليبراليين أنفسهم حول الكيفية التي يمكن أن يتم بها التعامل مع الإخوان، ففريق رأى أن إقصاء الإخوان عن العمل السياسي هو الحل الواجب بعدما أثبتوه من فشل في الإدارة والخواء الفكري وعمل دؤوب لأخونة الدولة وفتح الحدود مع التيارات الدينية الخارجية خصوصا مع حماس. مع التأكيد على ضرورة حل الجماعة أو دعوتها لتقنين أوضاعها.
بينما يرى الفريق الآخر أن إسقاط مرسي لا يعني إقصاء الإخوان أو ملاحقتهم أمنيا، بل وضرورة استيعابهم في العمل السياسي، على اعتبار انهم فصيل كبير له عدد كبير من الأنصار وله قدرة على الحشد وانه اعتبر أكبر فصيل سياسي بعد الثورة.
والحقيقة أن هذا الجدل يدعوني لإعادة تأمل مجموعة من المفاهيم التي يبدو أن الجميع اليوم يتعامل معها بلون من الخفة، أو على الأقل بلا تدقيق، خصوصا في مفهوم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان.
 بل إن المغالطة في تقديري تبدأ حتى من قبل ذلك ومن حيث إطلاق اسم انقلاب عسكري على عزل مرسي، بالرغم من أن إطلاق هذا اللقب يعطي انطباعا بأن جنرالات الجيش قرروا أنهم يريدون الحكم، وأنهم أمسكوا بكل قادة النظام وألقوا بهم في السجون، وحاكموهم محاكمات عسكرية ثم نشروا المدرعات وأعلنوا الأحكام العرفية في البلاد، وحضروا التجوال وأعلنوا بيانات عسكرية متوالية توضح استلائهم على سلطات البلاد. فهل حقا كان الأمر على هذا النحو؟ بالتأكيد لا وقطعا.
ألم يخرج إلى الشارع 30 مليون مصري يهتفون ضد مرسي والمرشد العام للإخوان المسلمين الذي كان يحكم في الخلفية؟ ألم يوقع أكثر من 22 مليون مواطن مصري على نفس العدد من وثائق ترفض حكم مرسي بسبب فشله الذريع في إدارة الدولة؟
الم يعلن اعضاء حملة "تمرد" بالاتفاق التام مع التيارات المدنية وأحزاب المعارضة والقوى الوطنية أن مطالبهم تبدأ بعزل مرسي وتعيين رئيس المحكمة الدستورية رئيسا مؤقتا للبلاد، وتعيين حكومة مؤقتة تكون مهمتها إدارة شؤون البلاد والخروج بها من الأزمة الاقتصادية والسياسية، وانتخاب أو تعيين لجنة للدستور مهمتها صياغة دستور توافقي يليق بدولة وضعت أول دستور في المنطقة قبل ما يناهز القرن؟
ألم يعلن أعضاء الحملة أيضا عن خارطة طريق ترى أن تكون مهمة الحكومة عمل الانتخابات التشريعية والرئاسية في مدة لا تزيد عن ستة شهور؟
فماذا فعل الجيش؟ الم يوجه طلبا للرئاسة بضرورة سرعة حل الأزمة؟ أو الاستجابة للمطلب الشعبي بعمل انتخابات مبكرة؟ ألم يمهل الرئاسة لتحقيق هذا الطلب؟ فماذا فعل الرئيس؟ رفض كل ذلك، ورفض الرفض الشعبي وأعلن أن الدم مقابل الشرعية. أي أنه حرّض، مرة أخرى، على الفتنة والدم وقتل المصريين بعضهم لبعض مقابل أن يستمر في الحكم.
في الأثناء وغير بعيد تماما، في البرازيل، خرج نحو مليون متظاهر احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والفساد في البرازيل فماذا فعلت رئيسة البرازيل ديلما روسيف؟ هل خرجت لتتحدث للشعب البرازيلي عن مؤامرات الخصوم؟ أو تبرر لمؤيديها أن يخرجوا لتأييدها والاقتتال مع المتظاهرين؟ أو تهديدهم بأنها تجسد الشرعية؟ أو تلوح لهم بأصابعها؟ أو تحكي لهم عن البلطجية وتعدد أسماءهم بدلا من أن تقوم باعتقالهم وفورا؟
إطلاقا.. فهي مثل أي رئيس منتخب تعرف انها رئيسة كل البرازيليين، المعارضين قبل المؤيدين، اعترفت بالأخطاء، ووعدت بعمل استفتاء على خطط إصلاحية، فهي في أول الأمر وآخره مجرد خادمة لشعبها. موظفة تحصل على راتبها من  قوت الشعب الفقير، لكي تحسن إدارة حياتهم، وتوفر لهم الرفاهية، وهذا هو العقد الاساسي لأي حاكم ديمقراطي، وليس مجرد التشبث بالكرسي، والعناد، وفرض الأمر الواقع رغم إرادة الشعب، وتصور أن صناديق الانتخابات هي مفتاح مقدس لغرفة الحكم تضمن بها السلطة والتحكم في مقادير الشعب حتى لو أدت سوء إدارة الحاكم لانهيار الدولة اقتصاديا واجتماعيا.
 
مراجعات مطلوبة
وفي الجدل الذي صاحب موضوع ثورة 30 يونية التي أكدت أن الشرعية كانت ولا تزال في الشارع الثوري، وسوف تظل حتى تصبح مصر دولة قانون ومؤسسات ومساواة، أصبح واضحا أن هناك الكثير من المفاهيم التي تم ترديدها من قبل الكثير من الليبراليين بلا كثير من التدقيق، مما جعل الأمر يبدو مماثلا لنظرة الجماعات الدينية لمسائل الشريعة باعتبارها نصوصا مقدسة لا يجوز الاقتراب منها أو إعادة تأملها وقراءتها في ظل ظروف مختلفة.
بيروقراطية الديمقراطية
لم يراع الليبراليون المتحمسون لمفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية الغربية، أن هناك الكثير من الأمور الواجب إعادة النظر فيها، وإلا أصبح الأمر مماثلا لفكرة الدولة البيروقراطية التي تبتدع قوانين بيروقراطية مهمتها تشغيل شؤون الدولة الاقتصادية والاستثمارية لصالح رفاهية المواطنين، فتقرر دورات ورقية ومستندية تضمن بها عملية الإدارة والرقابة، ولكن حين تتضخم هذه الأوراق، وتصبح عبئا إداريا يفوق طاقة الموظفين والدولة، وتصبح هذه الدورة المستندية مجرد عملية روتينية معطلة لمصالح الماس التي ابتدعت من أجلها ومعطلة للتنمية التي كانت الهدف الأساس من ابتداعها، فإن الدولة البيروقراطية لا تعيد النظر في الدورة المستندية، بل تبحث عن مبررات أخرى خارجها لتبرر بها سوء الإدارة وعدم قدرتها على الالتزام بمشروعات التنمية.
وهذا هو بالضبط ما فعله الكثير من الليبراليون الذين وصفوا الفريق المناوئ لأفكارهم "النقية" بـ "ليبراليون ميديوكر"، فهم لم يتفهموا فكرة أن المخاوف من الجيش مسألة بديهية لدى الغالبية العظمى ممن تضامنوا مع ثورة 30 يونية، وأن الشارع أثبت أكثر من مرة أن وعيه يسبق وعي النخبة، أو على الأقل أنه يتحرك بلا تقدير لأي مصالح خارج إطار المصلحة العامة. وإذا كان هناك فريق من فلول النظام المخلوع حسني مبارك قد تضامنوا مع ثوار 30 يونية ضد الإخوان، فهذا لا يعني أن الثوار غير قادرين على الفرز.
لكن هل حقا ان المناداة بإقصاء الإخوان عن العملية السياسية يتنافى مع العملية الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أليس العرف أن العمل السياسي في النهاية ينبغي ان يكون جوهره الوطنية، وقيمها؟ بل أليست هذه هي القيمة التي تنادي بها ثورة يناير والتي بموجبها قبلت دخول الإخوان في البداية في اللعبة السياسية، عن حسن نية ونقاء ثوري رأى أن بين الإخوان قطاع من الشباب يمثل فصيلا وطنيا لا يمكن أن يستبعد من العملية السياسية؟
فهل أثبت الإخوان حرصهم على قيم الوطنية خلال العام الذي وصلوا فيه إلى الحكم؟ أم أنهم سرعان ما كشفوا عن غياب مفاهيم الوطنية مقابل مفاهيم شعوبية ترى في خطة الإخوان للوصول للسلطة جزءًا من خطة أكبر من التنظيم الدولي للإخوان لتولي السلطة في المنطقة بأسرها؟
ألم يثبت فصيل الإخوان أن قيم الوطنية لا تعني له شيئا، وأنه حتى لا يهتم بدماء من يقتلون ويستشهدون طالما أنهم من خارج الجماعة "قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار"؟ ألم يكشف المرشد عن هذا التوجه حين أصر أن يذهب ليعزي مواطنا واحدا
لقد تبين جليا في المرحلة الماضية من الثورة أن سبب نجاح الإخوان في الوصول للسلطة رغم أنهم لا يمثلون سوى أقلية بين أعداد الناخبين (مرسي حصل على مليون صوت في الجولة الأولى، ولم يزد حجم ما وصل أمام شفيق أكثر من 13 مليون بينها أصوات العلمانيين الرافضين لشفيق واصوات مؤيدي ابو الفتوح)، يعود إلى أن الإخوان رغم ضعفهم الفكري وقلة مؤهلاتهم، لكنهم كانوا يعلمون جيدا أن العمل السياسي شئ والعمل الثوري، والأفكار الثورية الرومانسية، بل وحتى الأخلاقية، شئ آخر. وبالتالي فقد استخدموا كل الوسائل والحيل والألاعيب لكي يصلوا إلى ما يبتغون، على عكس التيار المدني الذي انقسم إلى أنصار للتيار الثوري النقي، وآخر مناصر للكاريزما السياسية، وثالث للخبرة السياسية، ورابع مناصر لرموز عصر مبارك، والنتيجة فشل ذريع شهدناه جميعا في العملية الانتخابية حيث تفتتت أصوات ما يربو على 15 مليون صوت بين اربعة مرشحين رئيسيين.
ولا يعني هذا أنني أطالب أحدا بأن يصبح ألعبانا مثل الإخوان بالعكس، لكن ما أقصد أم يتم دعم المسار الثوري بالالتزام خلف قيادة يتفق عليها، أو حتى خلف مسار واحد لإنجاح الثورة.
ومن الطريف حقا أن يتهم بعض الليبراليين والحقوقيين الفصيل الواسع من المثقفين والليبراليين بأنهم فاشيين لأنهم يرفضون إدماج  الإخوان في العمل السياسي، ولأنهم يؤكدون على مطلب استبعاد ومنع إقامة أحزاب على أسس دينية تأكيدا لمبدأ المساواة الذي لا أظن أن هناك من يشكك في انه مطلب أساسي من مطالب هذه الثورة التي رفضت استعباد أي فصيل من فصائل المواطنين لأي فصيل آخر.
كأن التعلم من دروس الثورة يجعل الفرد فاشيا، أو كأن الليبرالي الذي يطالب بالمساواة من أجل مستقبل يجتمع فيه الجميع على قيم المواطنة فقط، فاشي لأنه يطالب بقواعد سياسية واضحة لا مجال فيها لتيارات تقوم أساسا على التمييز بين أعضائها وبين من لا يتبعونها، وليسوا مجرد حزب سياسي لديه خطط تنموية واقتصادية وسياسية واضحة. فصيل يكره الآخر لمجرد الاختلاف، من أجل مستقبل لا يمكن أن يكون فيه فاشية، لأن الثابت أن وجود التيارات الدينية لن يحدث سوى إطالة فترة التغيير باستمرار وربما للأبد لأنه تيار لا يملك تيارا للنهضة بل يمتلك فقط خطة للسلطة والنفوذ.
أيضا من المدهش أن فصيلا يكفر الآخرين، وشارك في قتلهم، وراوغ حين اجتمع الجميع على رفض حكم العسكر في المرحلة الأولى للثورة ورفض الانضمام للمتظاهرين، وتبين تورطه في وقائع تخريب ضد الدولة في سينا وسواها، وترددت عن قياداته أقاويل حول صفقات مع اليهود والأمريكيين حول غزة وسيناء، ودعم أطرافا ممن تم الإفراج عنهم من قتلة المصريين مثل طارق الزمر وأمثاله، بل ودعوته للاحتفال بنصر أكتوبر الذي صنعه من قام الزمر بقتله.
 اقول من المدهش أن يجد هذا الفصيل الذي يعد  الكثير من رموز قياداته محرضون ومتورطون في العديد من القضايا وبينها قضية هروب من السجن، من ينادي بمشاركته في العملية السياسية، بدلا من تقديمه للقضاء أولا حتى تثبت براءته أو إدانته وفقا لأحكام القضاء المدني، ولا يعتبرون أن ذلك تماهيا مع الفاشيين باسم مواثيق حقوق الإنسان وأصول الديمقراطية.
إن الفاشية الحقيقية في ظني هي تجاهل مطالب اصحاب الرغبة في الحياة كبشر طبيعيين في بلد يحترم الجميع ويعطي لكل ذي حق حقه ولا يميز بين أبنائه على أساس الجنس أو الدين أو العرق، لصالح جماعة فاشية انتهازية ثبت أنها قادرة على أغراق البلد بما ومن فيه إذا أتيحت لهم الفرصة، باسم الديمقراطية.
يريد هؤلاء القول أن حقوق الإنسان هي حقوق كل إنسان، وأنها تسري على الجميع، وأن اتساقهم مع ذاتهم يجعلهم يقولون أن المبادئ لا تجزأ، ومعهم حق بالتأكيد، لكنهم في الحقيقة هنا ينساقون، عن وعي أو بدونه إلى الوقوع في فخ لعبة الفاشيين، بل ويتماهون معهم في تقديس الـ "نصوص" والمواثيق والأوراق حتى لو كان استغلالها في لحظة يحقق عكس المراد منها تماما.
ينسى كل هؤلاء أن المواثيق والنظريات والكتب والوثائق أحيانا أمام دماء الناس ووجودهم الثوري والشعبي في الشارع تحتاج لكي تدقق ويعاد النظر فيها بما يؤكد أن الإجراءات السليمة لن تؤدي إلى موت المريض.
وأختم بمقتطف من مقال للدكتورة نوال السعداوي، أظنها تشرح الفكرة فيه بشكل حي وحقيقي تماما ويوضح بإيجاز فكرتي عن تناقضات الديمقراطية الإجرائية وجوهر الديمقراطية:
جئت إلى لاهاى بدعوة من منظمة العدل الدولية، للتحدث فى مؤتمرهم العالمى الذى يناقش القضايا المتنوعة فى مختلف المجالات: السياسة، القانون، الاجتماع، التعليم، الثقافة، الفن، الطب، الاقتصاد، الفلسفة والتاريخ.
أغلب كبار المشاركين من رجال القانون يعتقدون أننا نعيش فى عالم يحكمه القانون والعدل، أحدهم قاض كبير من باكستان، اسمه تصدق حسين جيلانى.
يبدو عليه الراحة والثراء والاسترخاء، قال لى إن فى عروقه تجرى دماء عربية تمتد إلى نبى المسلمين محمد، وابتسمت قليلا، فأنا أتشكك فى كل من ينسب نفسه إلى الأنبياء، ولم يدهشنى، حين قال إنه شديد الإعجاب بالرئيس الأمريكى باراك أوباما، وقلت له إن الثورة الشعبية المصرية هتفت بالأمس فى ميدان التحرير بالقاهرة بسقوط باراك أوباما، مع سقوط مرسى وحكم الإخوان المسلمين فى مصر؟
لم تبد عليه السعادة ، وقال إن الغوغاء فى تمردهم يفقدون العقل، كلمة الغوغاء كشفت لى عن احتقاره للشعوب، واعتبار ثورتهم انقلابا على الشرعية والديموقرطية وصندوق الانتخابات، بالضبط كما كان أوباما، يذيع
هذا القاضى الباكستانى، مثل أغلب كبار رجال القانون التقليديين فى العالم، يحفظ بنود القانون، مثل القرآن أو الإنجيل عن ظهر قلب، ولا يرى الملايين الحية فى الشوارع التى تهتف بسقوط النظام بقوانينه القديمة ودستوره وبرلمانه وكل مؤسساته، ويقول لى إن العدالة عمياء لا ترى الناس، بل تنظر الى أوراق القضية فقط، مثل أغلب كبار الأطباء الجراحين الذين يعلنون نجاح العملية رغم موت المريض.
شاركت سيدة تونسية فى المؤتمر، اسمها محرزية العبيدى، نائبة رئيس المجلس المنتخب، قالت لى إن الرئيس التونسى والبرلمان التونسى، رئيس الحزب الديمقراطى التقدمى اليسارى، جميعهم أعلنوا أن فى مصر انقلابا عسكريا على شرعية الصناديق، واندهشت كيف يرددون فى تونس ما كان يقوله باراك أوباما وقوى الاستعمار فى العالم؟
 وقلت لها كيف يحدث ذلك يا محرزية ؟ قالت نحن فى تونس تربينا على يد بورقيبة، وعندنا حساسية ضد الجيش، قلت لها كلنا ضد الحكم العسكرى، لكن ما يحدث فى مصر ثورة شعبية، 34 مليونا خرجوا إلى الشوارع ضد حكم الإخوان المسلمين، وحين أطلقت ميليشيات الإخوان عليهم الرصاص طلبوا من الجيش حمايتهم، ولبى الجيش نداء الشعب حقنا للدماء، إلا أنها لم تستمع مثل القاضى من باكستان.
 
أغلب المشاركين والمنظمين للمؤتمر كانوا يستمعون إلى الشائعات التى يروجها الإعلام الأمريكى والأوروبى وبعض الأبواق العربية التى تؤيد حكم الإخوان المسلمين.
هذا المؤتمر الدولى للعدل لم أشهد فيه عدلا، بل رأيت عيونا معصوبة لا ترى الأجساد البشرية الحية الثائرة بالملايين، وتصر على أن العدالة عمياء لا ترى إلا الحبر على الأوراق، إلا أن عددا غير قليل من المشاركين والمشاركات من مختلف الجنسيات وقفوا مع الثورة المصرية والثورات الشعبية المناضلة ضد النظم الرأسمالية الأبوية التى تتاجر بالأديان والعدالة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة فى بورصة السياسة والانتخابات.