إبراهيم فرغلى:
الوسط الثقافى تسيطر عليه «النميمة»
حوار – عزمى عبد
الوهاب
عاش القاص والروائي المصري “إبراهيم فرغلي” جانبا كبيرا من
حياته في سلطنة عمان، حيث كانت لطبيعتها تأثيرات كبيرة عليه، ومن يتأمل مسارات “فرغلي”
تبدو له القاهرة وكأنها محطة من محطات الحياة المتشابكة، إذ سرعان ما غادرها إلى الكويت
حيث يعمل هناك منذ سنوات.
لدى “فرغلي” غرام بخلق عوالم متوازية في إبداعاته، وقد تجلى
هذا على نحو خاص في روايته الشهيرة “أبناء الجبلاوي” التي فازت بجائزة ساويرس، كما
أنه برغم ما يشاع عن عزلته، فإنه منخرط في الواقع بكل مستوياته وتعقيداته، كما تكشف
عنه أعماله القصصية:”باتجاه المآقي – أشباح الحواس – شامات الحسن” ورواياته:” كهف الفراشات
– ابتسامات القديسين – جنيه في قارورة”.
> في روايتك “أبناء الجبلاوي” استدعيت عالم نجيب محفوظ
.. هل كانت الفكرة سابقة على الكتابة؟
نص “أبناء الجبلاوي” مر بمجموعة من التطورات الفنية قبل أن
يتخلق في شكله النهائي، كانت الفكرة في البداية تتعلق بقصة لقيط يبحث عن هويته، لكني
وجدتها أقل من طموحي، وهكذا ظللت أناوش الفكرة، وأكتب فيها شخصية البطل الرئيس وعلاقته
بجده، أملا في إيجاد رؤية ما تخص علاقة الجيل الجديد بفكرة الأب، ثم ومضت فكرة نجيب
محفوظ فجأة، وكانت بالنسبة لي الخلاص لإيجاد الشكل الذي أحبه في الكتابة، وهو العوالم
المتوازية، أو المسارات المعقدة والمتعددة للنص، كما هي مسارات الحياة.
> ماذا عن الاستعدادات التي قمت بها للتعامل مع هذا العالم
الموازي؟
قرأت محفوظ كاملا في وقت مبكر، لكن كان علي إعادة قراءة العديد
من أعماله، التي لم أكن قرأتها أكثر من مرة واحدة، مثل قلب الليل، وميرامار، وحضرة
المحترم وخان الخليلي، وعدت قطعا للروايات الأهم في مرحلة تلقي محفوظ بالنسبة لي، ممثلة
في الثلاثية والحرافيش وأولاد حارتنا والكرنك، وكذلك لأعمال الفترة الأخيرة مثل أحلام
فترة النقاهة وأصداء السيرة الذاتية، كما عدت للبحث عن بعض الشخصيات الغريبة في أعماله،
للاستفادة منها مثل زيطة صانع العاهات في زقاق المدق، وزينات في الحرافيش وغيرهما،
كما رحت أتأمل فكرة الأب أو رمز السلطة أو كبير الحارة أو الجد في كل من الثلاثية وقلب
الليل وأولاد حارتنا، لعمل ربط مواز بين ما تمثله تلك الشخصيات، إما كصناع أقدار ومصائر
للأجيال اللاحقة أو كمصدر إلهام، أو أحيانا كنماذج لسلطة المنع وطلب الامتثال والتبعية
المطلقة، وبين العلاقة بين كبرياء الحفيد والجد الذي تبناه وهو رفيق فهمي في نص أبناء
الجبلاوي.
> كيف تجاوزت فكرة الوقوع في أسر نجيب محفوظ؟
كان طموحي أن أهضم هذا كله وأعبر عن أطيافه وأشباحه في نص
حداثي متشظ، يبتعد من حيث البناء تماما عن هندسية محفوظ، لكنه يمتح من الحس الفلسفي
الوجودي عند شخصياته، ليبث نفس الشبيه لدى شخصيات أبناء الجبلاوي.
> بعد مجموعتك القصصية الأولى أصدرت “كهف الفراشات” روايتك
الأولى هل تخلصت من أجواء تنتمي إلى حقل القصة القصيرة قبل الكتابة؟
كهف الفراشات هي روايتي الأولى، وكان النص في البداية عن
شاب يذهب في رحلة استشفاء ذهني وعاطفي من قصة حب فاشلة إلى شرم الشيخ، وتتداعى ذكرياته
مع وقائع يومه في تلك الرحلة، ولكني لم أكن مستريحا تماما للنص حتى انتهيت من كتابة
قصة بعنوان “فراشات” في مجموعتي القصصية الأولى، ووجدت فيها ملهما لخلق عالم مواز للعالم
الواقعي للبطل، عالم يمثل منطقة بين الحلم والخرافة، يمكن أن يكون مرايا الذات والوعي
واللاوعي للبطل.
> هل كان ذلك نتاج تفاعلك مع قراءات في الواقعية السحرية
أم أن كتاب “ألف ليلة وليلة” كان وراء ذلك؟
في تلك الفترة كنت قد شغفت بعوالم الواقعية السحرية، خصوصا
لدى ماركيز، وبعض أعمال الكتاب اليابانيين الكبار مثل كاوباتا، وبالأخص روايته الفاتنة
ضجيج الجبل، وطبعا ألف ليلة وليلة، ومسرحيات سوفوكليس من ترجمة طه حسين، وتأثرت بها
كثيرا، إضافة إلى بعض أعمال جمال الغيطاني الأولى خصوصا وقائع حارة الزعفراني، كما
تعرفت إلى عالم بورخيس، وقرأت قصة المسخ لكافكا. ووجدت شغفا بعالم الغرائبية، وحين
قرأت صخب البحيرة للبساطي أحسست أنه يقارب هذا العالم بشكل جميل، ومع ذلك أحسست بأنه
متأثر أكثر مما ينبغي بالغرائبية اللاتينية، وتمنيت أن أكتب نصا قائما على الواقعية
السحرية يخصنا. وقد وجدت في مسقط بسلطنة عمان، حيث أقمت سنوات طويلة هناك، بجغرافيتها
الساحرة وعلاقة البحر والجبال فيها موقعا يمكن البناء منه، كما قرأت لتودروف آنذاك
“مدخل إلى الأدب العجائبي”، ومن هذه الإلهامات العديدة صغت رواية كهف الفراشات فيما
أظن، ومع ذلك فلو أعدت طباعتها فربما أعيد كتابتها مرة أخرى.
> أصدرت أخيرا مجموعتك القصصية “شامات الحسن” هل تعود
القصة إلى الصدارة ثانية أم أنها تموت كما يشيع البعض؟
القصة كانت تتربع على العرش في الثمانينيات والتسعينيات،
وكانت هناك أسماء لقصاصين مهمين ولافتين مثل محمد المخزنجي، الذي لا يزال مخلصا استثنائيا
للقصة، وإبراهيم فهمي وأحمد النشار ومنتصر القفاش، ومع ذلك فالكثير من الكتاب كانوا
يعتبرونها تكئة للمرور إلى الرواية، ولم يبق مخلصا لهذا الفن الرفيع إلا قلة، والآن
بعد الجوائز والشهرة والأكثر مبيعا والظواهر التجارية الجديدة لم يعد للقصة للأسف نفس
السحر القديم بالنسبة للكتاب الشباب، كما كان الأمر في جيلنا.
> هل كنت معنيا بأن تخرج قصص المجموعة من إطار العمل على
فكرة لا يصلح معها أن تخرج في سرد روائي؟
في هذه التجربة
(شامات الحسن) فكرت في بناء كتاب قصصي، تيمته الأساسية العلاقات بين الجنسين وطبيعة
تغير مفاهيم العلاقات الجسدية في مجتمعات متعددة الثقافات، لهذا بدأت في أكثر من نص
في الوقت نفسه، وكنت أكمل النصوص بالتوازي وليس بكتابة قصة والانتهاء منها كما كان
الأمر سابقا، وبرغم محاولة التنويع الشديد في أفكار القصص، فإنها جميعا حافظت على أجواء
الإيروتيكا وسؤال الجسد بنفس القدر، فيما أرجو.
> كتابك “مداد الحوار” كانت وراءه تجربة في الاحتكاك بالغرب
ماذا عنها؟
“مداد الحوار” كان محصلة يوميات شهر قضيته في ألمانيا، وتحديدا
في مدينة شتوتجارت في الجنوب، بدعوة من معهد جوتة، لكتابة يومياتي عن المدينة يوما
بيوم، وكانت تجربة استثنائية، لكن الكتابة عن مجتمع لا تعرف عنه شيئا وتدوين انطباعاتك
عنه يوميا مسألة في غاية الصعوبة، ومع ذلك حاولت بقدر الإمكان الخروج ببعض الملاحظات
عن المجتمع الألماني لكني لا أظنها كانت عميقة بالقدر الكافي لمشروع مبني على فكرة
حوار الحضارات.
> وكيف تقيم التجربة الآن؟
أظن أنني خلال السنوات الأخيرة ومن خلال المزيد من القراءة
والاحتكاك ومتابعة انطباعات وقراءات الغرب عن مجتمعاتنا أشعر بأنني لم أقدم نقدا كافيا
لرؤية الغرب لنا، وهو ما رآه مبكرا الصديق يوسف رخا في نقده للكتاب، فنحن مع الأسف،
وبرغم كل محاولات الحوار الذي يقوم على مجموعات المستفيدين من هذا الحوار سواء كانوا
موظفين في جهات أجنبية أم يعملون في مؤسسات الترجمة ، لم نخرج من أسر الصورة الكلاشيهية
التي صورنا عليها المستشرقون حتى اليوم، وهو ما يحتاج في تقديري إلى كثير من إعادة
النظر، وتوسيع دائرة إلهامنا الثقافي إلى الشرق الآسيوي واللاتيني أكثر من اعتمادنا
المركزي على الاحتكاك الثقافي بالغرب، وفي روايتي الجديدة التي أعمل عليها الآن أهتم
بتناول هذه القضية.
> العزلة كانت عنوانك الرئيس منذ الطفولة، ألا يحتاج الفن
الروائي إلى كائن منخرط في المجموع أحيانا؟
العزلة في تقديري ضرورية جدا للكاتب، لأنه يحتاج إلى وقت
ليعايش أفكاره ويتأمل العالم من بعيد، كما أن الانخراط في الوسط الثقافي لم يفدني في
الكتابة على أي نحو، فليس هناك سوى أجواء النميمة في الغالب وبعض الصراعات الوهمية،
لكني منخرط في الواقع بشكل آخر بطبيعة الحال، وأخوض تجارب الحياة بشكل طبيعي، وأقاوم
عزلتي بشكل أو بآخر، أعتقد أن مهمة الكاتب هي تمثل الخبرات الإنسانية بشكل عام، سواء
كان معزولا أم منخرطا في العلاقات الاجتماعية، فالمهم في الحالتين هو القدرة على صياغة
العلاقات والخبرات الحياتية بشكل فني.
> كيف أفادتك العزلة على صعيد الكتابة؟
هي بالتأكيد منحتني الفرصة للتأمل ومعايشة الحياة الباطنية
لذاتي، وتأمل أسئلة الوجود بشكل لا يوفره التواصل الاجتماعي المفرط بما لا يتيح للفرد
أن يعايش نفسه، خصوصا، وأنني منذ الطفولة لدي القدرة على مصادقة نفسي والاستمتاع بوحدتي
بشكل كامل، وهذا مهم في الكتابة لأنه يمنحك القدرة على إزاحة مواقع التشويش الذي يحدثه
الاتصال المستمر بالعالم الخارجي.
> تمارس العمل الصحفي منذ سنوات هل كان ذلك معوقا أم مفيدا
لك على الصعيد الإبداعي؟
الصحافة مهنة قاسية لأنها تدخل في نسيج حياتنا اليومية ولا
يمكننا فصلها عن حياتنا خارج محيط العمل، كما أنها مهنة قادرة على حرق وقت من يمتلك
أكبر خزائن الزمن، لكنها برغم ذلك في تقديري توفر للكاتب مخزونا هائلا من الخبرات والاتصالات
التي قد لا تتاح لغيره كثيرا، كما تقوده إلى عوالم أيضا قد لا يفكر في ارتيادها لو
لم يكن يمتهن الصحافة، وهذا مهم جدا للكاتب أو على الأقل يمثل أهمية كبيرة بالنسبة
لي في الكتابة >
نشر الحوار في مجلة الأهرام العربي في 16 مارس 2014.
No comments:
Post a Comment