أزمة وزير الثقافة المصري الجديد
مع المثقفين إلى أين؟
وزراة الثقافة الإخوانية ترث ميراث
الفساد
إبراهيم فرغلي
عقب الأسابيع الأولى للثورة
المصرية التي اندلعت في 25 يناير 2011، أثار عدد من المثقفين المصريين مجموعة من
المناقشات والأفكار والاقتراحات التي كانت ترى ضرورة إعادة النظر في الكثير من
الثوابت، وبينها فكرة ضرورة وجود وزارة الثقافة نفسها، بعد أن تبين مدى غياب
الثقافة الفادح في الدولة المصرية، برغم وجود هذ الكيان الهائل، بكل مؤسساته
وأجهزته الخاصة بالنشر والترجمة والفنون وسواها، والذي كان من المفترض أن يلعب
دوراً بارزاً في إشاعة الثقافة في المجتمع.
لكن التطورات الأخيرة وخصوصا عقب
تولي الوزارة اخيرا شخصا أثار وصوله لمنصب وزير الثقافة، وهو علاء عبد العزيز،
جدلا واسعا، متبوعا بمجموعة من الاستقالات لعدد من أبرز رجال الوزارة، بسبب عدد من
القرارات الاستفزازية التي اتخذها الوزير سواء بإقالة عدد من المسؤلين مثل أحمد
مجاهد من منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب، ورئيس
قطاع الفنون التشكيلية صلاح الميلجي ، ثم إقالة مديرة الأوبرا إيناس عبد الدايم.
وبالرغم من القلاقل التي أصابت
الحكومات المتعاقبة خلال الفترة الانتقالية التي تولى فيها المجلس العسكري إدارة
البلاد، وتلك التي أعقبت وصول الدكتور محمد مرسي للحكم، فإن وزارة الثقافة حاولت
أن تبدو متماسكة، نسبيا، من خلال تواجد د.عماد أبو غازي وزيرا في المرحلة
الانتقالية، وخلفه الدكتور شاكر عبد الحميد في حكومة الجنزوري، ثم تولي الدكتور
صابر عرب المنصب من بعده، مقارنة بالعديد من مؤسسات الدولة المصرية، حتى تقلد الوزير
الجديد منصبه.
فبعد أقل من مرور ثلاثة اسابيع على
وصول علاء عبد العزيز للمنصب الجديد بدأت ظاهرة الاستقالات الجماعية، إذ قدّم الأمين العام للمجلس الأعلى
للثقافة؛ سعيد توفيق، استقالته من منصبه احتجاجا على ما أسماه "الأجواء المسمومة التي باتت تخنق
الأنفاس وتشل العمل الثقافي والإداري في وزارة الثقافة"، وعلى سياسة الوزير
في "أخونة" قطاعات الوزارة.
وأبدى توفيق ايضا اعتراضه على ما اعتبره "السعي بإصرار
نحو تنفيذ سياسة اخونة الوزارة الذي بات واضحا للعيان"، مشيرا إلى
"تصعيد من يميل بالولاء لجماعة الاخوان المسلميين، رغم تقييمهم السلبي
بالنسبة لمهام عملهم".
وأكد توفيق أنه يقدم استقالته، أيضاً، احتجاجاً على
"سياسة التنكيل التي يتبعها الوزير مع الكثير من قيادات الوزارة، حتى لو
كانوا من اصحاب الكفاءة والخبرة".
جاءت استقالة توفيق عقب استقالة العديد من الشخصيات
الثقافية من مناصبها في وزارة الثقافة مثل الشاعر عبد المعطي حجازي من تحرير مجلة
"ابداع" الصادرة عن وزارة الثقافة، وأسامة عفيفي رئيس تحرير مجلة
"المجلة" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، اضافة الى استقالة
مجلس أمناء بيت الشعر.
وخيري دومة من المجلس القومي للترجمة، إضافة إلى أعلان الروائي بهاء طاهر، استقالته
من عضوية المجلس الأعلى للثقافة، احتجاجاً على استبعاد الدكتورة إيناس عبد الدايم،
من رئاسة دار الأوبرا المصرية.
واعتراضا على قرار وقف انتداب إيناس عبد الدايم كمدير لدار
الاوبرا، وهو ما أثبت وجود موقف "إخواني" خلف هذا القرار الذي تزامن مع
ما أشيع عن وقف حفلات رقص الباليه، اعتصم العاملين بدار الأوبرا المصرية في دار
الأوبرا، وتضامن العديد من الفنانين والمثقفين مع رفض قرار وزير الثقافة الدكتور علاء
عبدالعزيز إنهاء إنتداب الدكتورة إيناس عبدالدايم من منصبها كرئيسة لدار الأوبرا المصرية،
وتعليق كافة العروض الفنية والأمسيات الشعرية وسواها.
كما تظاهر العشرات أمام مبنى الأوبرا تحت عنوان "وقفة الإنذار
الأخير" للمطالبة بإقالة وزير الثقافة الذي أثار تعيينه جدلاً كبيراً ويرفض توليه
الوزارة العديد من المثقفين، فيما شارك في الوقفة عدد من الفنانين والسياسيين منهم
أعضاء بجبهة الإبداع ومحمود قابيل، خالد صالح، سامح الصريطي، جلال الشرقاوي، يحيى خليل
وغيرهم. كما شاركت مجموعة أخرى من المثقفين والفنانين أمام مكتب وزير الثقافة
للمطالبة بإقالته.
من جهته، وبالطريقة نفسها التي يسلكها رئيس الوزراء وأغلب
أعضاء حكومته، لم يبالي بتبرير قراراته، وأصدر وزير الثقافة قراراً بتعيين بدر الزقازيقي
رئيس الإدارة المركزية لشؤون خشبة المسرح، رئيساً لدار الأوبرا. وأصر على التأكيد
بأن ما يقوم به هو عملية تطهير للوزارة.
وأعرب عن رأيه تجاه المعارضين عبر الصفحة الرسمية لحزب الحرية
والعدالة، وقائلا:"إن الصبيان الفاسدين داخل الوزارة والذين تربوا على النهب وسرقة
أموال الشعب لن يستطيعوا تشويه ما يفعل من عمليات تطهير داخل وزارة الثقافة".
وأضاف عبدالعزيز "مهمتي الارتقاء بالثقافة المصرية بعد ثورة مجيدة ارتوت بدماء
الشهداء الطاهرة".
وهو خطاب يشبه تماما نفس خطاب كل القيادات الإخوانية، بداية
من رئيس الجمهورية محمد مرسي، مرورا بكل رموز الإخوان في الدولة، الذين استخدموا
"دماء الشهداء" سلما للنفوذ والسيطرة على مفاصل الدولة بعد الثورة، رغم
أن قتلة هؤلاء الشهداء، لا يزالون يحصلون على أحكام قضائية بالبراءة، يوما بعد
آخر، في ظل حكومة الإخوان.
وبالرغم من كل هذا الضجيج في الحقيقة، فإنني، وبشكل خاص، لم
أجد في هذا الضجيج نبرة تشدني للانتباه، أو للتعاطف.
لأنني ومنذ فترة طويلة، أي من قبل الثورة بسنوات أجد أن
أزمة الثقافة في مصر لا علاقة لها بوزارة الثقافة بقدر ما لها علاقة بالمثقفين
أنفسهم، أو بقطاع كبير منهم، وبأزمة تعاطيهم مع فكرة الثقافة ومع كيان وزارة
الثقافة.
فقد تحول دور وزارة الثقافة، منذ زمن طويل يعود لعصر
السادات، من كونها مؤسسة هدفها انتشار الثقافة والفكر والارتقاء بالحس الفني
وتوفير المنتج الثقافي والفني لكل المواطنين، من خلال دعم تلك المنتجات، كما كان الحال في عهد
ثروت عكاشة، إلى أن أصبحت مؤسسة تهدف أن تكون بوقا للدعاية للدولة، في عهد الدكتور
عبدالقادر حاتم، ومن جاء بعده، بهدف إضفاء صورة عصرية على السلطة بوصفها الدولة
المنتجة للثقافة والفنون، بينما تقوم، من جهة أخرى، بعمل نوع من الصفقات مع
المثقفين لكي تستميلهم إليها وتتجنب انتقادها، والإيهام بأنها الحاضن الأساسي
للمثقفين.
وفي هذا الوضع امتلأت المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة مثل
الهيئة العامة للكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، ودار الأوبرا، وسواها، بجيوش من
الموظفين، (تبلغ تقديراتهم نحو 90 ألف موظفا)، ممن لا علاقة لهم بالثقافة من قريب أو بعيد، من
الذين أتيحت لهم فرصة عمل في السكرتارية والإدارة أو المطابع أو الأقسام الأخرى
المشابهة. وأصبحوا يشكلون قوة كبيرة داخل مؤسسات الوزارة، أدى إلى انهم مارسوا
لوناً من ألوان الرقابة داخل الوزارة، حيث أثيرت العديد من قضايا الرقابة التي أجراها
عمال مطابع الهيئة العامة للكتاب في عهد الدكتور سمير سرحان حين كان رئيسا للهيئة،
والذي خضع لهم، مع الأسف، في أكثر من مرة ، وساهم في نشر أعمال أدبية "مراقبة"،
أو مبتورة، لكبار كتاب مصر.
وفي كل المرات التي تعرضت فيها وزارة الثقافة لأزمة من
أزمات قضايا حرية الرأي والتعبير، تنازلت الوزارة عن هذا الحق، وخضعت لابتزاز
القوى المحافظة والرجعية؛ التي كانت وراء إثارة كل أزمة من تلك الأزمات، إما بإقالة
مسؤلين عن السلاسل الأدبية، أو بمصادرة كتب أو رقابة بعض آخر منها.
أما ما يتعلق بالكثير ممن يطلق عليهم لقب مثقفين في مصر فقد
وجدوا في مؤسسات الوزارة مجرد وسائل للارتزاق، إما بالحصول على تفرغ مرة، أو
بالعمل في هيئة من الهيئات أو إدارة سلسلة من السلاسل، أو بغير ذلك من المزايا
التي كانوا يسعون لها سعيا.
وكفّوا بذلك عن
توجيه النقد الواجب لكافة مظاهر الفساد في الوزارة التي كان واضحاً وجلياً أنها
تمارس دورا دعائيا بامتياز، من مثل إقامة مهرجانات واحتفالات، والسعي للتأكيد على
"ضخامة المنجزات"، أو تقسيم جوائز الدولة وفقا لأهواء ومصالح المنتفعين
واللجان وسوى ذلك.
بقول آخر فإن الكثير من المثقفين المصريين كانوا يجدون في
الوزارة والفرص التي توفرها لهم؛ سواء كانت فرصا للنشر المجاني، أو للحصول على
مزايا عينية أو مادية، كان يقلص من فكرة الاستقلالية التي يفترض أن يتمتع بها أي
مثقف.
مع التأكيد أن أي مثقف يمكن له أن يحافظ على استقلاله، حتى
لو تعامل مع الوزارة بأي شكل، لأن هذا حقه في النهاية. لكنه لا يجب أن يعتبر هذا
الحق منحة من قيادات الوزارة لكي يشيد بهم أو يتجنب انتقادهم، أو يتغاضى عن فساد
من يمتثل فيهم لقواعد الفساد.
وبالتالي ففي ظل انشغال الكثير ممن يعتبروا مثقفين،
بمنافعهم الصغيرة، وفي ظل تزايد جيش الكادر الإداري، أصبح من السهولة بمكان أن يتم
تحويل توجه الوزارة من موقفها الليبرالي المستنير، المفترض، إلى أي توجه محافظ آخر
مما يرغب فيه الإخوان بسهولة، وبالتالي أيضا من الممكن بسهولة أن تسير القافلة في
وجهة المصادرة والرقابة ووقف فنون الرقص والباليه، وهو ما يبدو توجها إخوانيا محضا
يتبناه رئيس الجمهورية نفسه، خصوصا بعد ان أذاعت إحدى القنوات الفضائية المصرية
قبل ايام تسجيلا عمره ثماني سنوات لحلقة من برنامج حواري استضاف الدكتور مرسي
بصفته آنذاك نائبا في مجلس الشعب عن الإخوان المسلمين مع الشاعر المصري أحمد عبد
المعطي حجازي كانت تناقش مطلبا تقدم به النائب الإخواني لإغلاق مدرسة لتعليم الرقص
بدعوى أنها تحض على الإثارة.
بوصف آخر كما يقول
الكاتب المصري محمد علاء الدين قائلا:" فقد سُلمت الدولة المصرية كما نعرفها بجهاز
أمن دولتها، ومخابراتها، ووزارة إعلامها ووزارة ثقافتها، وكل أذرعتها التنفيذية والسلطوية
لقبضة الإسلام السياسي".
وهو في مواجهة ذلك يقترح الاعتماد على لا مركزية حقيقية في مثل
هذا المجال. بمعنى أن يتحرك المجلس الأعلى للثقافة بحرية اوسع بكثير، وكذلك كل الهيئات
التي يسيطر عليها وزير واحد، بتوجه واحد، وعقلية واحدة ويقول متسائلاً: "أليس
من الأفضل تحويل كل هذه الهيئات إلى هيئات مستقلة تحصل على تمويلها من الدولة ولكن
يديرها مجلس أمناء مستقل، كما نجد في التجربة البريطانية مثلا؟".
لهذا فإنني أظن انه بات واضحا اليوم أن إنعاش الثقافة المصرية لم يعد في حاجة لوزارة
الثقافة، بقدر ما يحتاج لكيانات أهلية، مستقلة، تتولى الإنفاق على النشر،
والاستثمار في الأنشطة الفنية والثقافية، كما هو شأن ساقية الصاوي مثلا، وكما شأن
المكتبات الخاصة، وكما فعلت بعض المؤسسات الخاصة التي انشأت جوائز أدبية أهلية مثل
مؤسسة ساويرس.
لكن ما نحتاجه اليوم أكبر من ذلك بكثير وأكثر طموحاً
لمواجهة ما خلفته إدارات الثقافة السابقة، من فشل
وفساد، ومن خلق مناخ إداري ملائم، غير مؤهل للعمل الثقافي، لكي ينمو مع أي
توجه محافظ ومتخلف مثل توجهات الوزير الجديد، هو تكاتف المثقفين والمبدعين
الحقيقيين والمستقلين من أجل إنشاء ودعم كيانات مدنية أهلية مستقلة ودعوة رجال
الأعمال ومحبي الثقافة والداعين للدولة المدنية في إنشاء كيان ثقافي ضخم يمثل
البديل، القادر على إنتاج الفنون الرفيعة في المسرح والسينما والأدب والدوريات
الأدبية والفكرية والنشر الفكري والإبداع عموما. البديل القادر على مواجهة كيان
مؤسسي تم تسليمه بالكامل إلى الإسلام السياسي.
No comments:
Post a Comment