اعترافات روائي ناشئ
أمبرتو إيكو يبوح بأسرار الصنعة الروائية
إبراهيم فرغلي
لعل أمبرتو إيكو اراد أن يقدم درسا في التواضع حين اختار لكتابه هذا
عنوان اعترافات روائي ناشئ، أو كما أوضح في المقدمة أنه يعد نفسه ناشئا لأن عمر
ممارسته لكتابة الرواية يبدأ فقط من العام 1980 مع روايته الشهيرة "اسم
الوردة"، "وبذلك لا يتجاوز عمر ممارستي لكتابة الرواية ثمانية وعشرين
سنة، ولهذا السبب، أعتبر نفسي روائيا ناشئا، وبالتأكيد واعدا، لم يكتب إلى حد الآن
سوى خمس روايات، وسيكتب الكثير منها في الخمسين سنة المقبلة". وهذه الجملة
الأخيرة هي التي تجعلنا نرى لونا ما من السخرية، التي يمكن أو يروق لي بالأحرى أن
أحيلها على كثير من روائيينا الذين ينشرون كتابا أو اثنين ثم يشرعون في التعامل مع
العالم باعتبارهم أساتذة العالم!
هذا الكتاب، الذي صدر بالإنجليزية قبل فترة وترجم للفرنسية التي ترجمت
منها هذه النسخة للعربية على يد الكاتب والمترجم المغربي سعيد بنكراد، يضم، أو
يحتوي خلاصة ما راكمه هذا الكاتب الناشئ أمبرتو إيكو، على مدى ما يناهز الثلاثين
عاما، من خبرات الكتابة. وآثر أن يقدم عصارة هذه الخبرات للقراء والمهتمين.
لكن هذه الخبرة المتراكمة أيضا
ليست وصفة للكتابة، أو تعريفا لأي من خصائص عملية التخليق الأدبي. لكنها بالأحرى
سيرورة تفكير الكاتب أمبرتو إيكو في اثناء عمله، ومحاولة لتأمل كيفية تداخل
الخلفية الثقافية في متن هذا التخليق، ثم من جانب آخر محاولة لفحص الكيفية التي
يتلقى بها القارئ العمل، ومقارنة من يسميه القارئ الساذج بالقارئ المثقف صاحب
الخبرة في القراءة.
يقسم إيكو كتابه إلى أربعة فصول، يقدم في أولاها ما يظنه خصائص أسلوبية
لكتابته، ويتتبع اللحظات التي انبثقت فيها فكرة كل رواية من روايته الخمس، ويحاول
أن يجيب عن سؤال جوهري هو "كيف نكتب؟"، فيما الإجابة التي استغرق
تفصيلها هذا الفصل كان ملخصها الجملة التي عنون بها هذا الفصل مجيبا أنه
"يكتب من اليسار إلى اليمين".
لكن هذه الإجابة المستفزة بتعبيره تحتاج إلى شرح مطول يبدأ من يقينه بأن
فكرة العبقرية بالنسبة لديه وكما يقول المثل القديم، لا تغطي سوى عشرة في المئة من
الإلهام. أما التسعين في المئة المتبقية فمصدرها الجهد الفردي.
وبعد أن يتناول الكثير مما ذكر عن روايته الأولى اسم الوردة من انها كتبت
تحت تأثير الهام واشراق، او غيره يوضح بحسم "عليّ أن اعترف ان كتابة اسم
الوردة لم يتطلب مني سوى سنتين، لسبب بسيط هو أنني لم أكن محتاجا للقيام ببحث في
القرون الوسطى، إذ أن اطروحتي لنيل الدكتوراه كان موضوعها الجماليات القروسطية،
ومع مرور الزمن كنت قد زرت أديرة رومانية كثيرة وزرت كنائس قوطية ومنشآت قروسطية
أخرى. وعندما قررت كتابة الرواية كان الأمر كما لو أنني أفتح رفا كبيرا حيث كانت
ملفاتي مكدسة من سنين عديدة. لقد كانت المادة هناك ولم يكن عليّ سوى انتقاء ما كنت
في حاجة إليه".
يوضح إيكو أنه باستثناء اسم
الوردة، فقد استغرقت كل رواية من رواياته الأخرى: "بندول فوكو"، "جزيرة
اليوم السابق"، "باودلينو" ما بين ست أو ثماني سنوات، بينما
استغرقت كتابة رواية "الشعلة الغامضة للملكة لوانا" منه أربع سنوات.
ويعرج في هذا الفصل على المفارقات التي انبثقت منها أفكار الروايات،
وبينها صدف من مثل أنه قبل سنوات من كتابة اسم الوردة تلّقى عرضا من دار نشر صغيرة
طلبت منه وعدد من الأكادميين وغير
الروائيين كتابة قصة بوليسية صغيرة، ولكنه رفض العرض قائلا أنه لو اضطر لكتابة
رواية بوليسية فسوف تدور أحداثها في القرون الوسطى ولن تقل عن 500 صفحة. وحين عاد
إلى مكتبه وجد مخطوطا قديما كتب فيه عدد من أسماء بعض الرهبان في العصور الوسطى
ومن هنا بدأ كتابة الرواية.
لكنه يتأمل كذلك كيف قام بعض قرائه بزيارة أديرة معينة باعتبارها الدير
الذي وصفه في اسم الوردة، بينما كان الدير متخيلا تماما بالنسبة له، اخترعه من
المخيلة وكذلك طبوغرافيته. كما يضرب أمثلة مما جاء به النقاد يحاولون الربط بين
وردة إيكو، ووردات أخرى جاءت في كتابات أخرى معاصرة وقديمة، أو محاولات من قراء
للتفتيش عن أنفسهم داخل النصوص، وغير ذلك، مما يراه إيكو مجموعة أمثلة على
التأويلات التي قد يتيحها نص، ولا تكون لها علاقة حقيقية بما قصده النص أو المؤلف.
يقول إيكو: "ان النص جهاز الغاية منه انتاج قارئ خاص به. وهذا
القارئ ليس شخصا قادرا على طرح تخمينات تكون وحدها دون غيرها جيدة: الأمر على عكس
ذلك، يمكن للنص أن يتوقع قارئا نموذجيا له الحق في إسقاط تخمينات لا
متناهية".
يكرس إيكو في الفصل اللاحق جهده للتحقق من الكيفية التي يتم بها استقبال
الشخصية التخييلية، التي تجعل البعض يتماهى مع آلام تلك الشخصيات ومصائرهم كما هو
الأمر مثلا عند بكاء القراء عند انتحار مدام بوفاري، أو مع لجوء عدد كبير من
الشباب الألمان للانتحار بعد قراءة آلام فيرتر لجوتة. يحاول أن يقترب من السلطة
الأخلاقية للشخصية التخييلية، والكيفية التي تعيش بها هذه الشخصية، في ذهن القارئ، والتي تجعل البعض يحيل
سمات الشخصية الواقعية عليها، كما شرلوك هولمز مثلا بالنسبة للبريطانيين، أو كما "سي
السيد" في أعمال محفوظ – وفق ملاحظة المرتجم-، ويتأمل الكيفية التي يتعامل
بها التلقي مع الشخصية التخييلية مقارنة بما يفعله أو ينبغي أن يفعل في حال أن
الشخصية محل الاهتمام شخصية من الواقع ماتت بالفعل وأخرى لا تزال حية.
يوضح إيكو "ان شخصيات التخييل تعيش في عالم ناقص أو- لكي نكون وقحين
وغير لبقين- في عالم معوق . ولكننا عندما ندرك فحوى مصيرها يساورنا الشك في اننا
نحن ايضا مواطني الهُنا والآن نكون أمام مصيرنا فقط لأننا نفكر في عالمنا كما تفكر
شخصيات التخييل في عالمها. يوحي الينا التخييل بأن الرؤية التي نكونها عن العالم
الواقعي قد تكون هي الأخرى ناقصة تماما كنقصان الرؤية التي تملكها شخصيات التخييل
الذي تتحرك فيه. ولهذا السبب عادة ما تصبح الشخصيات التخييلية الكبرى نماذج للشرط
الانساني الواقعي".
أما الفصل الأخير فيمنحه عنوان "لوائحي"، ويقصد إيكو باللائحة
كل سجل يحتوي على مجموعة من الأشياء الموضوعة في مكان ما كما هو حال السلع في الأسواق
والكتب التي تحتويها خزانة ما او مفردات القاموس الخ.
وهوهنا يتقصى بداية فكرة اللائحة الخاصة بعدد من الكتاب، والتي تعود إلى
ثقافة كل منهم الخاصة، والموروث الثقافي.
ويعرجعلى عدد كبير من اللوائح أو التراكمات التي قام بها العديد من
الكتاب في نصوص مختلفة، ثم يوضح كيف قام هو بتعداد الكتب الموجودة في إحدى مكتبات
الدير في اسم الوردة. مختتما أن اللوائح هي نوع من الالعاب التي تحقق السعادة
للكاتب والقارئ. وهو بهذا الاعتراف يختتم اعترافاته ككاتب ناشئ.
هذا كتاب يوضح الكيفية التي تؤثر بها ثقافة الكاتب الموسوعية، ومرجعيته
الثقافية ايضا، في تأمله لخبراته في الكتابة، وهي كاشفة للقارئ والكاتب معا،
وأهميتها إضافة لمحتواها المضئ، أنها تكشف الكثير من زيف المدعين الذين يملأون
حياتنا صخبا وزيفا بكتابين أو ثلاثة، وأحيانا حتى بلا كتب!
الكتاب: اعترافات روائي ناشئ
المؤلف: أمبرتو إيكو
المترجم: سعيد بنكراد
الناشر: المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء
عدد الصفحات: 221
نشرت في صحيفة "الأهرام" - صفحة كتب- في 11 يونية2014
No comments:
Post a Comment