ثورة
زمـانيـة
مقدمة كتابي الجديد
ويصدر عن مكتبة الإسكندرية قريبا
هل هناك شكل للزمن؟ وهل تغيرت علاقتنا
بالمكان بعد ثورة الاتصالات الراهنة؟ الإجابة هي نعم، بالتأكيد، بل إن ثورة
الاتصالات التي تتجسد في الوسائط الافتراضية على شبكة الإنترنت، أسهمت في تحقيق
تغيير شامل لمعنى الزمن والمكان، وانضغاطهما، إذا صح التعبير، بما يؤدي إلى تكون
نسق جديد لصيغ من العلاقات بين الناس، وبين الحكومات، ورأس المال، ولتولد قيم
جديدة، وطرق تفكير مختلفة.
قبل أن تندلع الثورات والانتفاضات العربية
بكل ما أفرزته من حراك سياسي واجتماعي، وتغيرات في مفاهيم المطالب والحقوق، وحين
كنت، قبل سنوات طويلة من بزوغ الربيع العربي، أتأمل الأوضاع السياسية والاجتماعية
والاقتصادية السائدة، آنذاك، متيقنا أنها لا يمكن أن تستمر على النحو الذي كانت
تسير فيه حيث طال الفساد كل شئ، وانتفت قيم التجويد والكفاءة، لصالح المصالح
المتبادلة. كنت أردد لنفسي أنه لا بد أن تحدث يوما ثورة أو انتفاضة، لكني سرعان ما
كنت استبعد الفرض. فقد كنت أرى أن الشعب المصري، في غالبيته العظمى، يميل للتكيف
مع الأوضاع السائدة أيا كانت وأيا بلغت درجة سوئها، ومهما تذمر أو أبدى إحباطا
ويأسا مما يحدث حوله، فهو عادة ما يختتم حديثه مردداً "ربنا يستر" أو
"ربنا يجيب العواقب سليمة"، واثقاً من أن رحمة الله هي التي سوف تنقذ
مصيره الشخصي ومصير البلد.
بالتالي فقد كنت أعرف أن شعباً يفكر بهذه
الطريقة لن يسعى لعمل ثورة على الأوضاع، لأن الثورات، كما علمتنا دروس التاريخ، لا
بد أن تتبعها حالة من حالات خلخلة المجتمع، واضطرابه، وانهيار الدعامات الهشة لمفهوم
الاستقرار الذي يتوهم المجتمع أنه يعيشه.
كنت أعرف أن الدول التي شهدت في تاريخها
ثورات وحركات احتجاج شعبية كبيرة، عانت شعوبها طويلا، بمعنى زمني تقليدي يمتد في
بعض الحالات لأكثر من قرن، قبل أن تتمكن من تحقيق السلام الاجتماعي والاستقرار
والرفاهية، وكلفها السعي لكي تنال حريتها كلفة باهظة من الدماء والتضحيات والصبر
على سيناريوهات الثورة المضادة التي تقودها قوى الفساد والرأسمالية المتوحشة.
لم أكن متأكدا أن الشعب المصري لديه الاستعداد
أو القدرة، ولا الصبر والفهم من أجل تحمل مثل هذه التكلفة. خصوصا أنني في النهاية
كنت فردا من أفراد مجتمع، عايش وتعايش، بشكل أو آخر، مع كل مظاهر ذلك الفساد الذي
كانت تدور حولنا وبيننا في كل مكان، رغم الاستنكار والإحباط والإرهاق النفسي، وحتى
محاولات النأي بالذات عن التورط في منظومة الفساد بكل ما يمكنني من طاقة، وممارسة
دور وحيد ممكن ممثلا في الكتابة والنقد.
كنت أدرك، بناء على الوعي بتاريخ الثورات، أن
بدء عملية تغيير جذري سوف يتبعها عقود من العمل من أجل تحقيق الاستقرار. وأن
الشعوب التي صنعت أبرز الثورات الشعبية مثل الثورة الفرنسية، اكتمل لها اليوم وعيا
يناهز تاريخه نحو قرون ثلاثة. وبالتالي قدّرت أننا ربما نحتاج عمراً مماثلاً لكي
نصل للوعي بضرورة التغيير، بالمعنى الحقيقي أي أن نمتلك الوعي بأن التغيير لا يحدث
إلا إذا الشعب يوما أراده، وامتلك الإرادة والقدرة على التعبير عنها.
كان الأمل الوحيد لأي تغيير أسرع من الحلم
بثورة يتجسد في الحلم بأن تحدث معجزة ما في يوم ما، ويأتي لحكم البلاد من يكون
قادرا على تنميتها من الداخل، بالرغم من استحالة ذلك نظريا وعمليا.
وفي يومي 25 و28 يناير 2011 كنت أتابع ما
يحدث في ميدان التحرير، وفي أرجاء واسعة أخرى من القاهرة والمحافظات المصرية، كما
الملايين من المصريين وغيرهم، بتوتر وترقب حذر، ولكن بأمل بالغ، في الوقت نفسه، أن
يكون في الحراك المباغت المدهش أول ما يدونه التاريخ كمقدمات الثورة التي كان
الفرد يحلم بها، ويراها مجرد معجزة. وحين سقط حسني مبارك في 11 فبراير من نفس
العام تأكد إحساسي من أننا بالفعل في طريق ثورة مهمة، إن لم نكن بدأنا حقا في
تحقيق معجزة.
تمثلت المفاجأة الحقيقية، رغم نشوة انتصار
الشعب على الديكتاتور، بعد تنحي مبارك وتسليمه السلطة الانتقالية للمجلس العسكري،
أن أحداً في مصر لم يكن يتوقع ما يحدث، وبالتالي فلم تكن هناك أية بدائل جاهزة
لتوجيه دفة الأحداث، وهو الأمر الذي يسر الأمر لتنظيم الإخوان المسلمين أن يحقق هدفا
طال الحلم به لديهم بتدبير مخططات تضمن وصولهم للحكم بشكل ديمقراطي، وأكرر
بـ"مظهر" ديمقراطي ولكن من دون جوهره، لأول مرة في تاريخهم.
لكن عليّ الاعتراف هنا أن شيئا لم يفاجئني
من أي أحداث أعقبت تنحي مبارك وحتى اليوم، بكل ما مرت به مصر من تجارب وخبرات
وتحالفات وأعمال فوضى وعمليات قتل مارسها القتلة أيا كانوا، وبداية من تورط المجلس
العسكري الذي تسلم الحكم من مبارك بقيادة المشير طنطاوي، أولا في قتل المدنيين، ثم
في محاكمتهم عسكريا، وحتى وصول الإخوان للحكم، ثم ممارساتهم المتوقعة في محاولة
"أخونة الحكم" وعدم وجود مشروع نهضة حقيقي، وفشل ذريع في إدارة الدولة
بالحد الأدنى حتى من الخبرات.
لم يفاجئني شيء، لأن انطلاق شرارة ثورة
كان يعني أن عوامل الجمود الشعبي قد انتهت للأبد، وأن ما يلي ذلك سوف يخضع لدروس
التاريخ. وتاريخ الثورات في الحقيقة يقول ذلك، بل ويقول ما هو أكثر من ذلك؛ دموية
وشيوعا للفوضى وانعدام الأمن، وتكالب كل الانتهازيين على السلطة. وهي كلها عوامل
ترتبط بقوة التغيير، والإحساس بتآكل السلطة السابقة التقليدية، إضافة إلى تجليات
المسببات الحقيقية التي دعت للثورة أساسا، مثل الفقر الشديد، والإحساس بالمهانة من
قمع السلطة الديكتاتورية، والتفاوتات الطبقية، وانسداد الأفق، وقلة الوعي وانخفاض
مستوى التعليم.
لكني انتبهت إلى أن معدل تسارع الأحداث هو
العنصر الحديث في هذا الحراك الشعبي، ففي عامين اثنين نجح الشعب المصري في إسقاط
ديكتاتور، وعزل آخر، وهو محمد مرسي رغم أنه كان قد انتخب، وذلك بسبب الفشل الكبير،
وعدم القدرة على تنفيذ أي من مطالب الثورة.
وفي تاريخ الثورات قد يأخذ مثل هذا المسار
سنوات طويلة. وبعد تأمل اكتشفت أنه لا بد من وجود علاقة ما بين وسائط الاتصال
والتواصل الحديثة كمتغير أساسي واكب هذا الحراك، وبين هذا التسارع المبهر في الوقائع
على الأرض.
صحيح أن هذه الوقائع، بالعودة مرتين إلى
الجيش لقيادة الدولة في الفترة الانتقالية،
ربما قد تعبر عن فشل الثوار، وعجزهم عن فرض مطالب الثورة على أرض الواقع،
ضد قوى الثورة المضادة، وقوى الفاشية الدينية، أكثر من كونها حركة ثورية تتقدم
للأمام محققة شعاراتها وفق مخطط ثوري طموح. لكن إيقاع مسيرة الأحداث هو الذي يفرض
فكرة "القفزات" الزمنية في مسيرة الحراك الثوري.
فحين
نقارن بين الثورات الكبيرة مثل الثورة الفرنسية، ندرك أنها أصبحت "ثورة"
بعد مسارات عديدة وإخفاقات كبيرة، وبالرغم من عودة الملكية مرة أخرى بعد إسقاطها
بسنوات، وبالرغم من وجود مجموعة كبيرة من المنظرين المهمين مثل فولتير وسواه.
وبالرغم من ان المجتمع الفرنسي مثل أغلب دول أوربا كان يمتلك آنذاك جامعات تقليدية
أكاديمية خرجت أجيالا من الأكاديميين والعلماء والباحثين والمفكرين، إلا أن مسار
الثورة اتخذ الكثير من التعرجات حتى وصل إلى تحقيق أهداف الثورة في نهاية المطاف.
وهكذا وبالعودة لتأمل الانتفاضتين
الشعبيتين اللتين اندلعتا؛ أولاً في تونس بعد أن حرق البوعزيزي نفسه في 10
ديسمبر2010، ثم ما تلى ذلك لاحقاً في مصر في 25 يناير2011، وما واكبهما في توقيتات
متقاربة جدا في البحرين في 14 فبراير، وليبيا 17 فبراير واليمن في وسوريا في 18
مارس، اكتشفت، كما هو معروف للجميع اليوم، الدور الكبير الذي لعبته وسائط الاتصال
الحديثة ممثلة في شبكة الإنترنت ووسائط الاتصال الاجتماعي المرتبطة بها، مثل
"فيسبوك"، و"تويتر".
تراوح هذا الدور في توثيق العديد من مظاهر
الفساد في الدول المختلفة، من خلال بث صور وفيديوهات وأفلام قصيرة مصورة، ونشر كل
ما يتعلق بحالات تعذيب المواطنين، في أقسام الشرطة المصرية، وحشد رأي عام ضد هذه
الممارسات، وفي مرحلة لاحقة تصاعد دور الشبكات الاجتماعية الافتراضية، من خلال بث
اخبار الاحتجاجات الفئوية المختلفة وبينها احتجاجات عمال المحلة، في محاولة لتوسيع
نطاق انتشارها. وصولا إلى بدء الدعوة إلى التظاهرات المختلفة، ثم الحشد لتظاهرة 25
يناير بعد نجاح الانتفاضة التونسية في إنهاء حكم الرئيس التونسي زين العابدين بن
علي وهروبه وأسرته خارج تونس.
لكن دور الوسائط الافتراضية في الحقيقة لم
يتوقف عند دوره كلاعب أساسي في تحريك الثوار والحشد، وتأكيد إصرار الجماهير على
مطالبها، وتناقل خبرات ثوار تونس في مواجهاتهم للقمع البوليسي والغاز. بل شهد أولا
تصديا لمحاولات إيقاف عمل شبكات الإنترنت، كما حدث من حكومة أحمد نظيف في مصر،
إبان 25 يناير، لكن شبكة الإنترنت تحولت إلى خلية عمل من قبل كل من يعيشون خارج
مصر من المصريين والأجانب لدعم ثوار التحرير.
ثم تعدى
الأمر ذلك إلى المراحل الانتقالية التي أعقبت الثورات، وبالتالي أيضا فإن
ما حدث في ليبيا، على سبيل المثال منذ بدء الأحداث لإسقاط الرئيس الأسبق معمر
القذافي، مرورا بالتدخل الأجنبي وحتى اعتقال القذافي على يد بعض الثوار وقتله، ثم
نقل السلطة وكتابة الدستور لم يستغرق زمنا طويلا، مقارنة حتى بزمن الوجود الأمريكي
في العراق.
وهو ما يعني أن هناك بالفعل، على مستوى
القياس الزمني، فيما مرت به دول الثورات من أن أحداث، نوع من حرق مراحل مختلفة قد
كان من الممكن أن تأخذ فترات تاريخية في ظروف أخرى.
إن تأثير الوسائط الافتراضية الجديدة أدى
إلى العديد من الظواهر، بعضها يتعلق بالحراك السياسي والاجتماعي نفسه، وبعضها
يتعلق بمولد حالة من التفاعل اجتماعي تام بين كل طوائف المجتمع، بالحوار أو الجدال
أو حتى تبادل الاتهامات والتخوين، وهو ما يعني أن المجتمع قد تم تسييسه تماماً
بفضل هذا الحراك الفكري على الإنترنت، والذي يعد انعكاساً مباشراً لكل موقف على
الأرض من قبل الأطراف المختلفة.
وبالتالي فقد كان للمساحة الافتراضية على
شاشات الكومبيوتر والهواتف المحمولة دور كبير أيضا في مسيرة الثورة، والحراك
الشعبي، عبر تعبير الأفراد عن أفكارهم ورؤاهم من جهة، وإعلان مواقفهم وأحيانا
بالدعوة لاتخاذ مواقف بعينها أو التوقيع على بينات وغير ذلك، من جهة أخرى. كما أن
هذه المساحة الافتراضية نفسها جسدت انعكاساً ورد فعل مباشراً يومياً، وربما
لحظياً، لما يحدث على أرض الواقع.
ولذلك فحين وصل الإخوان للحكم ممثلين في
شخص الرئيس المعزول محمد مرسي، رغم علامات الاستفهام الكبيرة التي أحاطت به، خصوصا
وأنه كان هارباً من السجن خلال الثورة، ولكونه لم يكن سوى بديل لمرشح آخر. حين وصل
للحكم، كان لدي يقين أن الثورة بمسارها الذي بدا وقد اصابته عدوى الحركة السريعة
الذي يميز وسائل التواصل الاجتماعي، سوف لن تصبر طويلا على مرسي إذا ثبت فشله أو
إذا تورط في مشروع أخونة الدولة، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل، وخلال عام واحد كما هو
معروف.
وربما يقول البعض أن مسار
"تدبيج" الإعلان الدستوري الأول في ظل الحكم العسكري، وما تلاه من مسيرة
مشوهة باتجاه ديمقراطية مشوهة، بدا جليا في وقت لاحق أنها كانت تخدم فقط
"التعجيل الشديد" بوصول الإخوان للحكم، كان نتيجة لمؤامرة ربما تكون
أطرافها العسكر بقيادة طنطاوي آنذاك والإخوان وأمريكا، وهو ما لاحت العديد من
المؤشرات الدالة عليه عقب قيام الشعب بإسقاط مرسي، وبدعم وطلب شعبي وجهه الشعب
للجيش في 3 يوليو بعد إعلان الفريق السيسي تفهمه لمطالب الشعب.
كما قد يفترض آخرون أن المسار السريع
لانتقال السلطة للإخوان لا يعود لأسباب لها علاقة بالثقافة التي سادت في زمن
الثورة ممثلا في وسائل التواصل السريع الافتراضية، وأنه فقط يعود لمؤامرات القفز
على الثورة. وقد يكون هذا صحيحا، لو لم نشهد التسارع المذهل للرفض الشعبي للإخوان
فور انكشاف مخططاتهم، وعدم قدرتهم على إدارة البلاد، أو تقديم أي حل اقتصادي
للأزمات التي كانت تعصف بالغالبية العظمى من أفراد المجتمع وخصوصا الأكثر فقرا من
بينهم.
فمن الشارع وصولا للإنترنت كالعادة،
استطاعت "حركة تمرد" أن تجمع تواقيع موثقة لما يزيد عن 22 مليون مواطن
قبل حلول يوم 30يونية 2013، يرفضون حكم
مرسي والإخوان، وفي تاريخ واكب مرور عام واحد فقط على تسلم مرسي للحكم، ولكي يتم
إسقاطه.
ومن هنا رأيت أهمية تتبع مسار الثورة
الافتراضية على الإنترنت باعتبارها مساراً ثورياً موازياً يمكن من خلال رصده
وتحليله فهم الكثير مما حدث ويحدث على أرض الواقع.
لكن هل يمكن حقا أن تؤدي وسيلة افتراضية
مثل شبكة الإنترنت، بكل إمكاناتها اليوم، وما تحتويه من برامج ومضامين خلخلت فكرة
الزمن، إلى خلق مفاهيم مختلفة، أو حديثة، للزمن لدى كلا الشعوب الشرقية (العرب
والآسيويون) والغربية على حد سواء؟
وإذا افترضنا جدلاً، أن ضغط الزمن وفقا
للتطورات التي تتسبب فيها الثورة التقنية الالكترونية يمكن أن يخلخل مفهوم الزمن،
الساكن تقريباً، في المجتمعات الشرقية الميّالة للراحة والسكون، والخاضعة لتراث
ذهني يدعو للتواكل باسم المعتقد الديني حيناً، وباسم التراث الطويل من التعامل مع
الذات كضحية تتلقى ما يحدث لها، أيَّاً كان، كضربة قدر يُختبر بها إيمانها، أحيانا
أخرى.
وإذا حدث وتمكنت الوسائط الافتراضية، بعد
زمن من استقرارها في الثقافة الشرقية، في إحداث تغيير ما في مفهوم الإحساس بالزمن،
وما يترتب على ذلك من تغيير متوقع في القيم المترتبة على ذلك مثل تقدير قيمة العمل
والمبادرة، والإعلاء من القيم العقلانية والتفكير، فكيف سيكون تأثير هذه الوسائط
الافتراضية على المجتمعات الغربية العقلانية التي استطاعت أن تمنح للزمن قيمة
كبيرة منذ فترة طويلة؟
هذا سؤال من بين أسئلة أخرى يحاول أن
يطرحها هذا الكتاب الذي استند في الأصل على عدد من المقالات التي كتبتها ونشرت في
مجلة "العربي" الكويتية حول الثقافة الإلكترونية، في علاقتها بالثورات
العربية على نحو خاص، وبمقالات أخرى نشرتها في صحيفة النهار اللبنانية، أو على مدونتي
الشخصية. وقد قمت بإعادة تحرير هذه المقالات، وإضافة الكثير من الأفكار والأسئلة
والبحث، من أجل بناء الكتاب بهذا الشكل.
وبين الأسئلة التي يطرحها الكتاب هناك سؤال رئيس
عن دور وسائل التواصل الاجتماعي، بل ودور الثقافة الافتراضية إجمالاً فيما كان
بإمكانها مثلا أن تلعب دوراً في تحقيق "ثورة" في المفاهيم الخاصة بقيمتي
التسامح والتعايش؟ وهل يمكن أن يكون "فن صناعة الكراهية" باسم المشروعات
السياسية الدينية وباسم الطائفية المقيتة، قادراً على تحقيق سلام اجتماعي من أي
نوع في أي مجتمع؟
الإجابة عندي، وعبر أدلة من محطات عديدة
تناولتها سرديات التاريخ، هي لا قاطعة ونافية. إذ أعتقد أنه لا يمكن لقوة، أيّاً
كانت، أن تحكم، وتقيم دولة عدل وحكم رشيد يراعي حق المساواة كحق أولي وأساسي لأي
نظام حكم حقيقي، وفق منطق يميز الطائفة التي تنتمي إليها هذه القوة.
وإذا كان بالإمكان دوماً حشد الجماهير باسم
الطائفة، وإيهامهم بأي من الأوهام التي تغذي استعدادهم الطائفي لكي يصبحوا أنصارا
مخلصين للمشروع السلطوي الطائفي، فإن هذا الجمهور، في الحقيقة، لا يمكن أن ينتصر
للسلام الاجتماعي، الذي يهدف أي مجتمع متوازن لتحقيقه. لأن مشروعه في الأساس عنصري
ويقوم على التمييز؛ أي أنه يضرب مشروع الدولة في مقتل عدم المساواة.
المقالات التي يضمها الكتاب هي محاولات
مختلفة إذن؛ أولاً لبحث مفهوم التحول في معنى الزمن والمكان، بسبب سيادة لغة العصر
الحديث، لغة الكومبيوتر والحواسب الآلية، واجهزة التليفون الذكية، وشبكة الإنترنت.
وعلى مستوى آخر تكشف هذه المقالات الكيفية التي
يمكن بها لمجتمع المعلومات والاتصال السريع والتواصل الاجتماعي غير المسبوق أن
يفضح بسهولة زيف المشروعات الطائفية، والأصولية، وكل مشروعات الإسلام السياسي الذي
يقوم على أفكار عنصرية لا تحقق جوهر الدين الذي ينادي بالمساواة وعدم التمييز بين
البشر، وهو جوهر قيم الإنسانية وحقوق الإنسان.
ثم يقدم الكتاب رصداً منوعا للوسيط
الافتراضي كفضاء للثورة؛ كفاعل ثوري مرة، وكراصد لحظي لمسار الثورة مرات. وكذلك
كوثيقة افتراضية، تطرح أسئلة عن تناقضات مجتمع صوري، أي يرتدي زي المدنية بينما لا
يزال تحتها يرتدي جلبابا ويعتمر عمامة، ولا يزال يعاني من تراث متراكم من
التقليدية والأفكار المحافظة وميراث من النقل الثقافي بدلا من الطرح العقلاني.
أخيرا تحاول مقالات هذا الكتاب تأمل التناقضات
في مدى وعي الجمهور في دول الثورات لفكرة المستقبل، لأن المعنى الجوهري لفعل
الثورة أنه فعل مستقبلي بامتياز، يتخيل مستقبلا غير موجود ويريد أن يحقق له
الوجود، ويرى أن القضاء على كل مظاهر الفشل والتخلف لا يمكن أن توجد سوى بخطوات
تُقطع للأمام. ولهذا يكون السؤال هو هل يمكن لثورة أن تنجح إذا كان صانعوها لا
يمتلكون الخيال اللازم لنجاح صناعة المستقبل، أو حتى إذا كانوا يريدون أن يستعيروا
مشروعا من زمن "ماض" بديلاً للمستقبل؟ هنا بعض محاولات للإجابة.
No comments:
Post a Comment