هل هناك أهمية لترجمة الأدب العربي إلى لغات أجنبية حقا؟
إبراهيم فرغلي
أتابع منذ فترة بحكم عملي كصحفي وكاتب ووفقا لاهتماماتي
أخبار ما يترجم من الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية في أوربا، خصوصا للغات الإنجليزية
والفرنسية والألمانية. كما أتابع باهتمام أخبار الجوائز العربية التي تحظى باهتمام
مؤسسات الترجمة وبينها على وجه الخصوص جائزتي نجيب محفوظ التي يمنحها سنويا قسم
النشر بالجامعة الامريكية بالقاهرة، والجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة
باسم بوكر العربية.
ولفترة طويلة كنت استقبل تلك الأخبار بحسن نية، وبتقدير
الجهات الغربية المهتمة بترجمة ادب ليس له شعبية عالمية، مبتسما في الحالات جميعا
ابتسامة مرارة، لكني اليوم، وبعد الكثير من المراقبة والمتابعة وجدتني اسأل نفسي
سؤالا ملحاً وهو: هل ثمة أهمية بالفعل لأن يترجم الأدب العربي إلى اللغات
الأجنبية؟ وهل تؤدي مثل تلك الجوائز حقا إلى انتشار الأدب العربي في لغات أخرى؟
وأخشى أن إجابتي على السؤالين هي إجابة بالنفي، بـ "لا"
قاطعة وبلا تردد. فمن مجمل ما نراه اليوم مترجما ومحتفى به من الأدب العربي في الغرب،
ومن الجائزتين المذكورتين وسواهما أرى أن شيئا لم يتغير، فلا هذه الترجمات نجحت في
التعبير عن الإنتاج الأدبي الحقيقي في العالم العربي من جهة، ولا استطاعت أن تحقق
أية جماهيرية لهذا الأدب، ولا أتوقع أن يحدث هذا مستقبلا طالما استمرت الطريقة
التي تعمل بها آليات الترجمة الموجودة الآن على النحو نفسه. خصوصا وأن المشكلة
الكبرى التي تواجه ترجمة الأدب العربي هي غياب مؤسسات عربية تدعم وتروج وتخطط
لعملية ترجمة منظمة.
ولعله من الضروري هنا أن أذكر نفسي أننا نعيش في مجتمع
فُرجة كما يقول جي دوبور Guy Debor،
وأن القيم الرأسمالية الربحية تصوغ القيم في العالم كله غربا وشرقا، وتعمل مؤسسات
تسويق الصور الاستهلاكية الجبارة على خلق أسواق تؤدي للربح ايا كان المنتج، وللأسف
يبدو لي أن سوق النشر والترجمة، أوربيا وعربيا لم يعد استثناء من هذه القاعدة. لكن
ما يهمني هنا ككاتب عربي هو التأكيد على أن الكتاب العربي الذي يتم تصديره خارج
حدوده عبر الترجمة، ممثلا للمجتمع العربي الذي يصدر فيه، أصبح ضحية مزدوجة؛ مرة من
الإعلام السطحي التجاري المهتم بالصورة على حساب الجوهر في بلد إنتاجه العربي، ثم
هو، مرة أخرى ضحية أيضا لـ "الصورة"
التي تحاول المركزية الأوربية أن تقدمها للعالم عنه.
فمن
الجلي اليوم أن هناك تركيزا من الناشرين على "موضوعات" كتابة وليس على "أساليب"
كتابة، تركز عادة على موضوعات مثل الفساد ودور المرأة العربية في مجتمعها والعلاقات
الجنسية خصوصا في المجتمعات المغلقة في محاولة تبدو كأنها مدفوعة من سوق نشر يقدم
للقاريء الغربي صورة تقول بأن هذه المجتمعات قد لا تمتلك كتّابا عالميين، وهذا
مفهوم مخلوق بواسطة المركزية الأوربية على أي حال، لكنها تمتلك مجتمعات يمكن للقاريء
الغربي أن يتسلى بالتعرف عليها؛ مجتمعات مغلقة غير مفهومة تنتج الإرهاب والعنف،
ويعيش اهلها العديد من مظاهر الفساد والاضطهاد وتعاني فيه المرأة من الاضطهاد
الجنسي والاجتماعي، وهذه الكتب تحاول أن
تفتح لكم هذا العالم.
والحقيقة
أن هذه الظاهرة أصبحت مثار تعليق الكثير من الكتاب العرب والمهتمين، واقتطف فيما
يلي من مقالة لجابر عصفور الناقد والأكاديمي ورئيس المجلس الأعلى للثقافة المصري
ووزيرالثقافة سابقا، في مقال له نشر في صحيفة الحياة متأملا هذه الظاهرة مؤكدا ان
ما يحركها ما يسميه بنزعة الاستشراق الجديدة ويقول:"ترعى نزعة عالمية الاستشراق الجديد مجموعة من
الأعمال الأدبية والفنية التي ينتجها العالم الثالث بوجه عام، والعالم العربى بوجه
خاص، وهي أعمال تتوافر فيها صفات التشهير وفضح أشكال التخلف البشع في كل مكان،
والفساد المستشري على كل مستوى، بهدف التسويق لهذه الأعمال بعد ترجمتها وتوزيعها،
بعد الترويج الإعلامي لها على نحو غير مسبوق. ومن هنا نشأت ظاهرة الروايات الرائجة
المحدودة القيمة الإبداعية الفضائحية التي لا تترك فساداً أو قمعاً أو شذوذاً أو
انحرافاً إلا وتبديه مبرزة صوراً بشعة في تخلفها"، ويرى عصفور أن هذا الأمر
ليس صدفة مشيرا إلى أن "ارتباط نزعة الاستشراق بأيديولوجيا هيمنة موازية،
لحقها صعود أيديولوجيا العولمة، وتهدف إلى تحقيق أمرين، أولهما إبقاء صورة الشرق المتدني
الغريب والعجيب والمتخلف والمقموع في آن في أذهان الغربيين، تبريراً لضرورة
الهيمنة الاستعمارية على هذا الشرق ، وثانيها إيهام أبناء هذا الشرق العجيب
بتخلفهم الأبدي الذي هو مصدر الإعجاب بهم، والفتنة بعوالمهم، وذلك بما يبقي الشرق
المتخلف على تخلفه، مصدراً لثروات منهوبة، ومتحفاً لعجائب البشر وغرائب عوائدهم".
المستعرب الصديق شتيفان فايدنر كان واحدا ممن
احتفوا ببعض هذه الكتب محدودة القيمة وبينها مثلا كتاب "تاكسي" لخالد
الخميسي، قائلا:"سيتساءل بعض النقاد في الغرب: "أليست القيمة الأدبية
لهذا الكتاب محدودة؟". لكن علينا حقا أن نتخلى عن الفهم الغربي التقليدي
للأدب، من أجل فهم ما تمكن الكاتب من تحقيقه هنا. علينا أن نعترف أن الخميسي قد حل
بضربة حاسمة عقدة الأدب العربي المعاصر والتي تكمن في أن المشاكل التي يفترضها أن
يتناولها الكُتّاب في اعمالهم كبيرة جدا بحيث تصعب معالجتها أدبيا".
والحقيقة أنني
بشكل شخصي لا أفهم لماذا يجب أن يتحول النص الأدبي إلى وثيقة سوسيولوجية متخليا عن
قيمته الأدبية؟ ولماذا يروج لحكايات من هذا النوع على أنها ادبا من الأساس؟
والحقيقة أنه في مقابل هذه الفكرة التجارية تاكسي أنجزت الباحثة اللبنانية دلال
البزري كتابا مهما صدر عن ميريت، بعنوان "السياسة أقوى من الحداثة" وهذا
بحق هو الكتاب الذي يمكن أن يقدم لنا توضيحا رائعا للتغيرات التي مرت بها مصر
اجتماعيا وسياسيا عبر شهادات هي اجابات على اسئلة لعدد من الاشخاص من أجيال مختلفة
وطبقات مختلفة اكبرهم عمره 90 عاما واصغرهم في العشرين .
واعتبرت المؤلفة أن ما قدمته هو بحث سوسيولوجي للكيفية التي يتم بها استقبال عناصر
الحداثة والتعامل معها سلبا أو إيجابا في مقابل المفاهيم التقليدية. فهذا ما يجب
أن يبحث عنه القاريء الغربي ليفهم العرب إن شاء.
وما
يجعلني اشعر بالغبن تجاه قيمة الأدب العربي في الغرب سأضرب له مثلا صغيرا يخص الكتب
التي تنتج في آسيا، وتترجم ويحتفى بها، ليس فقط لموضوعاتها بل واساسا لأساليب
كتابها. أذكر عندما زرت الفلبين قبل عامين سألت عن الكتاب الشباب فعرفوني إلى
رواية كاتب شاب حازت جائزة البوكر الآسيوية وهي Illustrado للكاتب Miguel
Syjuco،
وهالني المستوى الرفيع للرواية وتركيبها والجهد المبذول فيها لغة واسلوبا ومهارة.
فهذا هو الدور الحقيقي للجوائز في ظني، وليس هذا هو وضع الأدب العربي للأسف.
ومن أجل الأمانة يهمني أن أؤكد أن الكثير من الجهات ودور
النشر الخاصة والصغيرة، أحيانا، في اوربا عموما، تقوم بدور يفوق طاقتها في التعريف
بأهم الروايات العربية، بمعاونة فرسان من المترجمين النبلاء،ولكن لا تبدو أن
مهمتهم سهلة. والمشكلة أن بعض الكتب التي تترجم للكتاب العرب الكبار مثل الغيطاني
والبساطي وعبدالرحمن منيف وغيرهم، على سبيل المثال، لا يحتفى بها بالقدر التي
يحتفى به بكتب متوسطة أخرى، واضرب مثلا واحدا آخر يحضرني الآن وهو مثلا الاحتفاء
المبالغ فيه برواية الكاتبة السعودية رجاء الصانع "بنات الرياض"، وهو
كتاب محدود فنيا، ولا يمكن لشخص معتاد على قراءة الأدب الالتفات إليه، على الرغم
من أن هناك كتابا آخر لروائية سعودية اسمها صبا الحرز مثلا نشرت رواية مهمة عن
مجتمع الأقلية الشيعة في السعودية، وعلاقات الغرام بين الفتيات هناك، في أسلوب فني
رفيع، كاشفة عن مهارات سردية كبيرة وصدرت بعنوان "الآخرون" ولم يلتفت
إليها أحد.
لذلك اظن أن جانبا مهما مفقودا في عملية الترجمة من
العربية للغات الأجنبية وهو الجانب الأدبي نفسه، أي وضع القيمة الأدبية كمعيار
أولي ووحيد، لأن العملية القائمة الآن تقوم على عامل السياسة بمعنى محاولة التعرف
على ثقافة تصدر مشكلات تخلفها للغرب. وإقحام الأدب هنا قد تكون له بعض الفوائد
لكنها في النهاية قد تسيء للأدب أكثر مما تنفع.
والدليل على ذلك أن الكتاب أصحاب الأساليب الكتابية
الرفيعة، باستثناء إدوار الخراط ربما، تكاد تكون ترجمتهم معدومة، ومن بينهم من جيل
الكتاب المعروف في مصر بجيل التسعينات مثلا مصطفى ذكري وهو سيناريست وكاتب رفيع
الطراز يرى السياسة والاجتماع في الأدب تلويث للنص الأدبي، أسلافه بروست وبورخس
وكافكا، نصوصه مركبة، ذات لغة خاصة، وثقافته رفيعة، وله عدة نصوص مهمة بينها
"مراة 202" الذي أعده أحد أهم تجارب الكتابة الأسلوبية العربية مثلا.
كما أن هناك كاتبا استثنائيا هو يوسف رخا
من الجيل الجديد أيضا أصدر العام الماضي رواية مهمة بعنوان "كتاب
الطغرى" تعد، في اعتقادي، من الروايات الطليعية والتجريبية الهامة، ليس لأن
لها لغة خاصة جدا وغير مسبوقة، بل وكنص يتحيز لمفهوم الرواية بصفتها
الجنس الأدبي المشغول بإنتاج الفكر، وبوصفها وعاء الفلسفة الأدبية، وليس لكونها مرآه
للواقع.تسأل معنى الهوية في مجتمع يمور بالتناقض. وعن أسباب قبول البعض التناقضات
التي يحيونها كأنهم يتكيفون مع القهر او يستبدلوا ذلك بالانسياق الكامل لسلطة
دينية كأنهم جماعات من الزومبي؟
بالإضافة إلى صوتين بارزين في
تجديدهما في النص الروائي الجديد غير التجاري والذي يعتمد على مفاهيم ما بعد
الحداثة في الكتابة الأدبية وهما نائل الطوخي "ليلى أنطون"، وطارق إمام
"هدوء القتلة".
وحتى الأدباء أصحاب
التجارب الاستثنائية الراحلين من جيل محفوظ مثل يحي حقي صاحب الأسلوب الرفيع واللغة
الخاصة لم يترجم من أعماله ربما سوى "قنديل أم هاشم" رغم ان له مجموعات
قصصية في غاية الأهمية، أو رواية سعد مكاوي "السائرون نياما" وهي إحدى
تحف النثر العربي المعاصر لم يترجما على حد علمي، وكذلك سنجد أن كاتبا مثل
اللبناني ربيع جابر وهو أحد الكتاب المخلصين للرواية وأغزر الكتاب العرب إنتاجا من
جيله مع العراقي علي بدر، لا يحظيان بالحفاوة التي تحظى بها نصوص اقل مستوى كثيرا
مما ينتجه كل منهما. هناك ايضا كاتبا مصريا مهما هو محمد المخزنجي وهو قصاص في
المقام الأول، موهوب بشكل كبير، ويعد امتداد عملاق القصة المصرية يوسف إدريس، لم
يترجم بالشكل الكافي، وأظن أن إدريس نفسه لم يلق ما يستحقه من اهتمام.
والقائمة طويلة من الكتاب المهمين من حيث قيمة نصوصهم
ولم تلتفت لاعمالهم الترجمة اذكر على سبيل المثال منهم، الكاتب المصري الراحل صبري
موسى صاحب النص الفاتن "فساد الأمكنة"، أو الكاتب المصري فتحي غانم وله
عدد من الروايات المهمة بينها مثلا رواية "الافيال"، ومن الكويت إسماعيل فهد إسماعيل، بل حتى الكتاب المهمين
الرواد في الجزائر مثل الطاهر وطار ومحمد زفزاف أكاد لا اسمع عن شيء ترجمة لأي من
كتبهما، وإن لم اكن متأكدا من ترجمة اي منهما للألمانية وهما رائدان مهمان في
السرد العربي المعاصر، والفلسطيني غالب هلسا، كما أن هناك اصواتا شابة مجيدة ولها
تجارب مهمة لم اسمع عن نصوص قد ترجمت لهم إلى اي لغة اجنبية مثل السورية مها حسن
ولها رواية جيدة جدا اسمها "حبل سري" عن معاناة الأكراد السوريين في
هويتهم، أو علي المقري من اليمن، وحسين العبري من سلطنة عمان وله رواية جميلة
بعنوان "الوخز"، تتناول عالمي المرض النفسي والقهر السياسي في سلطنة
عمان بمهارة سردية. وغير هؤلاء الكثير من الأسماء.
عندما زرت
المانيا كراو مدينة شتوتجارت في العام 2004 لاحظت أن معرفة الالمان بالعرب غائمة،
يكادون لا يفرقون حتى بين مدن منغلقة وذات ثقافة صحراوية مثل السعودية وبين بلد
صاحب حضارة قديمة مثل مصر أو مدينة شبه اوربية متحررة تماما مثل بيروت، ويتعاملون
مع العرب ذهنيا ككتلة جغرافية متماثلة تمتليء بالتخلف والعنف والرجعية ..الى آخر
الكلاشيهات الموروثة من الكتابات الاستشراقية الكلاسيكية. وبمثل هذه التصورات
العامة والمشوشة، قد تكون مهمة إثبات أن هذا العالم يمتلك أدبا قيما وكتابا لا
يقلون عن نظرائهم في العالم، وان لديهم مدارس واساليب ادبية مختلفة، مسألة ليست من
السهولة بمكان.
واليوم لا أظن أن الفكرة التي يروج لها شتيفان فايدنر
بالاحتفاء بالكتب متوسطة القيمة لأجل التعرف على العالم العربي سيحقق الهدف، بل
العكس صحيح، وهو ما يحدث الآن مع الثقافة العربية التي احتفى بها في فرانكفورت في
العام 2004 ولكن بلا أثر حقيقي في تحفيز الإقبال على قراءة هذا الأدب كما هو شأن
أدب آسيا وامريكا اللاتينية، لاختلاف المنطلق الذي تم منه تناول تلك الأعمال
الأدبية.
2 comments:
وما قلته ينطبق إلى حد ما على ترجمة الأدب الغربي للعربية ، قل أن نجد من قرأ روايةً بلغتها الأصلية ، ومن يترجم إلينا يترجم "حدوتة" أو موضوع كتابة ، مثله مثل المترجم الغربي حين يترجم الأعمال الفنية المكتوبة بالعربية ، ولكن لكل دوافعه.. دافع المترجم الغربي أفضت في هذه التدوينة الهامة في ذكره ، أما دافع المترجم العربي فهو يتمثل ببساطة في كوننا "أمة الحدوتة" ، علاقتنا بالأدب هي أن الرواية أو القصة حدوتة تعتمد على الحدث ، ولا تعتمد على طريقة سرد الحدث أو عرض الحدث ،وعندما يكتب شخصان مختلفان قصة قصيرة عن واقعة واحدة لن يشعر القارئ بفرق كبير مهما كان البون شاسعاً بين أسلوب كل شخص ممن كتبا القصتين.. ولهذا السبب أيضاً نجحت ترجمة المسلسلات المدبلجة ويفضل سماسرة الفضائيات دبلجتها وكذا الأفلام أيضاً على عرضها بلغتها الأم مع ترجمة بأسفل الشاشة subtitle كما كان يحدث في التليفزيون المصري وفضائية "أو تي في" طيب الله ثراها..
Thank you for your wonderful topics :)
Post a Comment