باسم يوسف ليس خفيف الظل ..
لكنه يعلمنا معنى النقد
إبراهيم فرغلي
حينما شاهدت باسم
يوسف في الحلقة الخاصة بنقد الإعلام، كنت أراقب أداؤه متسائلا عما يجعله أقرب إلى
الوقار منه إلى المهرج؟ لأكن أكثر دقة وأقول أنني لم أتعامل مع باسم يوسف بوصفه
مهرجا من البداية، حتى حين كان يصر على أن يطلق على نفسه لقب أراجوز. لم أجد في
أدائه إجمالا ما يمكن أن يكون مضحكا بالمعنى الكوميدي. لكني أظن أن دلالات ما قدمه
من وثائق الصورة حول ما موضوعات وممارسات شخصيات من رموز السلطة والإعلام في
مفارقتها الصارخة بين الأصل والصورة، أو الشعار والممارسة الحقيقية، هي المفجر
الحقيقي للضحك. الضحك من فُجر الواقع، وفُجر الفساد، وفُجر الكاذبين.
باستثناء الفقرات
الأولى لبرنامج "البرنامج" ، حين بدأ كبرنامج ذي إمكانات بسيطة يبث فقط
على شاشات الإنترنت، أظن أنها المرات الوحيدة التي لمحت فيها جانب خفة الظل لدى
الطبيب، الذي تخلى عن الطب من أجل أن يصبح مقدم البرامج. وربما كان الضحك مع
الحلقات الأولى أكثر، بسبب فضول المشاهدة الأولى، وخلفيات مقدم البرنامج كطبيب شاب
قادم من ميدان الثورة، كان يعالج الثوار ممن أصيبوا على أيدي قوات الأمن خلال
المواجهات التي سبقت تنحي مبارك. إضافة إلى أنه كان يتحلى بالفعل آنذاك بجانب فطري
طبيعي، لم تكن قد أصابته شظايا الشهرة والنجومية بشكل أو آخر.
لكني في النهاية
لست مشغولا بما إذا كان باسم يوسف خفيف الظل حقا أم لا؟ أو بمدى قدراته الكوميدية،
ولن أنتظر أن يظهر يوما كممثل في فيلم أو دراما ليؤدي دورا كوميديا. فما يشغلني
حقا، هو فكرة البرنامج منذ ظهورها الأول وحتى اليوم. "الرؤية" التي تقف
وراء هذا البرنامج، والتي أظنها تقدم له وقود النجاح منقطع النظير منذ ظهوره. أو
على الأقل وقود أن يكون مثار اهتمام كل فرد شاهده أو لم يشاهده تقريبا كما نرى على
ساحات الإعلام، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
النجاح هنا لا
يتوقف على قدرته على اجتذاب عدد هائل من المشاهدين في مصر وخارجها، ولا على تحويل
البرنامج إلى أيقونة السخرية من رموز السياسة والحكم والإعلام في مصر، بمنتهى
القسوة. بل يتجاوز ذلك في إصراره على منهجه هو، ورؤيته هو كـ "ناقد"
بالمعنى الحرفي والحقيقي.
ناقد مدجج
بالرؤية، ولأوضح ما أقصده بالنقد إذن أقتبس مما يقول فوكو عن التنوير والنقد من
أنه "إذا كان فن الحكم هو تلك الحركة المتعلقة في حقيقتها بالممارسة
الاجتماعية لإخضاع الأفراد بواسطة آليات سلطوية تستند إلى الحقيقة، فإني أقول بأن
النقد هو هذه الحركة التي بواسطتها تكون للذات الحق في التساؤل عن الحقيقة وآثارها
السلطوية، وعن السلطة وخطاباتها في الحقيقة، وعلى كل حال فالنقد سيكون فن الرفض
الإرادي والعناد الواعي، وأن للنقد وظيفة أساسية هي رفض الخضوع في لعبة يمكن
تسميتها سياسة الحقيقة".
وفي تقديري أن
هذا هو ما يفعله باسم يوسف، ففي المرحلة الأولى للثورة تناول بالرصد، والنقد، كافة
رموز حكم مبارك ممن أفسدوا الحياة السياسية في مصر ولا زالوا، واستمر على النهج
نفسه حين وصل الإخوان إلى الحكم، لا يبالي بمن يمكن أن يكون الهدف للنقد، طالما أن
الشخص موضوع النقد يمثل وضعا يبدو جليا فيه أنه يبتغي الاستفادة من آليات السلطة
الجديدة، سواء كان مرشد جماعة الإخوان الأسبق، أو رئيس الدولة المعزول حاليا، محمد
مرسي. أو أي من رموز هذه الجماعة، المصنفة اليوم كجماعة إرهابية، أو حتى نماذج
إعلاميي تلك المرحلة الذين مارسوا العديد من مناهج التحريض على المجتمع المدني، ولونوه
بمسحة دينية كذبا وافتراء، فيما يعلمون ونعلم جميع انهم لم يكونوا يدافعون سوى عن مشروع
سلطوي بامتياز.
وهكذا استمر نهج
البرنامج أيضا بعد 30 يوينو – حزيران حين استغلت القوى القديمة الممثلة للحرس
القديم لنظام مبارك في الإعلام سقوط الإخوان لكي تتسلل للعودة للساحة، ويرتفع
صوتها بالصراخ ضد الإخوان، وكأن معاداة الإخوان تعني أنهم بذلك يمثلون صوت الثورة،
وكأن شيئا لم يحدث منذ 25 يناير وحتى اليوم.
كذلك أفرد باسم
يوسف في برنامجه مساحة كبيرة لانتقاد وزير الدفاع المصري الفريق عبدالفتاح السيسي،
تأكيدا لرؤيته النقدية التي ترى في كلا المشروعين الديني أو العسكري استغلال
لآليات سلطوية باسم الحقيقة الدينية في الأول والوطنية في الثاني، فيما كان هو
يدفع الجمهور للتفكير في هذه الحقيقة موضحا أن الحقيقة شئ يختلف تماما عن سياسة
الحقيقة التي تفرضها السلطات اللامدنية.
وبعد عودته بعد
فترة المنع، عاد قويا أولا ليؤكد أن منهجه ورؤيته لم تتغير، وتاليا ليثبت أن جانبا
كبيرا من التخبط والعشوائية الفكرية والتراوح في المواقف مما يحدث في مصر خلال
السنوات الثلاث الأخيرة ، وقبلها على مدى
عقد كامل على الأقل، يعود إلى الفشل الذريع لجهاز الإعلام في مصر. الإعلام الذي
أثبت قدرته على التلون القبيح في أسرع وقت ممكن رافعا شعار المنافقين مات الملك
عاش الملك، فتحول من الدفاع المستميت عن عصر مبارك حتى تنحيه إلى الهتاف للثورة،
ومنها لحكم العسكر ثم للإخوان وأخيرا للعسكر، يتلون في كل مرة وبسرعة مدهشة مثل
الحرباء، من دون حياء أو خجل.
برنامج باسم يوسف
إذن ليس برنامجا كوميديا على أي نحو، بل هو برنامج ساخر بامتياز، وناقد بامتياز،
أو بالأدق هو برنامج ناقد يتوسل السخرية وسيلة لإعلاء شعاره الأساس: تشجع على
المعرفة، وامتلك بذاتك حق هذه المعرفة ورؤية ما يقدم لك بوصفه الحقيقة لتتأكد من مدى
حقيقيته.
نشرت في النهار بيروت في 26 فبراير - شباط 2014
No comments:
Post a Comment