الغابة السوداء
إلى وديع
سعادة..
أعرف أن هذه الغابة ليست موحشة..بالرغم من اني لم ازرها
من قبل سوى مرة وحيدة. ولو كان معي أحد لظن بي الجنون. ربما أنا كذلك نوعا ما.
وإلا فما معنى أن أقطع كل هذه المسافات التي تتجاوز آلاف الأميال كي أصل إلى غابة
نائية، تعلوها أطلال قلعة صغيرة مهدمة، ممسكا بلحاء شجرة مررت بها قبل نحو عشر
سنوات واخذتها تذكارا من المكان. ماذا أريد من الشجرة؟
سألت نفسي بينما أسير ممسكا بقطعة الخشب الصغيرة في يدي
أتلفح بوشاح برتقالي على المعطف الرمادي وبنطلوني الجينز؟ وقادني السؤال إلى إجابة
مباغتة وهي: ماذا تريد مني هذه الشجرة؟
لكن أي شجرة؟ أمامي سلاسل من الأشجار تختلط أوراقها
وفروعها بحيث تشكل سقفا طبيعيا عاليا لا نهائيا من الأخضر القاتم الجميل. تتخلله
اصوات حفيف أوراق الشجر بكائنات وطيور لا ترى، وزقزقات وتغريدات لا أعرف لها
مصدرا.
الأرض الرطبة التي تختلط تربتها البنية الرطبة القاتمة
بأوراق أشجار متناثرة في كل مكان تبدو كمدق ثعباني يتسع لنحو أربعة اشخاص متجاورين
ترسم لي الطريق الذي ينبغي لي أن أسير فيه.
يصعد المدق حتى ربوة عالية يمكن منها النظر إلى الأسفل: مدينة ريفية صغيرة، هادئة لا تسير فيها سيارات.
فقط تتراص فيها مجموعة من المساكن الريفية البيضاء الأنيقة التي تعتمر كل منها
قبعة مخروطية قرميدية وتحاط بمساحات شاسعة من سهول خضراء تمنح المكان ألقا مبهرا،
وجمالا يبهر الأنفاس.
توقفت أتلفت حولي، أستدعي بذاكرتي المشوشة المنهكة
ذكريات رحلتي الأولى هنا إلى هذا المكان، في نهار ساطع وبارد في الوقت نفسه، متسكعا
مع صديق من أهل المدينة نتحدث لغة وسيطة عن الشعر والأدب. تساورني حياله شكوك بأنه
هومو، بينما لا تصدر منه أية سلوكيات تشي بذلك. كانت شكوكي بلا إجابات، لكن لها
شواهد. فهو الوحيد الذي التقيته هنا ولم يصطحب صديقته في اي مكان، وهو ليس متزوجا،
ولم يحدثني عن أي امرأة بشكل يشي بإعجابه بالنساء، ثم أنه يثقب أذنا من أذنيه بقرط
فضي صغير تتلألأ منه ماسة تكاد لا ترى من فرط دقة حجمها.
المشكلة الوحيدة التي كانت تلح عليَّ باستمرار أنني كنت
أشعر أنه يكن لي نوعا من الضغينة، تكاد لا ترى مثل قرطه الماسي، لكنها تهب على
روحي وأشعر برياحها الغادرة، ولا أعرف لها سببا. نعم كانت ضغينته تجاهي بلا شواهد،
فهو يبتسم لي باستمرار، ويبدو دمثا، يحرص على إظهار جانبا روحانيا كاثوليكيا
تقليديا غريبا في دولة علمانية كهذه التي نمرح بين أحد مروجها، حريص على تأكيد
جذور إسبانية في سلالته ليبرر بها مسلكه العاطفي تجاه العالم، وكنت بدوري أتعامل
معه بدماثة، لكن إحساسا غامضا كان يدفعني للتعامل معه بتحفظ في الوقت ذاته، وربما
يكون ذلك مصدر قلقه مني. أما تحفظي تجاهه فربما كان مصدره هذا الحس الاستعراضي
الأنوي الذي يصدر عنه، يتحدث كثيرا عن ذاته، عن محادثات جرت بينه وبين كتاب آخرين
وكان يقول لهم أن نوبل في الشعر عندما تأتي لبلاده سيكون هو صاحبها..يا ربي؟ اي
تفاهة هذه التي يتقولها؟ في بيته الريفي المكون من طابقين يريني غرفة المكتبة
الممتلأة بالكتب ثم يقول بفخر أنه قرأها كلها وليست للاستعراض، واضحك دون أن أقول
له السبب فقد كان تعليقه الاستعراضي الفج يظهره لي كرجل أنهى مشروع القراءة ولم
يعد لديه ما يقرأه. أي تفاهة.
يتحرك بين هذه المدينة والمدينة المجاورة قاطعا نحو مائة
كيلو مترا أو أقل، بسيارة عصرية حديثة، يوميا، لأجل ورشة ادبية يقيمها هناك.
وقبلها يتردد بين هذه البلد والبلد المجاورة من أجل امسيات شعرية، وبعدها سيسافر
إلى بلدة أوربية أخرى لأجل منحة كتابة يقضيها هناك ليكتب أشعاره العبقرية التي
سيحصل بها على نوبل.
بالتأكيد كان اصطحابه لي مشوشا لي بحيث انني الآن في هذا
المكان أكاد لا اذكر شيئا رأيته من قبل. قلت ربما هي حيلة من ذاكرتي تعبر بها عن
ارتداد بغضه الدفين لي، بمحاولة نسيان ما يجمعني به. ربما.
اشعر الآن أنني بالفعل كنت دمثا بما يفوق الاحتمال،
فمثله كان يستحق ردودا لاذعة على سخافاته المغرورة. صفعات كلامية معنوية، سبّه
ربما، أو حتى سؤاله بشكل مباشر: عزيزي ..لدي سؤال أود أن أسالك إياه منذ فترة: هل
انت شاذ جنسيا؟
الحقيقة أنني اليوم أرى أن دماثتي لم تكن موجهة له هو
بشخصه بقدر ما كنت أوجهها إلى الثقافة التي يمثلها هذا الشاعر كلها، كنت جياش
المشاعر وعاطفيا تجاه كل شيء، رغم التجهم والتحفظ والبرود الذي كان يصفعني
باستمرار، باستثناء الدائرة الصغيرة التي تعرفت إليها عن قرب. نعم كنت أبتسم
لثقافة باردة، وجاهلة في الحقيقة بكل ما لا تعرفه، ولا تبدو راغبة في المعرفة.
كانت تستحق أن أبتسم بسخرية لها معلنا جهلها الصفيق. الجهل بي وبالثقافة التي
أنتمي إليها، والإصرار على الجهل، والخوف من المختلف والغريب، والصمت المريب تجاه
هذا الغريب، ثمة شيء كاذب، هؤلاء ليسوا أحفاد عباقرة الفلاسفة والكتاب بالتأكيد،
ثمة شيء خطأ لا أكاد أفهمه.
آنذاك لم اكن ما أنا عليه اليوم. كنت كاتبا مغمورا يتلمس
الطريق بحثا عن كتابة فارقة ومختلفة بأدوات لم تكتمل. خجولا. ومهذبا. أحسن والداه
تربيته بشكل مثالي، هذه المثالية تجعلني اليوم اشعر بالغضب. كوني أصبحت صعلوكا،
مغامرا، يتنقل بين المقاهي نهارا، بينما يلقي بنفسه بين الحانات، ويرتمي بين أحضان
الساقطات ليلا وحتى الصباح. يستغني عن العالم، مستوحدا بذاته، يواجه البشر بما
فيهم من أمراض، بشراسة وفظاظة وقسوة. ويقسو على من يعانده فيصب جام غضبه عليهم.
ويمتلك الترف باتخاذ قرار العودة إلى هذا المكان فجأة لمجرد انه وجد في جيب داخلي
لجاكيت قديم قطعة من لحاء شجرة تعيش هنا.
انتبهت في هذه اللحظة أن السبب في عدم تعرفي إلى المكان
هو انني لم اعد نفس الشخص، بالتاكيد أنا الآن شخص آخر. عشر سنوات هل تكفي لتغيير
شخص؟ لا أعرف. صحيح انني كنت نحيفا، وربما يقل وزني بنحو ثلاثين كيلو مما أنا عليه
اليوم، نظري اصبح ضعيفا تماما بدون النظارة، الهث من أقل مجهود. وسقط الكثير من
شعر رأسي. اصبت بالضغط وبعض المتاعب ..إييييييه! توقف.
هل ترى حقا في هذا أي تغيير؟ لا زلت أدخن واتجرع القهوة بلا رادع، متكأ على
حبات الضغط الصباحية وحبة الدهون الثلاثية الليلية. لكنك تعرف أنك تغيرت على نحو
أو آخر..نظرتك لبعض الأمور، عصبيتك، إحساسك بضيق الوقت، وربما أشياء اخرى.
شعرت بالإرهاق فجأة. كان الوقت يتجاوز الظهيرة الآن، وفي
الهواء لمسة برودة منعشة. جلست على الأرض الترابية فوق الربوة، التي تبدو كسفح جبل
يمتد إلى المدينة في الأسفل. أخرجت سجائري واشعلت سيجارة وكتمت دخان النفس الول في
صدري منتشيا.
سمعت صوت صداح جميل فالتفت حولي أبحث عن الطائر الذي
يطلق هذا اللحن الفطري الفاتن، والى يساري، على مرمى البصر تكشفت لي، ملامح غائمة
من بين تلافيف الأشجار ظلال أطلال القلعة فابتسمت. هذا هو ما أبحث عنه. علي أن
اذهب إلى القلعة ومن هناك ربما تهديني ذاكرتي الضالة إلى شواهد ما، أو أثر أو
علامة، تمكنني من الوصول إلى تلك الشجرة.
أبتسم لنفسي وتتحول ابتسامتي لضحكة صفيقة وساخرة أرددها
بيني وبين نفسي كلما ضبطتها في موقف يعبر عن جنوني أو غرابة أطواري. أي شجرة أيها
التافه التي أتيت لتبحث عنها هنا في هذا البرد القارس؟
ثم ضحكت مرة اخرى وأنا أناجي نفسي: ارأيت؟ قلت البرد
القارس وليس الصقيع. كأن الأمر أصبح مقبولا ومعقولا في حال البرد القارس عنه في
حال الصقيع!. وقبل أن يمتد حديثي مع نفسي، الذي كان من الممكن أن يطول كثيرا لو
استسلمت لتداعياتي، حسمت أمري وقررت النهوض باتجاه القلعة.
عدت بظهري للخلف لكي أقف. تذكرت للحظة في الزمن الغابر
إمكانية نهوضي من الأرض من دون أن أستند على كفي معتمدا على ساقي فقط، مطمئنا
لنحافتي المبالغ فيها. أما الآن فقد بدا لي الأمر مستحيلا. عدت بظهري إلى الخلف،
لكني بدلا من محاولة النهوض، ألقيت بظهري مستلقيا على الأرض لأجد صفحة السماء
الساطعة بلون سماوي صاف جميل، استعدت ليال قضيتها في الليل أتطلع الى النجوم
لساعات بلا كلل. اتأملها وأبحث فيها عن إجابات لأسئلة لا إجابة لها، عصية، لكنها
كافية لإطلاق خيالي الجامح بكل الإجابات التي لا تقال جهرا. ولاختلاق قصص عن
كائنات اخرى تعيش بعيدا في الفضاء وبعضها يتكيء على ظهره يرقبني بدوره من على
البعد.
تمنيت أن يكون الوقت ليلا لأستعيد تلك الحالات
النوستالجية، وحدي في هذه الغابة، اتأمل العالم النائي الذي يبدو الوصول إليه
مستحيلا، مختبئا خلف نجمة تلتمع أكثر من سواها كأنها تغمز لي بالطريقة التي تعرفها.
نعم تمنيت أن أستعيد دأبي القديم في الإنصات إلى روح العالم الحقيقي البعيد،
ولوهلة مر بذهني خاطر أن تشاركني فتاة ما هذا الشعور..أن تستلقي بجواري أشعر
بكتفها ملتصقا بكتفي. لكنني سرعان ما طردت الفكرة، فالإنصات لروح العالم فكرة
فردية بامتياز.
نهضت متجها صوب القلعة، مصحوبا بظلي الذي يمتلك حق
انتهاك وحدتي، وبالزقزقات والتغريدات، وحفيف
أوراق الشجر، وصوت وقع خطواتي التي تخشخش أحيانا وتختفي أحيانا أخرى بحيث ابدو
مثلي مثل أي شبح أخطو بلا صوت. ولكني هدأت من سرعة خطواتي عندما لاح لي الجدار
البني القاتم المكون من حجيرات صغيرة متماثلة عتيقة، الذي لم يعد باقيا منه سوى
ثلاثة أسوار يتوسطه برج مهجور مبني بنفس الحجارة.
توقفت لأنني لم اعد متأكدا مما أسمعه. صوت همهمات بشرية
غائمة كانت كفيلة بأن توقع الهلع في قلبي، وتستعيد تراثا كاملا من الخرافات التي
امتلأت به أذهاننا في الطفولة وبنت لها أعشاشا في اركان عقولنا ووعينا عن الأشباح
والعفاريت، والموتى العائدين من القبور أحياء. لكني تماسكت.
أصخت السمع محاولا كتم أنفاسي اللاهثة، فبدت لي الأصوات
كأنها تخص فتاة لكني لم ادرك ما إذا كانت تبكي، أم تهمهم لنفسها بشيء ما. ووقعت
على رأسي بلطة شقت مشاعري إلى شقين سرعان ما كنت أحاول أن أستردهما لأستعيد
السيطرة على ذاتي. فضول قاتل لمعرفة ما يحدث خلف الجدار وتكشف أصل الكائن المختفي
خلفه، ورغبة عميقة في الركض بأقصى سرعة إلى خارج هذه الغابة ودون إبطاء.
وسمعت هتافا داخليا: هل عرفت الآن لماذا استدعتك الشجرة؟
فابتسمت، لكني لم أطمئن لأي شيء. بدت العبارة مجرد قول مواز للمفاجأة التي أعاينها
الآن وهنا. لكني تخيلت للحظة وجودي في غرفة الفندق مضطجعا على الفراش البسيط
الأنيق أؤنب نفسي على هروب افتراضي من الغابة من دون معرفة سر ما يحدث خلف جدار
القلعة. تمثلت الشعور الرهيب بالانحطاط والدونية الذي يمكن أن يساورني في لحظة
كتلك فارتعشت روحي كأنني كنت مغيبا عاد إلى الحياة فجأة.
وهكذا وبلا تردد، توجهت بثبات صوب الجزء المحطم من الجدار
العابر لزمن آخر موغل في القدم، والذي يبدو كبوابة وحيدة للدخول إلى حرم القلعة.
اختبأت خلف الجدار مانحا نفسي الفرصة لكي اطل برأسي فقط لأتكشف ما يجري.
وفور أن مددت رأسي التقت عيناي بعينين كانتا تحدقان في
عيني بثبات. عينين زرقاوين ناعستين شهوانيتين، جميلتين. كانت صاحبتهما فتاة
عشرينية جميلة، عارية تماما، تتالق بشرتها بلون خلاسي مصطنع لكنه جذاب يضفي على
جسدها المزيد من الإحساس بالشهوانية. شعرها الأشقر يبدو مصطبغا بلون كستنائي جميل
وينسدل حول وجهها. لكنها لم تكن وحدها كما تمنيت، بل تعتلي رجلا لا يظهر منه سوى
ساقين نحيلتين ممدتين في اتجاهي، توليه ظهرها بينما تصعد وتهبط كاشفة عن جسد بض
ونهدين لدنين يتراقصان سقوطا وارتفاعا مع حركتها، وبطن أهيف يكشف خصرها الدقيق.
كانت تنظر باتجاهي، لكن لم يرف لها جفن، كأنها كانت تنتظر ظهوري، نظراتها شهوانية، بقدر ما تبدو زائغة تعبر عن
لذتها المشتبكة بما يشبه ألم مازوخي، فقد تألقت العينان بألق ازداد منذ التقت
عينانا.
أخفيت دهشتي ولكني تراجعت مبهورا بالمشهد. أسندت ظهري
على الجدار..تردد صراخها الشهواني الآن بشكل اكثر حدة وبنبرة أنثوية فارهة، لا تقل
باي حال عن صوت صرخة شبقة لأيقونة السينما الإيطالية مونيكا بيلوتشي.
ابتسمت كأنه الفعل الوحيد الذي يمكنني فعله، وتأكيدا على
انه باستثناء الابتسامة البلهاء يمكنني ان افعل شيئا آخر أشعلت سيجارة، بينما توالى
صوتها الذي ارتفع بقوة مبالغ فيها. أدركت في صوتها دعوة لحوح لكي أعود لمراقبتها.
ادركت أن وجودي قد اثار فانتازيا الاستعراض لديها وهو ما أشعل شبقها، فاستعدت
هدوئي وعدت الى المكان. وفور أن دخلت في هذه المرة وجدتها، لا تزال في نفس الوضع،
تسند بإحدى ذراعيها على ساق صديقها، فيما تشير لي بالأخرى أن أقترب، من دون أن
تتوقف عما تفعله.
وقبل أن أفعل أي شيء وجدتها تصرخ بشدة ثم تميل لتنام
بظهرها على بطن صديقها وتموء كقطة، وبدا جليا أنها بلغت ذروة شهوتها.
استمتعت باللقطة، واعتبرت نفسي شاهدا للحظة حب حميمة بين
رجل وامرأة لا أعرف عنهما أي شيء سوى أنهما تركا العالم للناس وجاءا، مثلي، إلى
هذه البقعة النائية ليمارسا الحب. لكن شعورا غريبا ساورني في تلك اللحظة بأنني جزء من المشهد، ولكني منفصل عنه في
نفس الوقت. كأني الآن أجلس في صندوق زجاجي شفاف أرى العالم وأتمثله لكن على مسافة
ما. وبرقت في ذهني صورة سرعان ما تحولت إلى صوت..جملة شعرية أحفظها عن ظهر قلب
لشاعر جميل..ماذا يقول؟
يتدفَّق بعيدًا
ناظرًا صوب حياته مثل حريق
شبَّ فجأةً في نزهة،
وينحدر ظلُّه
يوقظ بضعَ نسائم على التلَّة
وينحدر
في قرية مجهولة
قرية مجهولة تمامًا
لا يشعر بها سكَّانها حتى باللمس.
No comments:
Post a Comment