الإخوان والثورة
الفاشية الدينية تكشف أنيابها فهل تنتصر
على ثوار يطلبون الحرية؟
إبراهيم فرغلي
بين ليلة وضحاها،
انقلب الإخوان على الثورة المصرية التي كانت سببا في وجودهم، شرعيا ولأول مرة في
تاريخهم، على الساحة السياسية في مصر. وبدلا من أن يؤدي الإخوان أداء سياسيا وطنيا
يتناسب مع الظروف التي ساعدت لوصولهم إلى السلطة، ويكشفوا
حسن نواياهم بالتعاون والتنسيق مع
كافة القوى الوطنية المدنية والثورية، في بناء مؤسسات الدولة في المرحلة
الانتقالية إذا بهم يشرعون في السيطرة على مفاصل الدولة عبر عدد من القرارات التي
بدا جليا من خلالها رغبتهم في "اخونة" إعلام الدولة، عبر تعيينات موالين
لهم، بلا كفاءة مشهودة في غالبيتهم، في الإعلام المرئي والمقروء معا، ثم في الجيش والحكومة وتعيين مجموعة من المحافظين،
أو رؤوس للسلطات المحلية في الأقاليم المختلفة ممن يدينون بالولاء للجماعة.
وهكذا ارتفعت حدة
الوساوس والتكهنات التي كان الكثير من المثقفين والمواطنين العاديين يتكهنون بها
وتعبر عن مخاوفهم من أن يجر الإخوان البلاد إلى الفاشية والديكتاتورية ، بعد عقود
من الفاشية العسكرية، باسم الدين، ثم إذا
بالتكهنات تصبح واقعا مريرا عقب إعلان الرئيس المنتخب مرسي انقلابه على دولة
القانون والمؤسسات كافة بإعلان – أسماه دستوريا- يمسك بمقتضاه بكافة السلطات، بل
ويحصن نفسه من أي إجراء قانوني بأثر رجعي، وبينما غبار الثورة والانتفاضات على هذه
القرارات يسود سماء البلاد إذا به يباغت المصريين جميعا، مرة أخرى، بتعجل اللجنة
المنوط بها إعداد الدستور للانتهاء من عملها قبل يوم من موعد انعقاد المحكمة
الدستورية للحكم في مدى دستورية هذه اللجنة الموصومة بالعوار وعدم تمثيلها لكافة
فئات الشعب.
وهكذا، بين ليلة
وضحاها، تأكدت كافة القوى الوطنية أن الرئيس المصري، برعاية ودعم وربما باقتراحات،
قيادات تنظيم الإخوان وعلى رأسه المرشد العام للتنظيم، ينقلب على وعوده بالدولة
المدنية وتحقيق آمال الثوار الذين اطاحوا بنظام ديكتاتوري قمعي وفاسد من اجل دولة
عدالة اجتماعية ومدنية ومساواة، كما أثبت بالطريقة التي انتظر بها وصول مسودة
الدستور المصاغ على عجل مريب وإعلانه موعد الاستفتاء، أنه، مرة أخرى، حنث وعده
بألا يسهم في وضع دستور لا تتوافق عليه كافة فئات المجتمع المصري.
في الحال أعلنت
فئات القضاء اعتراضها على الإعلان الرئاسي الذي بمقتضاه أطيح بالنائب العام السابق
عبد المجيد محمود وتم تعيين نائب عام جديد – يعرف ايضا بميوله الإخوانية- وأعلن
نادي القضاة تعطيل العمل في المحاكم حتى إلغاء الإعلان الرئاسي، كما خرجت للشوارع
جموع الشباب والمواطنين الذين رأوا في إعلان مرسي انقلابا على الثورة ومبادئها
التي كانت الحرية جوهرها الأساس. وأعلنوا اعتصامهم في ميدان التحرير، واستمر
اعتصامهم نحو أسبوع قبل أن يقيموا مليونية جارفة توزعت على القصر الرئاسي وميدان
التحرير وكافة ميادين المحافظات المصرية، لكن الرئيس لم يخرج للمعتصمين ولم يفعل
شيئا يهدئ من ثورتهم، بل إنه بارك خروج مؤيديه للشارع ردا على مظاهرات المعارضة،
مرة لكي يقسم الشارع المصري قسمين بخروج مظاهرة حاشدة، أمام جامعة القاهرة، بدت
كأنها مظاهرة في كابول أو أفغانستان وليس في قلب القاهرة، تنادي بتطبيق الشريعة
(كأن الثورة المصرية خرجت لأجل تطبيق الشريعة) لكي يستعرض أمام الغرب قوة تأييده
من قبل عشيرته وأنصاره، ولإبلاغ رسالة للمعتصمين بأنه لن يتراجع عن قراراته مؤيدا
بأتباعه وأنصاره، ثم بارك خروج مؤيديه مرة أخرى عند القصر الرئاسي لتأديب
المتظاهرين المناوئين له، على طريقة الحزب الوطني المنحل في نظام مبارك المخلوع،
ليشهد الشارع المصري مشاهد مروعة استبق فيها شباب ملتحون، محسوبون على الإخوان
المسلمين، ظهرت لاحقا فيديوهات توضح قيام قيادات إخوانية بتحريضهم على ذلك،
استبقوا في هدم خيام المعتصمين أمام قصر الرئاسة، ثم ترويع المتظاهرين والهجوم
عليهم تحرشا وضربا وإطلاقا لقنابل مسيلة للغاز، ثم تعذيبا جماعيا وسحلهم وتقييدهم؛
شبابا وفتيات، على ابواب قصر الرئاسة وفي بنايات في محيط القصر، وهم يهللون
ويكبرون كأنهم يغلفون همجيتهم ووحشيتهم وخروجهم عن الإنسانية بهالة القداسة
الكاذبة التي غسلت بها قياداتهم رؤوسهم الفارغة.
هنا كشفت الجماعة عن وجهها بشكل فاضح
وواضح للجميع، وبدا جليا أنها في سبيل تحقيق حلمها القديم بالوصول إلى السلطة
وتطبيق الشريعة الإسلامية لكي تحكم سيطرتها على أعضائها ممن قدمت لهم الوعد
بالشعار الذي رفعته طويلا "الإسلام هو الحل"، وكذلك للفرق الأخرى ممن
حصلت على تأييدهم على وعد بتمكينهم من بعض حقائب الحكومة مثل التيار السلفي بحزبيه
النور والأصالة وبقية الجماعات الإسلامية.
وفي هذا التعجل القلق والتوتر من الإخوان
للسيطرة على الدولة المصرية، ربما نلمح لونا من ألوان استعارة منهج الثورة
الإيرانية حين استولت على السلطة في إيران لتأسيس الجهورية الإسلامية، غير أن هناك
متغيرات عديدة جدا يبدو أن الجماعة في لهاثها لإحكام السيطرة على الأمور قد
تجاهلتها أو، وربما هذا هو الأصح، أنها لم تنتبه لها من الأساس.
أول هذه الأمور أن مصر ليست إيران، فهي
نسيج من أكثر من ديانة أشهرهما وغالبيتهما تتوزع بين الإسلام السني والمسيحية،
ومفهوم طبعا أن الأقباط المصريين يمثلون أقلية بالنسبة لتعداد المسلمين السنة،
إضافة إلى اقليات من الشيعة والبهائيين وسواهم، أما الأمر الثاني فهي أن من قاموا
بالثورة المصرية من أجل الحرية في غالبيتهم شباب مستنير ومتعلم ثائر على كل القيم
الأبوية المستقرة التي جسدت جزءا من التواطؤ مع نظام قمعي فاسد، قهر المصريين
وتسبب في انهيار مستوى معيشتهم وإفقارهم وعدم حصولهم على حقوقهم الأساسية في
التعليم والرعاية الصحية لعقود. بالتالي فهذا الجيل الشاب ليس لديه أي استعداد
لقبول فكر الجماعة الفاشي الذي يقول بطاعة أولي الأمر بلا مراجعة، كما أنه جيل حر
لا يخشى من التعبير عن رأيه بما فيه التأكيد على أن حرية العقيدة جزء اساسي من
مبدأ الحرية العام الذي نادت به ولا تزال ثورة 25 يناير والتي دفع الكثير ممن
انتموا لهذه الثورة أرواحهم ثمنا لهذه الحرية، وكثيرون ضحوا أو أصيبوا بعاهات
مستديمة لنفس الحلم، وبالتالي فهم لن يسمحوا لأي من كان أن يسلب ثورتهم أو مكاسبها
أو أحلامها منهم تحت أي شعار. بالعكس، فهناك رغبة قوية جدا من التيار العلماني في تحدي
الإخوان الذين يُعدّون، من وجهة نظر العلمانيين في مصر، قطيعا يسوقه المرشد العام وقيادات
الإخوان . كما أن هناك اتجاها ايضا للجوء للقضاء لردع الإخوان في محاولاتهم لتقييد
المناخ الإبداعي في مصر.
والحقيقة أن المناخ المنتبه لمراوغات
الإخوان، شهد رواجا على الإنترنت وعبر الوسائط الافتراضية في وقت مبكر، حيث شاعت
كتابات مهمة لعدد من المثقفين المصريين منها على سبيل المثال لا الحصر مقالات
بعضها كتب فقط كتدوين في "الفيسبوك" للباحث الاقتصادي أحمد النجار
والباحث السياسي شريف يونس والكتاب مهاب نصر وناصر فرغلي ويوسف رخا وعبد المنعم
الباز ومي التلمساني وإيمان مرسال وسواهم. وأهمية هذه الكتابات في الحقيقة أنها جاءت
لتحذر من محاولات "أخونة" مبكرة جدا للثورة، وللدولة المصرية، مارسها بعض
رموز القضاء المصري أصحاب التوجهات المحافظة في وضع الإعلان الدستوري الذي كان بين
الأسباب المباشرة لوصول الإخوان للحكم. وبعض هذه الكتابات حاول تأصيل فكر الإخوان وطابعه
الانتهازي والتدليل من دلائل التاريخ كيف أن تاريخ الإخوان المسلمين كله يؤكد أنهم ليسوا سوى جماعة تبتغي السلطة والنفوذ حتى لو كان
ذلك بالعنف. وهذا الكلام مهم لجمهور من البسطاء وغير المعنيين بالسياسة، خصوصا أن الإخوان
قدموا انفسهم باستمرار للطبقات الفقيرة والبسيطة في المجتمع باعتبارهم حماة الدين،
وأنهم سيحكمون بالشريعة الإسلامية التي تعني عند البسطاء العدل والحق.
كما اهتم الكثير من هؤلاء الكتاب هناك مراجعات لمفهوم الدولة نفسه، ومدنيتها مقابل
مفهوم الدولة الدينية الذي يلتف حوله اليوم جمع كبير من البسطاء الذين يتصورون في كلمة
الدولة الدينية تحقيقا لما يتصورونه شرع الله، عبر ما يروجه لهم مجموعات ممن يسمون
رجال دين يزينون لهم ما يريدون بوصفه أمر الله، وهؤلاء البسطاء لا يمتلكون أدنى معرفة
موضوعية بالفكرة الفاشية التي يغلف بها اصحاب هذه الدعوى من أصحاب السلطة دعاويهم.
لكن ما يبدو مثيرا للتأمل الآن ظاهرة مهمة
تتعلق بالكيفية التي تقود بها الجماعة أفرادها بمنطق السمع والطاعة على حساب إلغاء
أي منطق عقلاني، واستعداد الغالبية العظمى منهم خصوصا البسطاء والعوام أن ينفذوا
حرفيا ما يطلب منهم حتى لو تناقض مع بعضه بعضا دون أن يراجع نفسه، وقد اظهرت أحد
الفيديوهات في مليونية تطبيق الشريعة مثلا شخصا يطلب الفتوى من قيادات الجماعة لكي
يقتل أحد الإعلاميين!
هنا يطرح السؤال نفسه؟ لماذا لا يكتفي الشخص
بفكرة التدين والاستقامة، لماذا يربط فكرته الدينية والعقيدية بفكر الجماعة؟ والإجابة،
كما ذكرتها آنفا في موضع آخر، يمكن أن نجدها إذا طرحنا سؤالا آخر عن مدى أصالة الرغبة
لدى الفرد الملتزم بفكر هذه الجماعة، هل بالفعل يرغب الفرد هنا في أن يكون متدينا صحيح
العقيدة؟ وفقط؟ أي هل يقدم الفرد نفسه هنا كشخص نبيل مستعد لبذل نفسه؟ أظن أننا لو
سألنا أي منتم للجماعة لأجاب بالإيجاب. وربما لو قدمنا نقدا أمامه للجماعة بوصفها جماعة
ذات أهداف سلطوية لقاتل مستميتا في الدفاع عنها، ومع ذلك فسوف يفصل باستمرار بين كونه
منتميا لها وبين أن ارتباطه بها أو عدمه لا يؤثر على جوهر عقيدته وإيمانه. فبسبب هشاشة
التكوين التعليمي والنفسي يصبح الفرد ميالا للبحث عن ايحاء من الوسط الخارجي، وهو هنا
الجماعة، بدلا من الإيحاء الداخلي الذاتي لأنه مفقود. ولأن قيادات الإخوان بالضرورة
على معرفة بهذه الظاهرة فهي تستخدمها لإدارة التجييش والتكريس لمنطق السمع والطاعة
باقتدار.لكن الفرد نفسه، من أعضاء الجماعة وأنصارها، سيظل ينكر تهمة الانقياد في خطابه،
موهما ذاته أن الانتماء للجماعة يعني صحيح الإسلام بكل ما يعنيه ذلك لهذا الفرد، رغم
أن كل ممارساته في طاعة الجماعة باستمرار تقول العكس، وهذا الإنكار يسميه الكاتب الفرنسي
رينيه جيرار عرضا من أعراض "المغرور الستاندالي" نسبة إلى الكاتب الروائي
الفرنسي ستاندال، والذي يعتقد أن شخصيات رواياته تعبر بامتياز عن ذلك النمط والذي يعرفه
بالقول "يستعين المغرور الستاندالي غالبا لاخفاء الدور الأساسي الذي يؤديه الآخر
في رغباته بالأفكار المبتذلة للإيديولوجيا السائدة ولذلك لا يرى ستاندال خلف الورع
والغيرية المتكلفة والالتزام المنافق اندفاعا نبيلا لانسان مستعد حقا لبذل نفسه، بل
يرى ملاذا قلقا لغرور في حالة ميئوس منها وحركة نحو الخارج لـ"أنا" عاجزة
عن الرغبة من تلقاء نفسها.
وهنا تحديدا، يمكن أن نقع على العامل
الحاسم الذي ارى أنه سوف يحسم أمر مسار الثورة باتجاه استكمال الشرعية الثورية
سبيلها على حساب المنهج الانتهازي الذي انتهجته جماعة الإخوان للقفز على تلك
الشرعية. أما كيف يصبح العنف مرتبطا بالمقدس على النحو المفجع الذي شاهدناه خلال
الأيام الماضية فهذا ربما يكون موضوعا لمقال آخر.
نشرت في النهار اللبنانية في 10 ديسمبر 2012
No comments:
Post a Comment