الإيروتيكا في مجتمع يحتقر الجسد
من بين الادعاءات النقدية التي أتابعها بفضول، مبتئسا من
محاولات تمرير الأكاذيب النقدية التي تروَّج عادة في مناخ الانحطاط الثقافي
والفكري، الذي ننعم به منذ سنوات، مقولتان دعائيتان هما "الانفجار
الروائي" و"كتابة الجسد"، ولأن المقولة الأولى ليست موضوعا لما
أهتم به هنا فسوف انتقل مباشرة للأكذوبة الثانية.
"كتابة الجسد" واحدا من المصطلحات التي شاعت
مع الضجة الإعلامية التي صاحبت تناول أعمال بعض الكتاب المصطلح على تسميتهم بجيل
التسعينات، والتي تم تناولها بالكثير من الدعائية ودون قراءة نقدية حقيقية.
وبالرغم من أن مصطلح كهذا قد يوحي لمن يقرأه أو يسمعه أنه بصدد ظاهرة من الكتابات
المحتفية ببحث تأمل علاقة الفرد المعاصر بجسده، ودلالات هذه العلاقة في علاقة
الفرد بالسلطة مثلا، أو بالتعبير عن ظاهرة كتابة إيروتيكية تمثل تيارا جديدا في
الكتابة بكل ما يحيل إليه ذلك من مضامين جمالية واجتماعية وأدبية، أو ربما بحث
ثورة كتابية ترتأي في حرية الجسد او الثورة الجنسية ثورة موازية وتجد امتداداتها
في الكتابة.
غير أنني لا أظن أن هناك تيارا أدبيا من هذا النوع،
بطبيعة الحال، في الأدب المصري كله، وأظن أن المحاولات المتعسفة التي حاولت قراءة
أغلب تجارب التسعينات انطلاقا من الربط المجاني بين تجارب الكتابة التسعينية التي
تعبر عن آفاق ذاتية وربط الذاتية بالجسد قد اطلق هذا الكلاشيه الوهمي. بل وعلى
العكس فإنني أعتقد أن كتابات جيل التسعينات في غالبيتها العظمى هي كتابات بيوريتانية
أخلاقية طهرانية، تنأى عن الجسد وعن الإيروتيكي بامتياز، وباستثناء تجربة هناء
عطية في مجموعتيها القصصيتين "شرفات قريبة"، و"هي وخادمتها"
التي تناولت فيهما إحالات بالغة الحساسية حول الجسد الأنثوي تعبيرا عن ذاتيته، وفي
بعض قصص مي التلمساني خصوصا في مجموعتها "خيانات ذهنية"، وفي جمل والتفاتات
متناثرة في نصوص نورا أمين، وربما أعمال أخرى لا تمثل تيارا او ظاهرة، فإنني لا
أستطيع أن أتذكر نصا مؤثرا يتناول الجسد بالشكل الذي يمكن الخروج منه بدلالات خاصة
في موضوع كتابة الجسد.
لست مهتما هنا على أي حال برصد موضوع كتابة الجسد نقديا،
لكنني أود التأكيد فقط على أن الجسد في مصر قد ظلم ظلما بينا في المجتمع تماما كما
في الكتابة، وأن الكتابة عن الجسد ربما تحتاج إلى الكثير من الدرس والتأمل وهو ما
اشعر به من خلال العديد من التداعيات التي كانت ولا تزال تناوشني خلال مرحلة أوشكت
فيها من الانتهاء من مجموعة قصص إيروتيكية تحاول أن تحتفي بالجسد بوضعه في
اختبارات وجودية مختلفة.
حين قفز الجندي الملتاث في الهواء ليسقط بحذائه العسكري
مرتطما بجسد الفتاة، مثنى وثلاث ورباع، التي نعرفها اليوم باسم "ست
الكل" والتي عرت ذكورية المؤسسة العسكرية والمجتمع المصري كله، ونعم
"كلّه" مع سبق الإصرار، كاد قلبي أن يتوقف من فرط العنف الذي كان الجندي
الملتاث؛ غِلّاً ومقتا وعنفا، يوجهه للجسد الأنثوي المتكوم على الأرض بلا حول أو
قوة ليتلقى طعنات الركلات المذعورة باستسلام.
وسوف ستظل هذه اللقطة نموذجا للعار الذي كلل مؤسسة
السلطة العسكرية الحاكمة في مصر في المرحلة الانتقالية خلال الثورة، وللأبد، لكنها
ستكون في الوقت نفسه أيقونة من أيقونات الحماس الآني والمستقبلي لاستعادة إنسانية
هذا المجتمع التي أهدرت بجهد منظم على مدى عقود.
هذه اللقطة تعبر، في الوقت ذاته وبامتياز، عن مدى احتقار
المجتمع المصري كله للجسد البشري، وتتضافر مع مجموعة أخرى من الصور التي لا تبدأ
عند الجندي التافه الذي تفاخر بالتبول على المتظاهرين، ولا تنتهي عند ظواهر
المخصيين معنويا ممن تحرشوا بالمتظاهرات في أكثر من مرة خلال العديد من الاعتصامات
والتظاهرات، خصوصا تلك المعنية بالتعبير عن رفض النساء في مصر لظاهرة التحرش
الجنسي.
في عام 1919 خرجت المصريات الثائرات مع إخوانهم من
الشباب والرجال مطالبات بعودة الزعيم المنفي سعد زغلول، ممسكات بعلم مصر، وصارخات
بشعارات الحرية والثورة ضد المستعمر، أغلبهن ارتدين الزي التقليدي، الشائع آنذاك،
ممثلا في العباءات والبراقع، وكثيرات منهن كن سافرات خصوصا طالبات المدراس .هؤلاء
الثائرات واجهن بنادق العسكر ببسالة، ولم يخمد ذلك من حماسهن للثورة، بل تقدمن في
المواجهة وتعرضن للإصابات، واستشهدت منهن الكثيرات، لكننا لم نسمع او نقرأ عن تحرش
الثوار بهن من جهة، ولا تعرضهن للتحرش من قبل جنود الاحتلال او سواهم.
وفي عام 2012، اي بعد ما يناهز القرن، وبعد أن اصبحت
أزياء الرجال والسيدات متماثلة (البنطلون والقميص او التي شيرت) تعبيرا عن رفض
المجتمع للتمييز بين الجنسين، تُفاجئنا ظاهرة التحرش الجنسي الممنهج والمنظم من
قبل البلطجية والمندسين تجاه حرائر مصر وسيداتها، والذي يباركه فصيل من تيارات
الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين وسواهم من خلال تساؤلهم عن اسباب نزول
السيدات للتظاهر بدلا من الإدانة غير المشروطة للتحرش بوصفه امتهان لبنات مصر
وسيداتها وامتهان لكرامة المصريين جميعا، تعبيرا عن المنهج الذكوري الذي لا يزال
يحكم الذهنية السلطوية والشعبوية في مصر على السواء.
في تأمل الصورتين يمكن أن نرى كيف تحول المجتمع من مجتمع
متصالح مع ذاته، متقبل لوجود المرأة بين صفوف المواطنين، في ثورته على المستعمر،
رغم أن نزول المرأة للشارع أصلا في ذلك الوقت، ولدى العديد من الفئات يعد ضربا من
الخيال، إلى مجتمع مريض باحتقار الذات، يوجه احتقاره لذاته في انتهاك السيدات، وفي
محاولة تحويل القهر الواقع عليه إلى جسد المرأة، كأنه يحاول نقل القهر من مستواه
الذي يخص العنصر البشري بكل طوائفه إلى حلقة الجنس، بإسقاط ما يتعرض له من انتهاك
إلى الجسد الأنثوي.
في مجموعته القصصية البديعة "الموت يضحك" يرسم
المبدع محمد المخزنجي صورة إنسانية بالغة الحساسية لتصوير هذا التناقض في كراهية
الجسد في قصة "أمام بوابات القمح" حين ينشغل الراوي وعدد من الفتيان
بالفتاة "زمزم" التي تسقي العمال، وتداعب خيال الفتيان بجمالها، وتشغلهم
بكونها الفتاة التي تقبل على العمال العطشى ولا تلتفت إليهم فيقررون من فرط انشغالهم
بها وحسرتهم ويأسهم في الوقت نفسه من تمنعها عليهم ان يقتلوها، وهكذا يتربصون بها
وهم ممسكين بسكاكينهم ويتأهبون بعنف أجسادهم، لكنهم يباغتون في ذروة انفعالهم
الهمجي والعنيف عند أولى احتكاكاتهم بالجسد الغض الفتي، بالتشوش وتباين مشاعرهم
وانقلابها ، بين لحظة واخرى، إلى حال من النشوة والهيام فترتخي قبضاتهم على
السكاكين، وتتقلب ارواحهم من ذروة الكراهية إلى النقيض.
وحين أتأمل هذا التناقض من جهة، وطابع العدوانية الذي
يمثل ظاهرة التحرش لا يمكنني ان أرى فيها سوى حلقة من حلقات العدوانية التي يوجهها
الفرد لذاته، عبر ترسيخ لثقافة احتقار الجسد، وكراهيته، كتعبير لاواعي عن احتقار
الذات.
اذا استثنينا الجيل الجديد من الشباب والفتيات ممن
يظهرون لونا من ألوان الاهتمام بالجسد على مستوى الحفاظ على الرشاقة والرياضة،
والعناية بالزينة، وهم استثناء بين الثمانين مليونا، فإن الصورة العامة للجسد
المصري هي صورة لمجتمع يمتلك أجسادا مترهلة ممتلئة بالشحوم وبالتثنيات والتغنضنات
التي تتسبب فيها عادات التغذية السيئة، إما بسبب الفقر أو الجهل أو كلاهما معا.
أجساد مرتخية، كأنها تعبر عن حال من الاستسلام التام
لمصيرها، وللسلطة التي تمارس عليها أبشع ألوان القهر والتجويع والتغييب العقلي،
ورفض كامل لأي محاولة لنقد الذات، أو تأملها حتى في المرايا، وتماه مع الصورة العامة التي يشكلها هذا الجسد
المريض المبتلى بأمراض مزمنة عدة، من السكر وضغط الدم إلى التهاب الكبد وامراض القلب.
أجساد تعبر عن أزمة حقيقية لمجتمع يتخلى عن أي مسؤلية
تجاه جسده بوصفه وعاء الروح ومستودع النفس، ولا يرى نفسه في الصور التي تقدمها
الشاشات لنجمات السينما ونجومها رموز الرشاقة والعناية بالبدن، فمقابل أحمد السقا
ومصطفى شعبان وأحمد عز، مثلا، كنماذج لنجوم الرشاقة والصحة والأجساد المعتنى بها،
هناك أيضا صلاح عبدالله وأحمد رزق مثلا، وهما نجمان لا شك أن الكثير من المصريين
يرون فيهما تجسيدا لهم على المستوى الجسدي. وبالتالي فلا يؤرقهم كثيرا أن يروا صور
النجوم المثاليين.
ففي المظهر الرياضي الرشيق للأنثى أو الرجل تأكيد على
ارداة الذات، وعلى الفعل، وعلى ضبط الجسد، والسيطرة عليه، وبالتالي السيطرة على
الذات في مواجهتها وفي مواجهة المجتمع والسلطة، بينما ما يميل إليه الفرد هو
النقيض: اللاإرادة، الاستسلام للقدر والمصير، شكلا ومضمونا.
ومع انتشار ظاهرة التحجب الشكلي التي لا ترتبط بأية
مظاهر للتدين، يبدو أن المجتمع المصري قرر أن يعبر عن كراهيته لجسده بطمس هذا
الجسد وإخفاء ملامحه وتشوهاته عبر الحجاب
والنقاب والاسدال وسوى ذلك من مظاهر الحجب الجسدي، وبهذا يمكنه أن يمتنع نهائيا عن
نقد ذاته أمام جسد مخفي بلا وجود.
في الفترة التي سبقت سقوط مبارك حين كنا جميعا، من يقف
في الميدان وخارجه، ننتظر بفارغ الصبر لحظة السقوط التي كانت رغم اليقين في
اقترابها بعيدة ونائية، كتبت أنه "كما تكونوا يولى عليكم"، محاولا ان
اطرق الرؤوس والعقول وأقول لا تسقطوا الخطايا كلها على الرجل الآثم وهو آثم فعلا،
وتأملوا خطاياكم في الوقت نفسه، وجاءني تعليق من صديقة ثورية شعبوية قدمت لي عبره نقدا
يقول بأننا لا يمكن أن نكون بهذه البشاعة.
هالتني الصورة التي تتخيلها أو تتوهمها فتاة من فئة تعبر
عن المعارضة وتمثل صوتا ثوريا بامتياز، إذ تحاول أن ترسم لنفسها ولجموع الشعب
المصري صورة مثالية مزيفة عن ذاتها وعن هذا الشعب الذي يتجلى اليوم مدى التفاوتات
الكبيرة في وعيه وإدراكه وانتماءاته وفي سلبياته أيضا، وبينها حال المازوخية التي
تقبل بعودة رمز من رموز النظام المخلوع بدعوى رفضها للإسلاميين أو بدعوى الاستقرار
وما شابه. بل وتتجلى سلبيات ثواره أنفسهم، بل ومثقفيه، في تشرذهم واختلافاتهم التي
لا تنتهي، وتجعل من ائتلاف شباب الثورة فروعا يعبر كل منها عن قرار فردي لا يلتزم
به الآخرون!
هل نحن بهذه البشاعة؟ الحقيقة أننا لا نتأمل ذواتنا فعلا
لكي نجيب على السؤال، أو حتى لندرك أننا حين نردد مثل هذه المقولة نتماهى مع خطاب
السلطة الفاسدة الذي يردد كلاشيهات عن الريادة وعن الإصلاح ليزيف لنفسه أوهامه التي يغذي بها مبررات استمراره في
التحكم في مقادير العباد، ويزيف لأتباعه صورا ساذجة يحاول بها أن يخفي الصورة
الحقيقية، حقيقة أنه قاد المجتمع المصري
بامتياز إلى هاوية الرجعية والتخلف.
حين عرّت فتاة شابة نفسها ونشرت صورتها العارية على
مدونتها قامت قائمة الجميع، أدانت الفتاة وجردتها من قوائم الحشمة التي يدعي
المجتمع المصري ملكيتها بامتياز، مستعميا نفسه عن تناقضاته الفاحشة والفاجرة في
كثير من الأحيان، كما نزعت اسمها من قوائم التدين والأخلاق الرفيعة التي يزعم المجتمع
امتلاكها ايضا بامتياز. ونزعوا اسمها من قوائم الثورة إذ ألقى بها الثوار خارج
الميدان ! بل حتى المثقفين أصابتهم صدمة، ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع الموقف. هل
يضعون الفتاة في منطقة الإدانة، أم يضعون، هم بأنفسهم، سقفا أوحدودا لحريتها، ليباغتوا بوجودهم في نفس
الخندق الذي يقف فيه من يضعون الحدود لنا كل يوم لكي نرى أو لا نرى أو نقرأ أو لا
نقرأ ما يتصورون انه الواجب والحق ونقيضه الحرام والضلال.
وهكذا يدور المجتمع في دائرة مرضه المزمنة، البحث الدؤوب
عن مكامن ضعف الآخرين وسلبياتهم وانتقادها بعنف يلوذ به الفرد فرارا من انتقاده
لذاته، أو توهم المثالية فطالما يشير إلى سلبيات الآخرين فهو ضمنيا يقول بأنه لا
يمتلك مثل تلك السلبيات وانه ينتمي إلى فريق المتطهرين وأهل الصواب.
في مجتمع كهذا يكون من الطبيعي جدا خلو قاعات الفنون
ومتاحف الدولة من الفن العاري، كما يكون طبيعيا أن تكون المؤسسة المسؤلة عن تخريج
الفنانين الأكادميين تفتقد رسميا لمنهج رسم الموديل العاري الذي يعد اساسا من اسس
التدريب على التشريح كجزء تقليدي في كل مدارس ومناهج الفن التشكيلي في العالم. كما
يكون بديهيا أن يتنصل حتى كبار الفنانين من أعمالهم العارية إن وجدت، كما فعل مثلا
فنان كبير بقامة الفنان الراحل بيكار، والذي اشتهر في مرحلة من حياته، مثل أغلب
فناني جيله بلوحات عارية، تنصل منها في حوار أجريته معه بمناسبة تحقيق اجريته عن
منع الموديل العاري في كلية الفنون قبل سنوات من رحيله.
وبالتالي أيضا ليست لدينا دراسات محترمة تتتبع جماليات
الجسد المصري والعربي إجمالا، وتتلمس طبيعة التغيرات التي طرأت على مقاييس ذلك
الجسد جماليا وبحث طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أثرت على
الفرد حتى يمر بهذه التحولات الجسدية.
وحتى حين أصدرت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد مجلة
"جسد" كأول مجلة من نوعها تحتفي بالجسد وثقافته، لم تجد سوى الثقافة
الغربية لتنتهل منها، فبدت المجلة في أعدادها الأولى وكأنها تعبر عن جسد آخر، جسد
متحرر غير معوق بالممنوع والتابوهات ما جعل السؤال ملحا :"أي جسد هذا الذي
تعبر عنه المجلة؟" وأين هذا الجسد الحر الجميل المتعالي عن التابوهات من
الجسد المراق دمه، والمنكل به والمنتهك في اقسام الشرطة والسجون؟ والمذبوح غيلا
وغدرا من أجهزة المخابرات والأمن السرية في ارجاء الوطن العربي، والمقموع من
الحركات التطهرية التي تمارس السلطة الدينية على البشر باسم الآلهة؟ وأين هذا
الجسد المتنعم من أجساد منعتها انعدام الحقوق الأساسية مثل توافر المياه والفقر من
النظافة حتى ولن اقول من وسائل التزين والتجميل؟
في النهاية جمانة تعبر عن جزء من ثقافة المجتمع
اللبناني، أما مصر التي اهتم برصد الظاهرة فيها هنا الآن وهنا فليس بها حتى
"جسد" ولا يحزنون.
على تويتر تقول فتاة امريكية من بين آلاف الحسابات التي
أتابعها على الشبكة الاجتماعية الشهيرة، أنها تمارس الرياضة ليس من أجل الصحة، بل
من أجل أن تشعر بأنها مثيرة حين تقف عارية أمام المرايا. الفتاة تقول ذلك وهي
تمتلك حسابا باسمها الحقيقي، وهذه الجملة على بساطتها تتحمل بدلالات تشير إلى شفافية المجتمع الذي تنتمي إليه، وعن قدرة هذا
المجتمع ورغبته في تحمل مسؤلية الفرد فيه تجاه نفسه اولا وإزاء مجتمعه أيضا، فما
الداعي لاختيار القبح الجسدي ودعمه باسم الدين والحشمة وتجاهله بالهروب من المرايا
إلى عتمة الحجب والستائر؟
في المقابل طبعا ليس من المتصور إمكانية أن نرى نرى فتاة
عربية تفعل ذلك إلا فيما ندر، وإن فعلت فباسم وشخصية وهميتين، وهنا سوف تنتقل من
مجرد مكاشفة الذات إلى نوع من الهيستريا في التعبير عن الشهوات والتعبيرات
الماجنة، ولا يمكنها ربما حتى أن تتعرض للانتقاد، طالما أنها تخفي هويتها، وإن
فعلت فسوف يكون مصيرها مثل مصير علياء
المهدي في أفضل الأحوال.
في مجتمع كهذا لا يبالي بالقبح بل ويتستر عليه لن يكون
من المفاجيء ان نرى اعتياده على القبح في كل شيء، في الطرقات وفي الأبنية التي
اسودت من فرط ما اغتبرت، وفي الوجوه التي لا تقرب الماء إلا لماما، وفي أكوام
الزبالة التي لا تلفت انتباه أحد ولا تحرك ضميره، وكما أن الجسد وعاء الروح فإن
الواقع المادي القبيح الذي نعيش فيه هو وعاء أجسادنا ومسلكنا.
إن مجتمعا يفوح فيه القبح على هذا النحو هو مجتمع غابت
منه المرايا بامتياز، بينما تكسر وتشرخ ما وجد منها عن عمد، ولا سبيل لإحياء جماله
إلا باستعادة كل فرد فيه لقدراته على نقد ذاته، وتقبل جسده كإناء لروحه، واستعادة
الروح الفردية التي ترى في جسدها جزءا من إرادتها الحرة، وفي استعادة ثقافتنا
لتراثها الخصب في رعاية الجسد والوعي بمركزيته في مواجهة العالم وفهمه، هذا التراث
الذي فصل كل جزء من أجزاء الجسد في بيان جماليات جسد المرأة والرجل، وأخيرا وليس
آخرا لا سبيل لإحياء جمالالمجتمع وأفراده سوى في توازي ثورة فنية وأدبية، مع
الثورة الشعبية التي أعادت لنا الروح، لكي تعيد للجسد العربي مكانته التي امتهنت
لعقود.
نشرت في اخبار الأدب في يونية 2012
2 comments:
الكتابة الايروتيكية فى مجتمع يجهل فى الأساس القراءة والكتابة..هو ذلك المرض المزمن بعينه (الأمية)، أما الظواهر الأخرى مثل التحرش واحتقار الجسد فهى ظواهر مجتمعية توجد حتى فى المجتمعات الأكثر تحضراً فى الغرب بل ويزيد عليها التطرف (الديني والسياسي) والعنف ضد المرأة والانتحار والقتل العمد وما شابه ذلك كثير..إنها الحاجة الأمس للعلم، لاأقصد العلوم..إنما التثقف ومعرفة الذات والآخر وتقبلهما بل وتفهمهما جيدا.
محمد عثمان
مقال رائع ونقد حقيقيى لكن عندما حاولت أن أصيغ أفكاره الأساسية فى جمل بسيطة تصل الى رجل الشاعر المطحون.. أو حتى أسرتى المحافظة من الطبقة الوسطى..لم أستطع
هل يحتاج الأمر الى ثورة شاملة فى التفكير؟
أم فى الغذاء. أم فى لغتنا؟
Post a Comment