Wednesday, November 21, 2012

تحيا الثورة.. تسقط الكتابة


تحيا الثورة .. تسقط الكتابة!

إبراهيم فرغلي

محاضرة القيت في جامعة جراز (النمسا) - معهد علوم اللغات والترجمة في 16 نوفمبر2012



في يوم 25 يناير 2011 بدأت مظاهرة كبيرة في ميدان التحرير، تم تفريقها بواسطة الشرطة، حدثت ردود فعل متباينة من معلقين عديدين، في يوم 28 يناير وعد المتظاهرون بوقفة احتجاجية كبرى أسموها "جمعة الغضب"، وقد كانت مفاجأة بالفعل، للمتظاهرين، وللمواطنين المصريين في داخل مصر وخارجها، ولرجال الأمن الذين فوجئوا بحجم التظاهرات التي اندلعت في عموم مصر في نفس الوقت.
لكن كان من الغريب في ذلك الوقت أن يظهر الكاتب المنعزل الذي لا يحمل موقفا سياسيا من اي نوع: مصطفى ذكري، ويكتب على حسابه على الفيسبوك: "تسقط الكتابة.. تحيا الثورة"، كان هذا مدهشا جدا في سياق اللحظة، ولعله كان سببا في إلهاب الحماس أو تشجيع فصيل من المترددين حيال الثورة آنذاك. يعلق ذكري: "يومها كانت هذه أقصى عاطفة أستطيع تقديمها، لقد صدقت ما حدث، ورأيت أن هذا هو ما يمكنني تقديمه". لكنه يضيف: "لقد كرهت الثورة بعدها بشهرين، عندما شعرت أن هناك فيها اتجاه إسلامي".
اقتطعت هذه الفقرة من حوار مع صديقي الكاتب المنعزل، النخبوي، صاحب الذوق الخاص جدا في الأدب والسينما، مصطفى ذكري،(أجرى الحوار أمير زكي) لشدة إيحائها، ولأنني كنت شاهدا عليها. ففي الأيام الأولى للثورة والتي تفجرت معها آمال المصريين في الحرية ومعهم المثقفين والكتاب وعبروا عنها إما بالتواجد في ميدان التحرير وسط الحشود، أو بالتفاعل الحماسي عبر الوسائط الاجتماعية. كان الموقف جديدا على الجميع واصبح جيل التسعينات وكُتّاب ما بعد الحداثة من جيل الألفية الجديدة مضطرون جميعا، على نحو أو آخر، لمراجعة تصوراتهم عن دور المثقف في المجتمع.
 بدا للوهلة الأولى أن هناك مراجعة لفكرة دور الكاتب خصوصا لدى الجيل الذي يعرف في مصر باسم جيل التسعينات، وما تلاه، حيث عُرف هذا الجيل بأنه يرفض ممارسات الأجيال السابقة من الكتاب التي خلطت بين دور الكاتب ودور السياسي معا، وقدم هذا الجيل من الكتاب نصوصا أدبية حاولت، في غالبيتها، الابتعاد عن الخطابات السياسية المباشرة، واتفقت في غالبيتها العظمى على تأكيد الطابع الحداثي للنص الأدبي، والنفور من الواقعي، ومحاولة ابتكار صيغ مختلفة للمحاكاة بديلا لنقل الواقع، ولم يعرف تقريبا عن أي من كتاب جيل التسعينات، مع استثناءات قليلة، مشاركته في عمل له طابع سياسي، أو المشاركة في التظاهرات أو الاحتجاجات.
وباعتبار مصطفى ذكري أحد الكتاب المتشددين في التأكيد على أن دور الكاتب لا يتعدى دوره كمبدع صاحب أسلوب ورؤية، وأحد الدعاة الأكثر راديكالية لمفاهيم الفن للفن، فقد جاءت عبارته "تحيا الثورة.. تسقط الكتابة" مثل صرخة مُعلِّم منحت الكثير ممن ترددوا إزاء الثورة الدافع أو ربما الإشارة إلى أن يلتفوا حولها مع جموع الشعب وفورا.

لكن الأهم، في الوقت نفسه، أن الكثير من المثقفين وخصوصا ممن آمنوا بضرورة عدم تداخل السياسة بالأدب، وجدوا أنفسهم أمام لحظة فارقة، لحظة مصيرية، كانت ربما تتجول في أحلامهم بين آن وآخر كفكرة عابثة، أن تقوم في مصر ثورة تبدأ بعدها الجمهورية الثانية في مصرـ فإذا بها بين ليلة وضحاها واقعا أغرب من أي فكرة خيالية كان من الممكن أن يفكر فيها أي منهم.
انخرط الكثير من المثقفين والكتاب في التنظير للثورة ووقائعها، في الصحافة ووسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لأنهم أدركوا أن حجم التغييب العقلي الذي تعرض له المصريون أكبر كثيرا مما كان أي منهم يتخيل.
فقد أدرك المثقفون بعد سقوط مبارك أن ميدان التحرير وكافة ميادين مصر التي وقف بها الملايين ليلا ونهارا حتى أسقطوا الديكتاتور لم تكن تضم شعبا من المثقفين الذين يعرفون أن التدرج الطبيعي للثورة هو محاكمة النظام السابق وقتلة الثوار، ثم وضع دستور جديد يؤكد مبادئ الثورة وإرساء أسس جديدة لدولة قانون تقوم على مبادئ الديمقراطية، وتكون بداية تأسيس وثيقة حقوق إنسان مصرية من شأنها أن تمنع عن المواطن المصري كل ما كان يتعرض له من قهر وفقر وغياب للحقوق في عهد مبارك.
فوجيء الثوار والمتحمسون للثورة ولمفاهيم المساواة والعدل والدولة المدنية والمثقفون أن الشعب ليس كله من الثوار، فقد ظهرت طوائف أبرزها الإخوان المسلمون الذين خرجوا من السجون، والسلفيون، ثم قوى ما عرف بالثورة المضادة من أتباع النظام القديم، وكان لكلٍ من هؤلاء أجندة مختلفة تماما عن أولويات وأحلام الثوار الرومانسية النقية التي كانت تحلم بالعدل وبالتغيير للأفضل، والتي بذل من أجلها ما يقرب من ألف شخص أرواحهم، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى ومن فقدوا عيونهم أو أصيبوا إصابات مزمنة.
مع ذلك وقبل أن تتضح هذه الصورة بشكل كامل تحمس الكثير من المثقفين لمناقشات استهدفت إعادة النظر في بحث مدى ضرورة وجود وزارة الثقافة من عدمها، مثلا، بينما اهتم آخرون بفكرة تأسيس ثقافة الدولة المدنية. وهناك آخرون من الشعراء والكتاب الذين وجدوا أن ثمة ضرورة بالغة للكتابة لجمهور ما، حتى لو كانت دوائره هي مساحة الفيس بوك والمدونات.
كانت كتابات هؤلاء الكتاب على قدر كبير من الأهمية لأنها لم تنطلق من أي منطلقات دعائية او استعراضية كالتي مارسها بعض الكتاب ذوي التأثير، والذين بدا أن اهتمامهم بوجودهم في منصة الثورة أهم من الفكرة التي يروجون لها، والذين بدت كتاباتهم سياسية مباشرة تقدم البديهي جدا، وبعضهم مثل علاء الأسواني مثلا دافع عن وجود الإخوان في الحكم عقب وصول مرسي للرئاسة، في موقف متناقض لا يمكن فهمه على وجه الإطلاق.


إن أهمية هذه الكتابات في الحقيقة أنها جاءت لتحذر من محاولات "أخونة" مبكرة جدا للثورة، وللدولة المصرية، مارسها بعض رموز القضاء المصري أصحاب التوجهات المحافظة في وضع الإعلان الدستوري الذي كان بين الأسباب المباشرة لوصول الإخوان للحكم.
وبعض هذه الكتابات حاول تأصيل فكر الإخوان وطابعه الانتهازي والتدليل من دلائل التاريخ كيف أن تاريخ الإخوان المسلمين كله يؤكد أنهم  ليسوا سوى جماعة تبتغي السلطة والنفوذ حتى لو كان ذلك بالعنف. وهذا الكلام مهم لجمهور من البسطاء وغير المعنيين بالسياسة، خصوصا أن الإخوان قدموا انفسهم باستمرار للطبقات الفقيرة والبسيطة في المجتمع باعتبارهم حماة الدين، وأنهم سيحكمون بالشريعة الإسلامية التي تعني عند البسطاء العدل والحق.
لكن في نفس الوقت شهدت الشهور الأولى للثورة ظهور عدد كبير من الأعمال الأدبية التي اهتمت بتسجيل الثورة أدبيا، وظهرت كتب عديدة تحمل اسم الثورة أو تشير لها بشكل ما، وهي في تقديري ظاهرة لا تضيف شيئا للأدب المصري، وأغلب من شاركوا فيها إما شباب لهم تجارب أولى في الكتابة، أو بعض ممن ارادوا استغلال الثورة من أجل الشهرة أو الترويج لأعمالهم.

ومن الواضح أن هذه الشهادات تقف عند المشهد الانفعالي اليومي للأحداث، والتوقف عند اللحظات المستعادة من طبيعة المصريين من التعاطف والعمل الجماعي التي كانت قد انتهت في عصر مجّد النفعية والبراجماتية وعمل على تخليص المواطن من أي حس بالمواطنة، وترصد التفاصيل التي تناقلتها الأخبار حول سيناريوهات حركات الرفض الشعبي ثم دخول التيارات الدينية المتاخر للمشهد وغير ذلك من تفاصيل دون أي تحليل عميق للسيناريوهات المتوقعة لما بعد الثورة، أو حتى تحديد المسارات التي يمكن أن تنقذ مسيرتها حتى تحقق أهدافها.
لكن على مستوى الكتابة الأدبية الحقيقية فلا أعتقد ان أي من الأسماء البارزة في خارطة الكتابة في مصر، خصوصا من جيل التسعينات وما بعدها يمكنه أن يتورط في مثل هذه الكتابة المباشرة التي ينساها تاريخ الأدب بسرعة.
يقول مصطفى ذكري أن شرف الكاتب هو أسلوبه وأنا اؤيده تماما في هذه المقولة، وأقول للأسف أن الطابع العام للنشر في مصر الآن لا يهتم بهذا المنطق بقدر ما يهتم بموضوعات خفيفة وتجارية يحاول بها أن يكرس لظاهرة جديدة هي ظاهرة البيست سيللر Best Seller ، والتي أساءت للحركة الأدبية كثيرا خلال السنوات الأخيرة رغم أنها نجحت في انتعاش حقل النشر وتوسيع رقعة القراءة بشكل كبير خلال العقد الأخير.



لكن ما أعتقد أنه سيتحقق وبشكل سريع هو ظهور كتابات متحررة، في الموضوعات والأساليب، لأن هذا هو الطابع العام للشباب المعاصر في مصر الثورة، ولأن هناك رغبة في تحدي وجود الإخوان المسلمين الذين يحاولون فرض نفوذهم بكل الوسائل عن طريق السيطرة على الإعلام والصحافة في مصر. ولعل الانتشار المباغت لظاهرة الجداريات أو لفن "الجرافيتي" في الشوارع اليوم يعبر عن هذه الروح، ولا شك أنها ستظهر في الأدب أيضا، وإن كنت أظنها ستحتفظ فقط بروح التمرد والرغبة في التعبير الفني من دون المباشرة أو التناول المباشر للموضوعات السياسية او الاجتماعية.
وعلى مستوى المضمون أظن أن شخصية المتدين، خصوصا المتدين السطحي، ستدخل في اهتمام الكتابة الأدبية في الفترة المقبلة بحيث يتم تأملها بشكل أعمق مما سبق تناولها به، خصوصا وأن هذا النموذج للمتدين السطحي الذي يتصور أن التدين هو الانتماء لجماعة والسير خلف قيادتها كالقطيع بدت ظاهرة لافتة لكل أنصار الإخوان المسلمين في مصر مع بعض الاستثناءات خلال الشهور الماضية.

ربما ايضا ستكون هناك مراجعات لمفهوم الدولة نفسه، ومدنيتها مقابل مفهوم الدولة الدينية الذي يلتف حوله اليوم جمع كبير من البسطاء الذين يتصورون في كلمة الدولة الدينية تحقيقا لما يتصورونه شرع الله، دون معرفة موضوعية بالفكرة الفاشية التي يغلف بها اصحاب هذه الدعوى من أصحاب السلطة دعاويهم.
إن ما يمكن للإخوان، ولو بشكل مؤقت ومتوتر اليوم هو السيطرة على الصحافة، أو أن يرخوا قبضتهم عن ظواهر كانت محظورة في عهد مبارك من اشكال إتاحة الفرصة لباعة غير مرخصين لكتب تتخذ الغلاف الديني وأشرطة كاسيت دينية وما شابه، لكنهم لا يمكن أن يمسكوا بجوهر وروح العقل الإبداعي المصري الذي سيواجه في تقديري أكاذيبهم بقوة في الفترة المقبلة. وهناك بالفعل اليوم بعض الظواهر المثيرة للقلق مثل منع فيلم سينمائي  أو بعض وقائع لمصادرات كتب لكنها لا تزال محدودة جدا.
بالتالي فهذا كله لا يمكن أن يثير مخاوف أحد، وأقصد هنا المعنى الحرفي لكلمة خوف، وعلى العكس تماما، هناك رغبة قوية في تحدي الإخوان ومواجهتهم من قبل المثقفين والعلمانيين المصريين خصوصا وأن الإخوان في الحقيقة لا يتمتعون بأي ميول فنية أو ادبية، وهم في حالة فكرية بائسة فعلا بلا اي كوادر فكرية أو سياسية وهو ما يشهد عليه أداءهم الضعيف في مجلس الشعب الماضي، والارتباكات العديدة التي قام بها الرئيس المصري منذ تولى الرئاسة وحتى اليوم، مما يكشف عن ضعف فريق مستشاريه، كما أن الإخوان اليوم لا يوجد لديهم أي رمز ثقافي مهم يمكن التعويل عليه في اختراق الثقافة المصرية، على عكس الوضع في زمن مضى كان فيه بعض رموزهم يتمتعون بالمعرفة النقدية والأدبية مثل سيد قطب الذي قدم نجيب محفوظ للإعلام، قبل أن تتحول أفكاره ويصبح متشددا الى درجة اعتقاله والحكم بإعدامه من قبل عبدالناصر بسبب تبنيه أفكارا تكفر المجتمع.
كما يجب الأخذ في الاعتبار أنه خلال المواجهات التي شهدها ميدان التحرير قبل شهر، وتحديدا في يوم 12 اكتوبر الماضي، ظهر جليا أن التيار العلماني في مصر لم يعد يخشى تهديدات الإخوان واتهاماتهم بالكفر والانحلال التي يطلقونها على كل من يختلف معهم، بالعكس، فهناك رغبة قوية جدا من التيار العلماني في تحدي الإخوان الذين يُعدّون، من وجهة نظر العلمانيين في مصر، قطيعا يسوقه المرشد العام وقيادات الإخوان . كما أن هناك اتجاها ايضا للجوء للقضاء لردع الإخوان في محاولاتهم لتقييد المناخ الإبداعي في مصر.
لكن ما ينبغي التوقف عنده في الحقيقة أن المناخ العام للإبداع في مصر لا يتهدده الإخوان فقط، فعقب شهور قليلة من الثورة وقبل وصول الإخوان للحكم، وبالتحديد في شهر إبريل العام 2011 أصابت الوسط الثقافي المصري حالة من الغضب والاستياء فور الإعلان عن مصادرة بعض الكتب بمعرفة إدارة الرقابة على المطبوعات بمصادرة عدد من الكتب، منها رواية للمخرج السينمائي المصري رأفت الميهي والأعمال الكاملة لجبران خليل جبران، ورواية أبناء الجبلاوي، وهو ما كشف أن المناخ التابع للنظام السابق نفسه لا يزال موجودا ولا يزال يفكر بنفس المنهج، الذي يتصور أن السلطة وصية على الشعب وليست حكومة موكلة من قبل الشعب لإدارة الحكم لصالح هذا الشعب.

صدر آنذاك بيان على شبكة التواصل الاجتماعي ـ فايسبوك ـ وقع عليه مئات المثقفين، أدان مصادرة الكتب، خصوصا وأن القوانين المصرية تمنع مصادرة أي عمل أدبي أو فني إلا وفقًا لحكم قضائي من المحكمة المختصة، وبالتالي، فكل مصادرة هي مجرد عمل مخالف للقانون، ينبغي أن يضع من يقوم بها تحت المسائلة القانونية. وقال البيان أن الجهات الرقابية في مصر لم تفهم بعد معنى الثورة ولا مطالب الحرية والتغيير التي خرج الشعب من أجلها، وطالب البيان برفع الرقابة عن الكتب، وبالفعل وتحت هذا الضغط رفع الحظر عن الكتب في وقت لاحق.
ولا أعتقد ان موقف المثقفين سيختلف في أي مصادرات مقبلة لأية كتب قد تتعرض للمنع أو المصادرة على يد السلطة المصرية تحت حكم الإخوان، بل وربما سيُظهر المثقفون نوعا اكبر من المعارضة والمواجهة الشرسة دفاعا عن حرية التعبير.
فكرة الرقابة كانت ولا تزال فكرة في جوهرها تعبير عن الخوف، الخوف من المعرفة والعلم والأسئلة، وفي مجتمع عصر المعلومات والتقنيات الحديثة في الاتصال تبدو فكرة المنع والرقابة أكثر غباء وسخافة، ومع ذلك فالعالم لا يعدم الغباء أو الأغبياء مع الأسف، لكن ما يدعو للأمل حقا أنه على مدار التاريخ كان النصر دوما حليفا للمعرفة على أعدائها التقليديين: الفاشية والجهل والتخلف والرجعية.

 


No comments: