Monday, October 8, 2012

الجحيم ..غرف من المرايا!


الجحيم ..غرف من المرايا!


إبراهيم فرغلي



لعل زمنا يناهز العشرين عاما مر الآن، منذ سمعت هذه الجملة الشعرية لأول مرة "الجحيم غرف من المرايا" من الصديق الشاعر خالد ابو بكر، في فترة الدراسة بالجامعة في المنصورة، الذي غالبا ما كان يقرأ عليّ، آنذاك،  قصائده كلما انتهى من أي منها.
ترددت هذه الجملة في سمعي طويلا، وحرصت على قراءتها والبحث عنها بعد سنوات؛ حين نشر ديوانه الوحيد "كرحم غابة" في سلسلة "الكتاب الأول"، واستعدت وقعها كما كان لأول مرة. لم يكن إعجابي بها يعود لكونها لعب عكسي على مقولة سارتر "الجحيم هو الآخرون"، فقط، بل وأيضا بسبب تخيلي للصورة، ويقيني بأن أصحاب الأسئلة المؤرقة عن العالم والحياة وموقع الذات في هذا العالم هم من يعيشون جحيما حقيقيا في مواجهتهم ذاتهم ومحاولة التعرف عليها.
كانت الصورة الشعرية تستدعي صورة ذهنية لفرد يقف في غرفة؛ جدرانها وسقفها كلها من المرايا، حيث يرى الفرد نفسه محاطا بصوره، وجها وجسدا، تلاحقه من كل الاتجاهات، فيما تتراقص ألسنة اللهب من حوله مصفرّة، فاقع لونها، مصحوبة بأزيز وهسيس صاخبيْن.
عدت وتذكرت الصورة الشعرية، مرة أخرى، حين كنت أقرأ وصفاً بديعاً كتبته الصديقة الشاعرة إيمان مرسال تصف فيه إحساسها حين تنطق الكلمة اللاتينية Architecture، حيث تقول "لحظة نطقي للكلمة ترجرجرت، خيل إلي ان مسجدا أمويا بالتحديد ينهار في مكان ما، وأن صوت زجاج شبابيكه المتكسرة يخرج مع صوتي".
 وجدت ضالتي في وصف مرسال لما كنت أشعر أنا به، حين أتخيل الصورة الشعرية المبتدعة من خالد ابو بكر، ويمكنني أن أضيف إليها صوت ارتطام ثريا عملاقة، بعد أن تهوي من شاهق سماء المسجد لترتطم بأرض مرمرية مدوية بمزيج من أصوات هشيم وصليل.
اظن أن هذا هو تقريبا ما يمكن أن يسمعه شخص قرر أن يتوقف في جحيم مراياه الذاتية، وهو عذاب يبدو لي أن أحدا هنا، في ثقافتنا المصرية يمكن أن يطيقه أو يقبله، من الأساس.
منذ فترة طويلة وخلال سنوات كنت ألاحظ أن كل من أتبادل معهم الحديث، من دوائر الأصدقاء المقربين والأبعد من بينهم، ثم الدوائر العائلية ودوائر الزملاء وسواهم من العابرين وحتى ، بل وطبعا، سائقي التاكسي، جميعا يرصدون مواضع الفساد هنا وهناك، ويوجهون اللوم والنقد والانتقاد إلى خلق الله جميعا، لكن أحداً، شخصا واحدا فقط، لا يرى أنه طرفا في هذه الدوائر الفاسدة التي تحيط بنا في كل مكان.

وكنت أسأل اذا لم يكن هناك أحد متسببا في الفساد فمن أين جاء إذن؟

واليوم وبعد  ما يزيد عن عام ونصف منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وهي الفترة التي يفترض أن المجتمع يحاول الانتقال خلالها من مظاهر التكبيل العقلي والذهني والاجتماعي إلى مجتمع جديد يبتغي الحرية والتحرر من كل ما كبّله، أتأمل ما يقال هنا وهناك وأجد النغمة ذاتها، مجتمع كل فرد فيه قادر على انتقاد كامل أطراف المجتمع الآخرين باستثناءه، مع نزعة ديكتاتورية لا تحتمل الاختلاف.. كيف يمكن تفسير ذلك؟ حبو على درجات الديمقراطية الأولى؟ ربما. تشتت لمفاهيم الحرية والديمقراطية في مجتمع كُبِّل وعطلت طاقاته حتى فقد قدراته وحين أفلت نفسه انطلق يتخبط في كل ما حوله؟ وارد ايضا.




لكني لا أظن ذلك قد يكون التفسير الوحيد لأنني على يقين من أن فكرة عدم انتقاد ومراجعة الفرد لنفسه في المجتمع المصري، وربما المجتمع العربي تعود، على نحو ما، لغياب الإحساس بالمسؤولية، فالفرد لا يشعر بمسؤليته تجاه ما يحدث حوله في مجتمع مشلول الإرادة، فيحيل ما يراه من تدهور إلى غيره، حتى بعد الثورة، لكنه لا يضع نفسه موضع سؤال أو احتمال لأن يكون قد أسهم ، ولو من دون وعي أو قصد،  في هذا الخراب المقيم حولنا من كل مكان أو في السلبيات العديدة التي تسم مجتمعنا وسلوكياتنا على السواء. فهو لا يمكن مثلا أن يقيّم ذاته، أو يراجعها، أو أن يراجع، حتى، أية سمات سلبية في كفاءة أدائه في عمله أو في سلوكياته. بل العكس فهناك ثمة إلحاح مغرور على أن الذات التي يجسدها يجانبها غالبا ما يعتقد أنه الصواب الأوحد والوحيد.
 على سبيل المثال لسنوات كانت الإشارة الحمراء على مفارق الطرق في مصر لا تعني شيئا مما يعرفه العالم عن هذه العلامة الدولية المتعارف عليها عالميا؛ فطالما الطريق خالية لا يمكن لأحد أن يتوقف، بل والعكس فقد يتعرض المتوقف للاستهجان ووصفه بالبلاهة لأنه يقف والطريق خال حتى لو كانت الإشارة حمراء! وهو مثال واحد من سلسلة بلا نهاية من سلوكيات تفتقد الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية.
وإذا أردنا مراقبة فكرة المراجعة الذاتية ومدى ترسخها في ثقافتنا فيمكننا أن نتأمل الفكرة، بشكل ما، في السير الذاتية ، والتي سنلاحظ بلا جهد كبير أن غالبيتها ليست سوى سرد لمواضع ومحطات في تاريخ صاحب السيرة، لكنها لا تقدم نقدا ذاتيا على أي نحو أو استبطانات عميقة للنوازع الداخلية والهواجس، وإن حدث كما في سيرة لويس عوض فسوف تستهجن مع الأخذ في العتبار أن النقد الذي قام به لويس عوض وجه لشقيقه وافراد من عائلته. فالسيرة كما يكتبها المصريون هي محطات لحياة قديسين لا يأتيهم الباطل من اي مكان. وسرد من الذاكرة لوقائع مختارة بعناية لا موضع فيها لسلبية أو تقريظ أو مراجعة للذات بالمعنى النقدي.
وبالتأكيد هناك دوما استثناءات، وبينها مثلا ما يحضرني الآن عن سيرة الكاتب شريف حتاتة التي أظنها من السير الموضوعية القليلة، بل النادرة، التي تتحلى برغبة حقيقية في مكاشفة الذات وبالصدق، وبالشجاعة معا.
من جهة أخرى ، وعلى سبيل المثال، نجد الشخصية المصرية هي أقل أفراد الجاليات العربية اهتماما بما يدور خارج نطاقها، لأنها مكتفية بذاتها المتضخمة التي تعتقد وهما أنها مركز العالم،  وصحافتها وإعلامها نموذج مثالي للتدليل على وكشف مدى الإفراط في الاهتمام بالشأن المحلي فقط دون توجيه أي اهتمام لما يحدث خارج هذا العالم. وهي مفارقة تكشف كيف أنه بالرغم من كل هذا الاهتمام بالذات لكن لا يوجد مراجعة لها على أي نحو.


هذا الإحساس يأتي من نفس المنطق ممثلا في اللامسؤولية الفردية، من الفرد تجاه نفسه، وبالتالي يصبح الانسياق خلف الصور التي يقدمها له الإعلام حلا سهلا، فهو لا يتوقف ليسأل نفسه عن مدى تواؤم هذه الصور مع الواقع، حين يقال له أن مصر رائدة في هذا وذاك رغم أن الواقع يقول أنها منهارة في هذا وذاك وغيره، لكن ما تولّده تلك الصور من أوهام يتماهى الفرد معها فتصطحبه  بالضرورة نزعة من الغرور على غير أساس، تمتد لاحقا بحيث يصبح الفرد غير قادر على تمييز الواقع، (دون كيشوت مصري بامتياز) يفتقد القدرة على التحقق من خلق رغباته الأصيلة بل يستسهل التقليد للنماذج الجاهزة. ويقال أن الغرب أخفق لمدة قرن كامل في قراءة دون كيشوت باعتباره شخصا نبيلا دون الوعي بأنه نموذج للشخص المقلد لرغبات الآخر بامتياز.
في مثل هذه الظروف يمكن أن نفهم بسهولة كيف يمكن تجييش آلاف من البشر الذين يؤمنون بفكر جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين مثلا، لماذا لا يكتفي الشخص بفكرة التدين والاستقامة، لماذا يربط فكرته الدينية والعقيدية بفكر الجماعة؟ والإجابة يمكن أن نجدها إذا طرحنا سؤالا آخر عن مدى أصالة الرغبة لدى الفرد الملتزم بفكر هذه الجماعة، وأي جماعة في الحقيقة، هل بالفعل يرغب الفرد هنا في أن يكون متدينا صحيح العقيدة؟ وفقط؟ أي هل يقدم الفرد نفسه هنا كشخص نبيل مستعد لبذل نفسه؟ أظن أننا لو سألنا أي منتم للجماعة لأجاب بالإيجاب. وربما لو قدمنا نقدا أمامه للجماعة بوصفها جماعة ذات أهداف سلطوية لقاتل مستميتا في الدفاع عنها، ومع ذلك فسوف يفصل باستمرار بين كونه منتميا لها وبين أن ارتباطه بها أو عدمه لا يؤثر على جوهر عقيدته وإيمانه. فبسبب هشاشة التكوين التعليمي والنفسي يصبح الفرد ميالا للبحث عن ايحاء من الوسط الخارجي، وهو هنا الجماعة، بدلا من الإيحاء الداخلي الذاتي لأنه مفقود. ولأن قيادات الإخوان بالضرورة على معرفة بهذه الظاهرة فهي تستخدمها لإدارة التجييش والتكريس لمنطق السمع والطاعة باقتدار.
لكن الفرد نفسه، من أعضاء الجماعة وأنصارها، سيظل ينكر تهمة الانقياد في خطابه، موهما ذاته أن الانتماء للجماعة يعني صحيح الإسلام بكل ما يعنيه ذلك لهذا الفرد، رغم أن كل ممارساته في طاعة الجماعة باستمرار تقول العكس، وهذا الإنكار يسميه الكاتب الفرنسي رينيه جيرار عرضا من أعراض "المغرور الستاندالي" نسبة إلى الكاتب الروائي الفرنسي ستاندال، والذي يعتقد أن شخصيات رواياته تعبر بامتياز عن ذلك النمط والذي يعرفه بالقول "يستعين المغرور الستاندالي غالبا لاخفاء الدور الأساسي الذي يؤديه الآخر في رغباته بالأفكار المبتذلة للإيديولوجيا السائدة ولذلك لا يرى ستاندال خلف الورع والغيرية المتكلفة والالتزام المنافق اندفاعا نبيلا لانسان مستعد حقا لبذل نفسه، بل يرى ملاذا قلقا لغرور في حالة ميئوس منها وحركة نحو الخارج لـ"أنا" عاجزة عن الرغبة من تلقاء نفسها.
وبشكل شخصي فإنني أجد الكثير من التماهي مع هذا التحليل للعديد من الشخصيات المنتمية للجماعات الدينية بشكل عام وللإخوان على نحو خاص. خصوصا وأن الجماعة ومنذ تاريخ بعيد تركز على الشباب المراهقين الذين تكون تكويناتهم الهشة أكبر قابلية لإيجاد وسيط يمكن تقليده مما لو تمت محاولة تجنيدهم وهم في مراحل عمرية أكبر وأكثر نضجا.
ويأتي ذلك في إطار فكرة أكثر شمولية يوضحها جيرار قائلا:"نظن أننا أحرار ومستقلون في خياراتنا سواء في اختيار شخص ما أو غرض ما. هذا وهم رومنسي! الحقيقة أننا لا نختار إلا الأغراض التي يرغب فيها الآخر والتي تحفزها، في أغلب الاحيان، المشاعر الحديثة كما يسميها ستاندال، وهي ثمرة الغرور العام، وتتمثل في "الحسد والغيرة والكراهية العاجزة".
وإذا كانت فكرة أن تكون الرغبة لدى الجمهور الكبير غير أصيلة، أو تعبر عن صورة يضعها الشخص لنفسه مستعيرا إياها من غيره، ثم يسير في طريقه المصنوع على وحي تلك الصورة، وهذا يمكن فهمه لدى جمهور واسع يعاني من الأمية ومن إمكانات تعليم بسيطة ومناهج تعليمية غير منهجية ومن جهاز إعلامي قادر على تخريب أي عقل متزن في العالم، فماذا عن النخبة؟ ماذا عن المثقفين؟ وحتى الشباب المتعلم تعليما جيدا أو حتى ممن أدرك مدى ركاكة المستوى التعليمي فطور معرفته بشكل ذاتي كما الغالبية العظمى من المثقفين في مصر؟ هل يتأمل هذا الفريق ذواته؟
إذا حاولنا الإجابة من خلال المنجز الثقافي المصري خلال العقد الأخير أو من خلال تأثير المثقف في المجتمع وفي المسار الاجتماعي والسياسي، فحدث ولا حرج، ولا أظن أننا أنجزنا إنتاجات فكرية أو فلسفية أو حتى أدبية مهمة بالمعنى العميق الذي يتناسب مع مجتمع له تراث فكري وحضاري كبير مثل المجتمع المصري، لم يقدم احد جهدا أصيلا لافتا عميقا.
وهذا جزء من انهيار مفهوم المراجعة الذاتية، وسنرى أن المثقف في الواقع لا تقل سلبياته عن سلبيات الكثير من سلوكيات العوام، واستمرار هذا الأداء دليل على غياب فكرة المراجعة الذاتية ونقد الذات. ناهيك عن السرقات الفكرية التي نسمع عنها بين الفينة والأخرى بينما يتبجح السارقون بفرض وجودهم في المجتمع الثقافي بوقاحة لا يحسدون عليها!
بل اكثر من هذا أن المثقف في محاولته غيرالواعية لإنكار فكرة المراجعة الذاتية، يؤدي اداء لا يمكن وصفه هنا بالغرور الرومانسي، بل بما يمكن وصفه بالـ "حذلقة" وبالمعنى المبتذل مع الأسف.
التحذلق، وهو في تعريفه اللغوي إظهار الحذق وادعاء اكثر مما عنده، المنبثق من إنكار مرضي لسلبياته وأبرزها الاعتقاد بأن دور المثقف هو انتقاد الآخر، في كافة المستويات، من دون القدرة على تقديم حلول أو بدائل من أي نوع. فهذه طريق سهلة، يمكن ان يطرقها أي شخص، وبإمكانها، أيضا، ان تطهره من أي إحساس بتحمل مسؤلية أي شيء، فهو قام بدوره وانتقد! وهو هنا يقدم في الحقيقة نسخة مكررة من الشخصية المصرية العامة دون أن يعي بالرغم من أنه يمارس انتقاد تلك الشخصية باستمرار.
ولهذا يتسم المنجز الثقافي اليوم بالخفة وعدم الجدية وانعدام الدأب، وسوف نجد ان مقالات عديدة لما يكتبه من هم محسوبين مفكري الأمة وعقولها ليست سوى ديباجات لمقولات عامة يمكن لأي رجل متعلم تعليما بسيطا أن يصيغها ببساطة. وحتى المحاولات التي بذلت لفهم المجتمع المصري في عقود الانحطاط الأخيرة هوت من مستوى دراسات العلامة الاجتماعي الراحل سيد عويس وحمدان إلى انطباعات وذكريات بعض الكتاب الذين تركوا تخصصاتهم الأصلية ليفسروا المجتمع عبر ذكريات عابرة مثلا، أو اعتبار كتابا مثل "تاكسي" لخالد الخميسي مرجعا لفهم المصريين! رغم أنه لا يعدو مجرد تجميع حكايات لسائقي التاكسي، لكونهم يعرفون حكايات من المجتمع المصري بحكم مهنتهم، مع إغفال أننا جميعا نعرف ان الكثير من تلك الحكايات التي نسمعها بانفسنا هي مجرد حلول سيكلوجية لاحباطات السائقين إما بزعم البطولة أو الانتقاص من الآخرين أو انتقاد المجتمع كما يمكن لأي فئة اخرى أن تفعل. ودعك ، إضافة لهذا كله، من أن صورة "الكاتب الشهير" أو الـ"الكاتب النجم" قد اغرت الكثيرين،  وهي التي قد تحرك البعض لإنتاج إنتاجات من هذا النوع وأن العديد من ظواهر الكتاب الذين تتغير نبرات صوتهم وملامح وجوههم وأداءاتهم الجسدية المصطنعة عقب إحساسهم بالشهرة هي امتداد لظاهرة الغرور الرومانسي.
بينما مثلا تم تجاهل كتاب آخر بالغ الأهمية للباحثة دلال البزري بعنوان "السياسة أقوى من الحداثة" تناولت فيه رصد عدد من الأفراد من بيئات وطبقات واعمار وخلفيات اجتماعية مختلفة وسألتهم عن حياتهم ورؤاهم عن افكار سياسية وأخرى تتعلق بفكرة الحداثة ووضعت وثيقة بالغة الأهمية يمكن منها، لمن يرغب، ان يفهم العديد من المتغيرات الثقافية والاجتماعية التي مر بها المجتمع المصري. لكنه لم يلق اي اهتمام مقارنة بكتاب تاكسي مثلا.
وأظن أن فكرة "تاكسي"، التجارية، هي نتاج طبيعي للانتقالة الراهنة التي ينتقلها المجتمع الى العشوائية والشعبوية، عقب النقلة الأولى التي تسببت في تريفه بعد انتقال كل قيم الريف الرجعية إلى المدينة، أما في الثانية فقد انتقلت قيم المجتمعات العشوائية الى المدينة. واليوم بعد أن ردمت المدينة بغبار الريف فكرا ومسلكا، بدلا من أن تنقل هي وهج الحداثة إلى الريف، أصبحنا نعيش في مرحلة الشعبوية، ليس بمنطق التحيز للبطل الشعبي، او تلميع صورة الشعبي صاحب القيم القديمة المعروفة في التراث الثقافي العام من شهامة ونخوة وكرم، بل بتحويل المسلك الشعبي، العشوائي منه على وجه التحديد نموذجا يقتدي به الجميع وصولا للنخبة.

وعلى ذكر النخبة وعودة لأزمتها، فقد كان الاختبار الحقيقي الكاشف لأزمة النخبة المصرية بشكل عام هو اختبار الديمقراطية الذي انتهى الى انتخاب رئيس محسوب على جماعة دينية لديها مشروع لا يمكن أن يقود سوى إلى الفاشية، فقد تشرذمت قوى الليبراليين بسرعة غير متوقعة وانقسموا على أنفسهم، والتاذ كل منهم بغروره النخبوي، وبالوهم العام الذي يهيء لأبسط العقول سخافات أنوية من قبيل أن جماجهم ملفوفة في رقائق الذهب.  وظهر في لحظة فارقة في اثناء انتخابات الرئاسة الأولى قبل الإعادة أن الوعي الشعبي العام قد قرأ الساحة أفضل كثيرا من النخبة حين حسموا امرهم باتجاه مرشح الدولة المدنية، لكن تشرذم النخبة حول رموز التيارات الليبرالية بسبب من غرورهم وفهمهم الرومانسي للثورة وللفردية على السواء، هو الذي ادى إلى الإخفاق!
ومع غياب صورة العالم والعلماء من ثقافتنا باعتبارنا مجتمعات فقيرة علميا تغيب صورة ذهنية نقيضة لصورة "المثقف المتحذلق" وهي صورة "العالم المتواضع" الذي يدرك رغم معرفته الهائلة أن ما لايعرفه اكثر بكثير، إضافة إلى أنه غالبا يعمل كما يشيع في سلوكيات العاملين في المجالات العلمية، في صمت من اجل تقدم، غير دعائي ولا ذاتي، للبشرية.
والحقيقة أن هذه الصورة للمثقف الفردي الجديد، المولودة مع قيم الشعور بالاستقلال تحتاج للمراجعة للتأكد من مدى تحقيقها لمفهومين رئيسيين لأي فاعل ثقافي بإمكانه أن يحدث تأثيرا وتغييرا في المجتمع ثقافيا واجتماعيا بشكل عام؛ هما مدى حقيقة فكرة التحرر عن إرادة ذاتية حقيقية بحيث تكون أصيلة، أما المفهوم الثاني فهو مدى تزوده، كمثقف، بعناصر الذات الفاعلة.
إن الجحيم الحقيقي إذن هو أن يكون الفرد بمفرده في الجحيم، لكن مع ذلك فهذا الجحيم هو الملاذ الوحيد الذي يمكن أن يخلصنا من أوهام الأنا، فان نصب اللعنات على الآخر لا يعني إطلاقا أننا لسنا مذنبين، بل نحن مذنبون وزيادة، ولا ينقصنا سوى المرايا لنعرف حجم ذنوبنا جميعا ولكي نهبط من ابراج الوهم الرومنسي الى الواقع الحقيقي المبني على قوة التواضع: جوهر كل الحقائق عن الذات والآخر، والمحرك للذوات الفاعلة في كل مكان، وهذا ما تنبني به مجتمعات حقيقية أما الغرور والوهم والتحذلق المدعي فهي لاتصنع إلا مزيدا من الأكاذيب والأوهام.


أخبار الأدب في يولية 2012

No comments: