Monday, December 6, 2010

طروادة.. اطلال الاسطورة



على مدى الساعات السبع التي استغرقتها الحافلة
 بين اسطنبول وحتى طروادة كنت أتأمل الطبيعة التركية المذهلة، حقول شاسعة من الأزهار الصفراء، تعقبها تلال بدرجات الأخضر، غابات شاسعة، تعقبها مساحات من حقول الورد، حتى اقتحم طريقنا مضيق الدردنيل، فابتلعتنا، ركابا وحافلات وسيارات، عبَّارة بحرية عملاقة، انتقلتُ إلى سطحها، بينما أرقب الضفة الأخرى لمدينة «تشاناكالا»، أقرب المدن إلى منطقة طروادة الأثرية. وبالرغم من وصولنا أخيرا إلى تخوم طروادة، تصدت لنا مفاجأتان حالتا بيننا وبين اكتشاف هذه المدينة التاريخية القديمة، التي تعود لعصر هوميروس الذي خلدها في ملحمته الشهيرة «الإلياذة»، وكان علينا أن ننتظر حتى صباح اليوم التالي حتى نرى بأعيننا أطلال طروادة التي ما كان لأحد أن يقتحمها لولا الحيلة، ولولا ذاك الحصان الخشبي العملاق، الذي كان أول ما استقبلنا على مدخل هذه المدينة الأسطورية!


على باب الحافلة، أكد لنا مساعد السائق الأنيق أن طروادة على بعد خطوات، وهبطنا من الحافلة لنجد أنفسنا «على الطريق»، وبيننا وبين طروادة، خمسة كيلوات لا بد أن نقطعها. وبينما كنا نتبادل نظرة مندهشة أنا وزميلي سليمان حيدر راودتني رغبة في الضحك الهستيري، من هول المفاجأة، فقد تركنا اسطنبول قبل سبع ساعات، ومررنا على مدن عدة، وتوقفنا مرات، وقطعنا مئات الكيلوات برا، ثم عبرنا البحر الإدرياتيكي، وبدلا من أن نصل طروادة إذا بنا في عرض الطريق، على طريقة الأفلام الأمريكية.

تأكدت أجواء الأفلام الأمريكية حين وجدت على الضفة الأخرى من الطريق مبنى خشبي يبدو أنه يضم مقهى وبعض الحوانيت، لكني عند اقترابي منه وجدته خاويا، مهجورا. كأن ارتيابي في أن الأسطورة لم يكن لها ظل من الواقع قرر أن يخاتلني للحظة الأخيرة.


وهكذا وقفنا على بداية الطريق المؤدي إلى طروادة، شبه يائسين، بعد ان أخبرتني الفتاة التي حجزت لنا الحافلة من اسطنبول أنها لا تعرف أي أرقام لشركة سيارات أجرة قريبة من المنطقة التي نقف فيها!

أخيرا، تنفسنا الصعداء حين توقف قريبا منا رجل تركي ملامحه ريفية، جاء بسيارته لينتظر إحدى قريباته حال وصولها، ووافق، بسعة صدر وترحاب، ان ينقلنا إلى طروادة عبر هذا الطريق النائي. لكنه، بعد أن قطع مسافة لا تناهز الكيلوات الخمسة توقف فجأة أمام احد البازارات، معلنا انتهاء رحلتنا، وبلغته التركية كان يحاول أن يقول لنا شيئا لم نفهمه البتة، حتى جاءنا صاحب المحل الذي أوضح لنا أن طروادة مدينة أثرية محمية، تفتح وتغلق وفقا لمواعيد محددة. وكانت هذه هي المفاجأة الثانية.

أوضح الرجل أن السياح يبيتون في موتيلات صغيرة في هذه القرية، ويذهبون لزيارة طروادة في الصباح. وهكذا انتقلنا إلى بيت ريفي صغير في داخل القرية، لنبيت فيه ليلتنا، بينما لا تكف الطيور المغردة، بالآلاف عن التحليق حولنا، أو لا تكف عن التغريد.

استكشفنا القرية التي كانت مقرا لسكان من الريفيين الذين يعيشون على الزراعة، تمتد حولهم، خارج أطراف القرية، الحقول الشاسعة، بينما تصطف الجرارات الزراعية أمام المقاهي الشعبية الصغيرة حيث يتوقف سائقوها لتناول الشاي والقهوة، بينما لا يتوقف تغريد وصداح وهديل طيور القمري، والكناري، واليمام.

في صباح اليوم التالي سرنا باتجاه طروادة، حيث تراصت على يمين الطريق مجموعة من البازارات التي تقدم للسياح الهدايا التذكارية، من الميداليات والنماذج الخشبية واللوحات والتحف التي تستلهم طروادة وحصانها الشهير.

وقبل ان نصل إلى أبواب المدينة الأثرية، لمحنا من بعيد الفرس العملاق الخشبي الشهير.

«وكرّت الأيام ولم تفتح طروادة! ثم بدا لأوليسيز أن يصطنع الحيلة..فعرض على زعماء الحملة أن يدعي مهرة النجارين والمثالين فيصنعوا حصانا كبير الحجم، خاوي الجسم، فيكون بداخله جمهرة من أقوى شجعان الهيلانيين وأبسلهم ثم يوهم الأسطول أنه أبحر بجنود الحملة، فإذا مضى شطر من الليل، وأقبل الطرواديون على الحصان فأدخلوه مدينتهم تذكارا لهذه الحرب الضروس التي أكلت أخضرهم، وأحرقت يابسهم، وذهبت بالزهرة اليانعة من شبابهم. ثم إذا كان الهزيع الأخير من الليل خرج الأبطال المختبئون ففتحوا الأبواب وانقض الجيش المرابط فاحتل المدينة العاتية التي رغمت تحت أسوارها أنوف، وذلت جباه، وذابت أنفس، وذهبت أرواح، دون أن ينال منها أحد».

هكذا يورد هوميروس في ملحمته الشهيرة «الإلياذة» قصة حصان طروادة الشهيرة، لكننا يجب ان نعود للخلف قليلا لنفهم القصة من بدايتها.

طروادة الأسطورية. مدينة كبيرة كان يحكمها الملك بريام. ووفقا لما أورده هوميروس في ملحمته الشهيرة؛ أن باريس ابن الملك حُكِّم في منافسة جمال بين المعبودات الإغريقية هيرا وأثينا وأفروديت، فاختار للفوز أفروديت إذ كانت قد وعدته بأن تزوجه أجمل امرأة في العالم. قام باريس، بعد هذه المنافسة، بزيارة منيلوس، ملك أسبرطة، فوقع في غرام زوجته هيلين، التي عُرفت بأنها أجمل امرأة في العالم. واختطف باريس هيلين، أو اصطحبها معه إلى طروادة، مما أغضب منيلوس. وأقسم شعب الإغريق، الذين يُسمِّيهم هوميروس الآخيين، على الانتقام من باريس، ومن شعب طروادة. وهكذا انطلقت حملةٌ، قادها أجاممنون؛ شقيق ملك إسبرطة منيلوس، وضمت إلى جانبه كلاً من أخيليوس (أخيل) وأوديسيوس، (يوليسيس كما في اللاتينية) وغيرهم.


حاصر الإغريق طروادة مدة عشر سنوات إلا أنهم أخفقوا في الاستيلاء على المدينة التي كانت محصَّنة بأسوار حجرية عالية. وأخيرًا أمر أوديسيوس العمّال بصنع حصان خشبي ضخم، اختبأ في داخله عدد من الجنود الإغريق، بينما تظاهر بقية الإغريق بالإبحار بعيدًا، تاركين الحصان قائمًا خارج أسوار المدينة.

أثار الحصان فضول الطرواديين، فسحبوه إلى داخل المدينة على الرغم من تحذيرات الكاهن الطروادي «لاوكون» لهم بألا يفعلوا ذلك. وفي تلك الليلة تسلل الجنود الإغريق خارجين من جوف الحصان، وفتحوا بوابات المدينة أمام بقية القوات الإغريقية، لدخول طروادة. وهكذا نفذ الإغريق مذبحةً ذهب ضحيتها شعب طروادة، ونهبوا المدينة وأحرقوها. وقد نجا إينياس، بطل ملحمة الإنيادة لفيرجيل، إلى جانب عدد قليل من الطرواديين، من هذه المذبحة بينما قُتل باريس في هذه الحرب وعادت هيلين إلى منيلاوس.

بين الأسطورة والتاريخ

فيما عدا هذه الأساطير فإن ما هو معروف عن تاريخ طروادة قليل وعلماء الآثار يعرفون أن طروادة أسِّسَتْ في أوائل العصر البرونزي، الذي ابتدأ في آسيا الصغرى نحو 3000ق.م. وتقوم المدينة على سهل مرتفع بسهل خصيب، يقع في شمال غربي تركيا، وكانت قريبة من الطرف الجنوبي للمضيق المعروف الآن باسم الدردنيل، الذي كان يسمى هيليسبونْت. وقد اكتشف علماء الآثار تسع مدن بنيت في موقع طروادة، كانت كل مدينة تالية منها تُبنى على أنقاض المدينة التي سبقتها. كانت كلٌ من طروادة الثانية وطروادة السادسة، بصفة خاصة، مدينتين غنيتين. فقد اشتغل الطرواديون بالزِّراعة وبتربية الأغنام وبإنتاج السلع الصوفية، كما تاجروا مع المسِّينيين الذين كانوا يعيشون في بلاد الإغريق، ومع شعوب أخرى تعيش على امتداد سواحل آسيا الصغرى المطلة على بحر إيجة.

ولا يعرف العلماء إلا القليل عن حرب طروادة الحقيقية، إذ وجد علماء الآثار دلائل على أن الإغريق ربما كانوا قد هاجموا طروادة، ودمروها في حملة مماثلة لتلك التي وصفتها الإلياذة. إلا أن سبب تلك الحرب ظلّ غير معروف. ويَعْتَقِدُ علماء اليونان أن طروادة سقطت حوالي العام 1184ق.م، بينما يظنّ كثير من علماء الآثار أن المدينة السابعة التي قامت على موقع طروادة هي المدينة التي كُتِب عنها في الأدب الإغريقي القديم. ويَعْتَقِدُ هؤلاء العلماء أن هذه المدينة قد دُمِّرت نحو عام 1250ق.م.

كان أول عالم آثار يقوم بدراسة طروادة هو عالم ألماني يدعى هنريش شليمان، بعد أن لاحظ أشخاص آخرون، وجود كومة ركامية صغيرة على بعد ستة كيلومترات من الدردنيل، وقد بدت مناسبة لأن تكون هي الموقع الجغرافي لطروادة كما وصفتها الإلياذة. وهكذا شرع شْلِيمان، سنة 1870م، بالحفر هناك، فوجد دلائل على وجود عدة مدن بُنيت في هذا الموقع، على امتداد فترة زمنية طويلة، كما اكتشف عند نهاية الحفريات خرائب مدينة قديمة ذات أسوار ضخمة، وبيوتًا مبنيةً بناء محكما، وكنوزًا مخبأة من ذهب وفضة. واعتقد شْلِيمان، خطأ، أن هذه المدينة، التي سمّاها طروادة الثانية، هي طروادة نفسها التي وصفها هوميروس.

وفي تسعينيات القرن التاسع عشر الميلادي، قام عالم الآثار الألماني فِلْهِلم دُوربفِلْد، وكان مساعدًا لشلِيمان من قبل، بإجراء حفريات أخرى في طروادة. وكان هو الباحث الأول الذي تَعَرَّف على وجود تسع مدن كانت تقع في الموقع نفسه. واعتقد دورْبفِلد أن المدينة السادسة منها هي المدينة نفسها التي ورد ذكرها في إلياذة هوميروس. وكانت هذه المدينة، التي أُطلق عليها اسم طروادة السادسة، أكبر من سابقاتها، وكانت محصنةً بأسوار عالية، وبيوتها فسيحة ومستطيلة الشكل، وقد تكون قد بنيت حول قصر مركزي.

في عام 1932م ابتدأ كارل بلِيجن، وهو عالم أمريكي من جامعة سنسناتي بأوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية ابتدأ حملة بحث جديدة في طروادة. واستمرت دراسته مدة ست سنوات، أكد إثرها النتائج التي كان دُوربفِلد قد توصل إليها، باستثناء أن بليجن اعتقد أن المدينة السابعة هي طروادة الأسطورية. فوفقًا لبليجن، مثّلت طروادة السادسة، مرحلة رئيسية من مراحل تطور المدينة، على الرغم من أنها لم تكن طروادة المذكورة في الأساطير الإغريقية. وقد تميزت هذه المرحلة بقدوم مهاجرين إليها شاركوا المسِّينيين في اليونان في كثير من خصائصهم الحضارية. وقد دُمِّرت طروادة السادسة نتيجة زلزال وقع في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. أما المدينة التالية التي يُطلق عليها علماء الآثار اسم طروادة السابعَة، فكانت ذات بيوت غير مُتْقنة ومتزاحمة، كما كانت أقلّ ازدهارًا من المدن الطروادية التي سبقتها. وقد نُهبت طروادة السابعة وأحرقت. وعلى الرغم من أن بليجن كان يعتقد بأن طروادة السابعة هي المدينة الأسطورية، إلا أن علماء الآثار لم يتمكنوا من إثبات ما إذا كانت هذه المدينة هي المدينة القديمة نفسها.


وخلال الفترة من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد، لم يعش أحد في موقع طروادة. بينما قام بعض المستوطنين الإغريق، في نحو القرن الثامن قبل الميلاد، ببناء قرية صغيرة هناك. وبُنِيَتْ آخر مدينة في هذا الموقع، وهي طروادة التاسعة، في القرن الرابع قبل الميلاد، وأطْلقَ عليها الإغريق اسم إليوم وقد استمرت نحوًا من سبعة قرون، وهُجِرت في نحو عام 400م، وظلت غير منبوشة حتى اكتشفها شليمان».

أطلال طروادة

بعد هذه الجولة في صفحات التاريخ كان علينا أن نتجول بأنفسنا لنرى ما بقي من أطلال هذه المدينة التاريخية:

في الواجهة وجدنا الحصان الخشبي العملاق عاليا شامخا، يبدو السياح ممن يتسلقون درجاته الداخلية ويطلون من فتحاته الجانبية، صغارا، كأنهم يطلون من شرفات بناية شاهقة. وتسللت إليه أحاول أن أرى كيف اتسع للجنود بداخله، صعدت على درج مختفي في بطن الحصان، حتى وجدت نفسي في مساحة شاسعة خالية بها بعض النوافذ الخشبية الصغيرة التي استخدمها الجنود لمراقبة أهل طروادة.

مررنا خلف الحصان العملاق، عبر طريق مبلط محاط ببعض الورد والشجيرات الصغيرة، يؤدي إلى ممر مغطى بأشجار بلوط ضخمة وعتيقة يعود عمرها لنحو مائة عام. لاحت أطلال طروادة، التي اعتبرتها الحكومة التركية منطقة أثرية محمية منذ العام 1996 وعلى امتداد مساحتها البالغة 136 كيلومترا مربعا، باعتبارها تراثا وطنيا بعدما كان السكان المحليون في الجوار يستخدمون المنطقة كموضع لاجتلاب الأحجار.

سرنا محاطين ببقايا سور عتيق من الحجارة، رحت أتخيل أهل طروادة وجنودها وهم يحتمون بهذا السور الذي كان عملاقا، للذود عن بلدهم أمام هجمات أهل إسبرطة التي اخفقت في الوصول إليهم مدة عشر سنوات. التففنا مع المدق الضيق المترب حتى ارتقينا عدة درجات، حيث أصبح بإمكاننا مراقبة الأطلال بشكل بانورامي، من هنا على هذا المرتفع منذ نحو ثلاثة آلاف عام كان الملك بيرام وجيشه يستخدمون هذا الجدار لصد غزوات الإغريق خلال حرب طروادة.

عندما هبطنا هذا الجدار استكملنا سيرنا بين جدارين، ولاحظت أن الجدار الأيسر يختلف في تشكيله الحجري عن الأيمن، ولاحقا عرفت أن الجدار الأيمن كان يمثل قاعدة ضخمة للمعبد الإغريقي الذي احتل هذه البقعة، وكان الجدار يضم الرمال فقط لكي يصنع قاعدة يؤسس عليها المعبد الذي لم يبق منه سوى بقايا قليلة، بينها قطع من الجدران مزركشة بالنقوش، وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذا المعبد قد تم بناؤه في العام 334 قبل الميلاد بأمر من الإسكندر الأكبر عند مروره في منطقة طروادة.

نبع الدم

سرنا حتى وصلنا الى مجموعة أخرى من الدرجات ارتقيناها ومن هناك شاهدت جدارين أملسين، لكنهما ينتهيان بمجموعة من الحجارة الصلدة التي لا تتناغم مع حجارة الحوائط. وتشير بعض المصادر الأثرية إلى أن هذه الحجارة الصلدة هي موقع البوابة الغربية التي يقال إن أهل طروادة قاموا بسحب الحصان الخشبي الضخم من خلالها قبل أن يصلوا به إلى قاعة ساحة الملك بيريام. لكن بعض علماء الآثار لا يجدون أدلة قاطعة على ذلك، خاصة أولئك الذين يتعاملون مع أسطورة الحصان الخشبي كملحمة سردية أسطورية لا مكان لها في الواقع.

وقريبا من موقع هذه المنطقة أو البوابة الغربية شاهدنا مبنى صغيرا يعتقد أنه أحد الأبنية التابعة لقلعة بيريام، لكن بعض الأثريين يرجحون أنها قد تكون إحدى غرف التخزين التي كانت تابعة للقصر، مستشهدين بعدد من الجرار الفخارية والخزفية التي اكتشفت قريبا منها.

بعد عدة خطوات أخرى وإلى يمين المبنى يظهر طابع المرحلة الهيلينية عبر جدران تؤكد هذا الطابع، ويقول خبراء الآثار إن آثار النافورة القريبة تدل على وجود معبد قديم يعود للمرحلة ما قبل الإغريقية في هذا الموقع. شاهدنا قريبا منها آثارا لنبعين قديمين، عرفت أن أحدهما كان يعرف باسم نبع الدم، وينتهي بحفرة كانت توضع فيها الدماء لتسريبها إلى النبع، بينما النبع الآخر هو نبع مياه عادية.

وبما أن هذه المنطقة قد مرت بتسع مراحل من البناء وإعادة البناء، على مدى تاريخها، وتعاقب الحضارات عليها، مثل الرومانية والبيزنطية فقد بدا جليا تأثير الحضارات الأخرى، حيث شاهدنا بها مسرحين دائريين على الطريقة الرومانية، أحدهما مسرح موسيقي صغير دائري الشكل، محاط بمقاعد حجرية على هيئة منصة. ويرجح الأثريون أن عمر هذا المسرح يعود لنهاية القرن الأول قبل الميلاد.

وخلف هذا المسرح لاحظنا بعض جدران البيوت، بالإضافة إلى آثار أحد البيوت الكبيرة العتيقة الذي مازالت بعض أعمدته موجودة حتى الآن.



هيلين.. من الحب ما قتل

ولولا إلياذة هوميروس ربما لما عرف أحد شيئا عن تاريخ هذه المدينة الأسطورية، ولا عن هيلين جميلة جميلات طروادة التي اندلعت من أجلها هذه الحرب الرهيبة.


«هيلين، ثمرة الحب الأولمبي الساخر، ابنة زيوس الغزل، زير النساء من ليدا الفاتنة، التي حولها كبير الآلهة وسيد أرباب الأوليمب إلى بجعة بيضاء تتهادى في مرايا المستنقعات والغدران، ولقد ولدت له هذه الطفلة التي كانت قطرة المداد يمهر بها إعلان الحرب».

هكذا يصف هوميروس «هيلين» التي شنت لأجلها واحدة من أشهر المعارك الحربية على مدى تاريخها: «لقد كان جمالها أسطورة مصورة في السحب، موشاة بذهب الأصيل. كانت نظراتها تتغذى بأرواح المحبين في غير شره، وترتوي بماء حياتهم في غير نهم، وإن كان محبوها يحصون بالآلاف. وهي لم تعمد إلى قتل هذه الأرواح المظلومة، ولم يكن ذنبها كذلك أن تنظر فتصرع أو تنعس فتصمى، ولكن القتل يذهب بأرواح محبيها عفوا كلما نظرت هنا أو هناك وذاك هو القتل البريء».

ويصف هوميروس كيف نشأت هيلين في بيت أمير تزوج أمها ليدا، بعد أن هجرها زيوس والد هيلين، وكيف عاشت حياة مرفهة، ولم تقبل لنفسها زوجا أقل من ملك إسبرطة، قبل أن يأتي باريس من طروادة بصفته ابن ملك طروادة، لزيارة زوجها الملك منلوس ويقع في حبها وتبادله المشاعر، وتقرر أن تذهب معه إلى طروادة لتبدأ فصول الدراما التي استمرت عشر سنوات كاملة قبل أن تنتهي باقتحام طروادة بالحيلة.

كنت أحاول ان أتخيل من بين مواقع الأطلال التي نمر عليها مكان القصر الذي عاشت به هيلين مع باريس في طروادة، اين يقع؟ وعلى ما كان يطل؟ أتأمل المواقع التي تدل على آثار البيوت العتيقة القديمة التي عاش بها أهل طروادة وكيف كانت حياتهم؟ خاصة أن هناك الكثير من الآثار التي توضح مدى عنايتهم بالفنون وبعض الحرف اليديوية الفنية مثل صناعة الخزف ونقش المعادن وسواها، لكن بلا جدوى. فما تبقى قليل من كثير، وأغلب المواقع ربما باستثناء المسارح وبقايا المعبد والأبراج وبعض البوابات، مطموسة المعالم، ولم أتمكن من تخيل الشكل الكامل لطروادة إلا لاحقا، حين شاهدنا صورا متخيلة لطروادة في كامل بهائها في المتحف الأيكولوجي لمدينة تشاناكالا.

في الطريق إلى تشاناكالا رافقنا أحد أصحاب البازارات وشرح لنا أنه يقيم في تشاناكالا مع عائلته، لكنه يذهب يوميا إلى طروادة ليعمل، حيث يؤجر فندقا صغيرا للسياح ويبيع الكتب الإرشادية والهدايا التذكارية بالإضافة إلى الوجبات السريعة والقهوة، ويقيم معه والداه، حيث كان والده فنانا تشكيليا شاهدنا بعض أعماله الفنية، وبينها لوحة متخيلة لهيلين. وأوضح أن الأغلبية من سكان القرية المتاخمة لطروادة يعملون بالزراعة لكن البعض الآخر مثله يعيشون على السياحة.

وهناك شاهدنا الكثير من الأدوات، وقطع الحجارة الأثرية والتماثيل والمقابر الحجرية، والجداريات خلال زيارتنا في اليوم التالي لمدينة تشاناكالا المتاخمة لطروادة، والتي تعد من المدن المهمة في التاريخ بوصفها مطلة على مضيق الدردنيل الذي يعد اقرب معبر بين آسيا وأوربا، حيث يطل على أثينا. ففي هذه المدينة الساحلية الصغيرة والجميلة يقع المتحف الإيكولوجي الذي يضم كل متعلقات طروادة الأثرية، وهي بشكل عام مدينة تضم العديد من الآثار التاريخية من القلاع والنصب التذكارية، بالإضافة إلى كونها واحدة من أهم المدن التركية في التعليم لاحتوائها على جامعة ذات صيت كبير في تركيا هي جامعة 18 مارس يفد إليها الطلبة للدراسة من العديد من المدن المجاورة.

تشاناكالا كما تبدو من العبارة في الدردنيل
خلال الليلة الأولى لنا في تشاناكالا، وبعد ان تفقدنا المدينة،لاحظنا في الطريق الساحلي المطل على مضيق الدردنيل، الذي يتوسطه الميناء الذي تتوقف لديه العبّارات التي تنقل الركاب والسيارات بين الضفتين، لاحظنا مجموعة من المقاهي الشعبية والمطاعم والحانات وغيرها من الأماكن التي يرتادها أهل المدينة، خاصة من الشباب والفتيات على اعتبار أن المدينة أقرب لكونها مركزا تعليميا تستقطب الشباب من المدن الأخرى، وبينما نسير على امتداد الممشى الطويل المحاذي للبحر، لاحظنا حصانا خشبيا عملاقا يختلف عن الحصان الذي شاهدناه في طروادة، حيث إن لونه أقرب للون الرمادي وليس اللون البني كما هو شأن الأخير. كما أنه مصنوع بطريقة تبدو أكثر تعقيدا وفنية لاعتماده على ألواح خشبية تبدو أنها مقطوعة من خشب خام أو من أخشاب السفن، لكنه أيضا لا يقل ضخامة عن سابقه. ولاحقا علمنا أن هذا الحصان هو نفسه الذي استخدم في أحد الأفلام السينمائية الأمريكية التي تناولت موضوع حرب طروادة.

وبعيدا عن الأسطورة ومدى كونها حقيقة أم محض خيال كنت أتأمل فكرة الحيلة التي دبرها ملوك إسبرطة للقضاء على طروادة بعد سنوات طويلة من المقاومة العنيفة التي أبداها أهل طروادة. لماذا اختار قائد جيوش إسبرطة «يوليسوس» فكرة الحصان؟ ولماذا أدرك بذكائه أن أهل طروادة سيقعون في الشرك؟

حين قرأت عن الموضوع علمت أن الحصان كان مقدسا لدى أهل طروادة، وله مكانة خاصة في تراثهم ومعتقداتهم، ولهذا تفاءلوا به، وانخدعوا، ظنا منهم أن «المقدس» لا يمتلك سوى الخير، بل واحتفلوا ورقصوا حول الحصان ظنا منهم أن جيش إسبرطة قد فر هاربا بقواربه وسفنه البحرية، دون أن يعلموا أن ما بداخل الحصان جنود سرعان ما خرجوا من داخل الحصان لينقضوا على أهل طروادة المنتشين بنصرهم المتوهم، فقتلوهم وذبحوهم، بل وقتلوا الأمير باريس نفسه وعادوا بهيلين إلى إسبرطة. لقد دس قادة إسبرطة لأهل طروادة السم في العسل، وبقليل من التداعيات كنت أفكر في الكيفية التي تستغل بها الأديان و«المقدسات» اليوم في العصر الراهن إما في استخدامها لمصلحة أفكار يتزعمها إرهابيون ومتطرفون، أو بإثارة الفتن والنعرات بين الشعوب، وخاصة الشعوب الإسلامية، كأن التاريخ يعيد نفسه بشكل ما، وكأن حصان طروادة تم تقديمه للمسلمين اليوم لكي يقضوا على أنفسهم بأنفسهم!! كما حدث لأهل طروادة في العام 1184 قبل الميلاد.

متحف طروادة في تشاناكالا

في صباح اليوم التالي زرنا المتحف الإيكولوجي لطروادة، الذي يضم أغلب الآثار التي اكتشفت في طروادة وبينها مقابر حجرية مبنية يعود بعضها للقرن الثاني الميلادي، في العصرين الروماني والهيلليني، وبينها شاهد كتب عليه إنه بني من قبل ثيوبولوس ابن ديوجينيس، وكويرين تقديرا لميلنوثا. وتتناثر في الباحة الخارجية للمتحف مجموعة من القبور، بعضها نقشت على جدرانه الخارجية صور الموتى الذين يعودون للأسر الملكية، والتي تكشف عن تطور فنون النحت والنقوش لدى أهل طروادة، بالإضافة إلى أجزاء من المعابد بجدرانها وبعض الأعمدة مما تم نقله إلى المتحف، وهناك بعض رءوس أعمدة القصور والمعابد التي تتسم بزخارف تشكيلية وهندسية بديعة تراصت في أركان الباحة الخارجية للمتحف والتي تتخذ شكل حديقة، وتمتلئ حديقة المتحف الخارجية أيضا بعدد كبير من الجرار الفخارية العملاقة التي كانت تستخدم للتخزين في
طروادة.

بعض هذه الجرار وجدت في داخل المتحف أيضا، إضافة للعديد من المنحوتات لشخصيات عادية غير معروفة الأسماء، أو لشخصيات ملكية، وبينها تمثال كبير بالرخام للإمبراطور هدريان الذي عاصر مرحلة متقدمة نسبيا في عمر طروادة وهي الفترة بين 138 و117 قبل الميلاد.

وتناثرت في أرجاء المتحف مجموعات أخرى من التماثيل التي كانت ترمز للمقدسات، وخاصة بعض رءوس الحيوانات التي قدسها أهل طروادة على مدى تاريخهم القديم. أو تماثيل كاملة تجسد هيئات الأسد. كما يحتوي المتحف على الكثير من الأواني الفخارية والخزفية التي تعبر عن الحرف اليديوية في طروادة مما استخدمه أهلها في مساكنهم أو تلك التي كانت تستخدم في القصور الملكية. وتتسم بذوق فني رفيع في هياكلها أو في الرسوم التي تزخرفها والتي تتراوح ألوانها بين الأسود والذهبي.

ويبدو أن أهل طروادة برعوا في النحت وفي نقش الجداريات، التي احتوى المتحف عددا كبيرا منها، إضافة إلى المنحوتات التي برزت على جدران القبور، والتي تمثل بعضها إما إبراز وجه الميت، أو طقوس الشعائر الجنائزية أو مشاهد من حياته.

مدينة الشباب


وهكذا طوينا صفحة طروادة، لكن كان لا بد لنا من استكشاف مدينة تشاناكالا التي تعد مدينة صغيرة، لكنها تتسم بطابع خاص، كونها مدينة ساحلية، ومدينة تعليمية أيضا، لذلك ففي الميناء تنتشر قوارب الصيد التي يعمل بها الكثير من السكان، وفي الأزقة والشوارع القديمة تتناثر المكتبات بشكل لافت للانتباه، وأغلب ما فيها باللغة التركية، إذ لا توجد الكثير من الكتب باللغات الإنجليزية، لقلة الإقبال عليها من قبل الشباب الأتراك الذين لا يجيدون اللغات الأخرى في أغلبيتهم.

والقلة القليلة ممن يرغبون في تعلم اللغات الأجنبية للعمل في مجال السياحة، قد يسافرون لتلقي اللغات في لندن مثل إسترا باتشارا، التي تعمل الآن في مجال السياحة بعد أن تلقت تعليما مكثفا للغة الإنجليزية في بريطانيا، وتقول ضاحكة: «الكل يقول إنه يعرف الإنجليزية لكنهم لا يتحدثون بها». وتبدي إسترا دهشتها من ذلك قائلة إن الشباب مطالبون بتعلم اللغات كونهم ينتمون لدولة تطالب بالانضمام للاتحاد الأوربي.

قلت لها: لكني لاحظت أن هناك حالة من التحرر النسبي هنا، الكثير من الشباب العشاق يتجولون بحرية، ويبدون أقرب للمظهر الأوربي، فابتسمت قائلة: «المجتمع التركي مجتمع محافظ بشكل عام، وفي شرق تركيا مازالت هناك فتيات صغيرات في العمر قد يضطررن للزواج من رجال أكبر منهن عمرا بكثير بضغط من العائلة، لكن الأمور في اسطنبول وفي غرب تركيا مختلفة، وهنا بشكل خاص، أغلب الشباب قادمون من مدن أخرى، وبالتالي يعيشون بشكل اكثر تحررا. وهنا أيضا توجد رعاية بالفنون وخاصة الفولكلور، بحيث تجرى مسابقة سنوية بين المدارس الحكومية، في مجال الرقص الفولكلوري، وقد فازت تشاناكالا في هذه المسابقة».

إن الليل في تشاناكالا يتسم بأصوات الغناء التي تصدح من العديد من صالات الغناء في الملاهي الليلية أو في بعض المراقص التي توجد بها عادة فرق غناء محلية، والحقيقة أن الغناء والموسيقى هنا سمة خاصة جدا، وحتى قنوات التلفاز التركية تبث الكثير من الأغنيات الجميلة الطربية التي تتشابه كثيرا مع تراثنا العربي في الغناء خاصة في مصر والشام، وتتسم أغلبية الأصوات بالجمال، سواء كانت لمطربين أو مطربات.

هناك أيضا أصوات الباعة الذين ينادون على بضاعتهم بشكل لافت، سواء كانت الحلوى التركية الشهيرة، أو باعة الكستنة الذين يقفون على عربات وأمامهم أكوام الكستنة التي يدفئونها على الفحم لزبائنهم، وبينما يقومون بذلك لا يكفون على النداءات التي ذكرتني بنداءات الباعة في مصر: «كاستاناااا، كاستاناااا» يرددونها بتعاقب وبتنغيم مع مد الألف في النهاية وتقريبها لحرف الواو.

وبسبب انتشار الطلبة في المدينة تنتشر مجموعة من المكتبات في منطقة مركز المدينة، الذي يضم عددا من الأبنية القديمة العتيقة، وتنتشر بها العديد من الأعمال الأدبية والروايات والكتب النقدية، إضافة إلى الكثير من الكتب الأكثر مبيعا لبعض المؤلفين المشهورين في تركيا مثل أورهان باموق الحائز نوبل وأليفة شفق التركية التي تعيش في ألمانيا، وصاحبة أحد أكثر الكتب مبيعا في تركيا الآن: «عشق» والذي لم يترجم للإنجليزية بعد، وإن كان من المتوقع أن يترجم سريعا للألمانية، حيث تحظى أليفة شفق بجمهور من القراء الألمان. وتتوزع في تلك المكتبات أيضا العديد من الكتب المهتمة بالتاريخ، وخاصة تاريخ تركيا، وغيرها عشرات الموضوعات، لكن اللافت أن الكتب الأجنبية تكاد تكون نادرة، فالكتب كلها، تقريبا، باللغة التركية، إذ لا يوجد الكثير من العارفين باللغات في تشاناكالا كما لاحظنا.

ولأن تشاناكالا تقع على الساحل فينتشر بها الكثير ممن يعملون في صيد الأسماك التي تفيض بها بحيرة الدردنيل، وبجوار الميناء تتراص يوميا عشرات من القوارب البخارية بعد عودة الصيادين من أعمالهم. كما تشهد منطقة الممشى الساحلية التي تعتبر منتزها لأهل المدينة أيضا توافد العديد من هواة الصيد بأخطاف من الشباب والكهول على السواء، حيث يقضون أوقاتا طويلة في صيد الأسماك.

أتاتورك أيضا

في الحديث مع بعض الشباب هنا، ممن يجيدون الإنجليزية كانت هناك دائما نبرة تقدير في حديثهم عن تجربة كمال أتاتورك، إذ يرون أنه هو الذي أسس تركيا الحديثة، وهو ما يشير إلى أن وجود صور كمال أتاتورك في أغلب الأماكن التي زرناها، وفي المحال، والفنادق، وغيرها ليست مجرد شعارات تفرضها التوجهات العلمانية للدولة، بقدر ما هو شهادة حقيقية على إنجازات الرجل.

وعلى قمة إحدى التلال يمكن رؤية تاريخ 1915 باللون الأحمر واضحا، ومضيئا، وفي الليل يمكن رؤيته من ساحل تشاناكالا.

أصبح الكولونيل مصطفى كمال بطلا وطنيا عندما حقق انتصارات متلاحقة وأخيراً رد الغزاة ورقي إلى رتبة جنرال عام 1916 وعمره 35 سنة وقام بتحرير مقاطعتين رئيستين في شرق أنطاليا في السنة نفسها، وفي السنتين التاليتين خدم كقائد للعديد من الجيوش العثمانية في فلسطين وحلب وحقق نصرا رئيسيا آخر عندما أوقف تقدم الأعداء عند حلب. في 19 مايو 1919 نزل مصطفى كمال في ميناء البحر الأسود سامسون لبدء حرب الاستقلال وفي تحد لحكومة السلطان نظم جيش التحرير في الأناضول وحشد جموع الأرزورم وسيفاس الذين أسسوا قاعدة الجهاد الوطني تحت قيادته وفي 23 أبريل 1920 تأسس مجلس الأمة الكبير وانتخب مصطفى كمال لرئاسته.

ولعله من المناسب هنا أن نورد تاريخ المضيق وأهميته: فهو مضيق بحري واقع بين شبه جزيرة جاليبولي وشاطىء آسيا الصغرى وهو مضيق يبلغ طوله 70 كيلومتراً وعرضه يتراوح بين 1800 و1700 متر ويصل عمقه من 50 إلى 60 متراً. وقد اعتنت الدولة العثمانية بعد امتلاكها للقسطنطينية بتحصينه فبنت القلاع على جانبيه حتى أصبح منيعاً يستحيل على أكبر أسطول أن يقتحمه من دون أن يتعرض لأكبر الأخطار. من تاريخ هذا المضيق أن أسطولاً إنجليزياً مؤلفاً من اثنتي عشرة بارجة وعدد كبير من المدفعيات والحراقات اقتحم الدردنيل في 20 فبراير سنة (1807)م تحت قيادة الأميرال دوكودث ووقف أمام الآستانة فرآها قد استعدت حصونها لمقابلته فاضطر للرجوع فكان الترك قد أسرعوا إلى تحصين جزء منه فلما هم الأسطول الإنجليزي بالرجوع ومر بتلك الحصون أصيب بأضرار عظيمة. ولما صار الأميرال الإنجليزي ببحر إيجه قابله أسطول روسي فعرض عليه أميراله أن يتحدا معاً على اقتحام الدردنيل وإلزام تركيا بالشروط المطلوبة فأبى الأميرال الإنجليزي لتحققه من الخطر. في سنة (1809)م أي بعد هذه الحادثة بسنتين اتفقت إنجلترا وتركيا على ضرورة إقفال الدردنيل في وجه السفن الحربية الأجنبية. وفي سنة (1823)م اتفقت روسيا مع تركيا على إقفال الدردنيل في وجه كل دولة تطلب روسيا إقفاله في وجهها، وكان ذلك في مقابل مساعدة روسيا للباب العالي في صد هجمات إبراهيم باشا بن محمد علي باشا عن الأناضول. هذا الاتفاق شغل بال إنجلترا شغلاً كبيراً فتوصلت لحمل روسيا وبروسيا والنمسا على الاتفاق معها على وجوب إقفال تركيا للدردنيل في وجه جميع الدول على السواء وكان ذلك سنة (1840)م. ثم انضمت اليهم فرنسا سنة (1851)م وأبدل هذا الاتفاق باتفاق البوغازات ونص فيه على هذا الإقفال في مادتيه الأوليين. ولما عقدت معاهدة باريس سنة (1856)م نص على هاتين المادتين فيها. وجاءت معاهدة سنة (1871)م ناصة على ذلك الإقفال أيضاً. ولما انتصرت روسيا على تركيا سنة (1876)م وعقدت معها الصلح جعلت لنفسها حقاً ممتازاً في الدردنيل فلما التأم مؤتمر برلين لتنقيح شروط الصلح ألغى هذا الحق الممتاز وأيد مبدأ الإقفال. وفي سنة (1902)م طلبت روسيا من تركيا أن تسمح بمرور أربع نسافات إلى البحر الأسود لتنضم إلى أسطول البحر الأسود عند عرضه على القيصر وتلطفت روسيا في هذا الطلب حتى رضيت أن تجرد تلك النسافات من سلاحها وأن ترفع العلم التجاري عند مرورها. فلما سمح لها الباب العالي احتجت إنجلترا على ذلك وقالت: إنها تعتبر هذا المرور سابقة تستفيد منها هي في المستقبل. وفي سنة (1904)م طلبت روسيا من الباب العالي أن تمر من الدردنيل أربع سفن من الأسطول المتطوع محملة فحماً فاحتجت إنجلترا، ثم انتهى الأمر بقبول الباب العالي. هذه لمحة من تاريخ الدردنيل وهي تدل القارىء على أن روسيا تميل أشد الميل إلى حرية مرورها من ذلك المضيق الخطر لتستفيد فائدة كبيرة من اتصال أسطولها بالبحر الأبيض. وقد توصلت تركيا في مؤتمر مونترو سنة (1937)م لبسط سلطانها على ذلك المضيق.

ولأن ساحل تشاناكالا المطل على المضيق قد شهد فصلا كبيرا من فصول المعارك التي خاضتها تركيا في الحرب العالمية الأولى، فقد خصصت منطقة ساحلية تبعد عن تشاناكالا بخمسة وعشرين كيلومترا، أقيمت فيها مقابر شهداء الحرب من تركيا ودول المحور، إضافة إلى نصب تذكاري عملاق أقيم على ساحل البحر مباشرة، حيث يأتي أقارب ضحايا الحرب لتذكرهم، ويأتي الأتراك لتذكر دور أتاتورك في الحرب، حيث تفيض الباحة الشاسعة التي تفصل بين مقابر الجنود والنصب التذكاري بعدد من الجداريات والمنحوتات، واعتذاره لأمهات العالم عن فقدان أبنائهم، في هذه المعركة التي عرفت باسم معركة الدردنيل - أكثر من 130 ألف رجل لقوا مصرعهم خلال محاولة فاشلة استمرت 8 أشهر من جانب الحلفاء للحصول على موطئ قدم في تركيا وفتح خط إمدادات لروسيا، 86 ألفا من القتلى هم من الأتراك.

وفي العام 1934 كان كمال أتاتورك قد تذكر ذكرى تلك الحرب وألقى كلمة خلدتها ذاكرة تركيا قريبا من ذلك النصب التذكاري، ونقشت بالتركية والإنجليزية على منصة حجرية جاء فيها: «إلى هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بدمائهم وفقدوا أرواحهم.. أنتم الآن تنامون في تراب دولة صديقة، فقروا عينا. فلا فرق بين مسيحي ومسلم بالنسبة لنا إذ إن أجسادهم جميعا ترقد بجوار بعضها البعض في بلادنا. ويا أيتها الأمهات اللائي أرسلتن أبناءكن من بلاد بعيدة إلى هذه الحرب. امسحن دموعكن، فأبناؤكن الآن مودعون بين أحضاننا في سلام، فبعد أن فقدوا أرواحهم في هذه الأرض أصبحوا أبناءنا نحن أيضا».

وتفيض هذه الساحة بتماثيل ومنحوتات لمشاهد من المعارك، وفي كثير منها يظهر كمال أتاتورك مع الجنود وفي مراحل مختلفة من قيادة المعركة.

وقد قاد جيوشه في الحرب على عدة جبهات إلى النصر ضد معارضيه والجيوش الغازية، محققا النصر التركي في معركتين رئيسيتين في أنونو في غرب تركيا، واجتمع المجلس الوطني العظيم حيث اعطى مصطفى كمال لقب رئيس الأركان برتبة مارشال وفي 31 أغسطس 1922 ربحت الجيوش التركية حربها النهائية خلال أسابيع عدة وأصبحت الأرض التركية الرئيسية محررة بالكامل، وتم توقيع الهدنة وانتهى حكم السلالة العثمانية.

وللسبب نفسه تضم تشاناكالا متحفا بحريا حربيا مهما يضم العديد من المعدات الحربية التي استخدمت خلال الحرب العالمية الأولى مما استخدمته تركيا، وخاصة القطع البحرية مثل القوارب العسكرية والأسلحة البحرية مثل المدافع وأجهزة الرادار، ومعدات الحرب المختلفة.

أخيرا كان علينا زيارة إحدى القلاع المنيعة الموجودة على الضفة المقابلة لتشاناكالا والتي بناها السلطان محمد الثاني في منتصف القرن الخامس عشر والتي تحصن بها العثمانيون طويلا للدفاع عن الدردنيل، قبل أن نطوي صفحة من صفحات التاريخ التركي الذي بدأناه بملحمة طروادة الأسطورية، واختتمناه بملاحم الأتراك المعاصرة، التي شهدت آخر فصول انهيار الإمبراطورية العثمانية، واستبدلت بها الجمهورية الحديثة.


استطلاع مصور قمت به عن طروادة ونشر في مجلة العربي نوفمبر2009