Tuesday, September 21, 2010

جزر الفلبين..موطن اكبر عائلة في العالم




جزر الفلبين..موطن أكبر عائلة في العالم!

قلم: إبراهيم فرغلي، تصوير:حسين لاري

لو قيض لي ان اكشف عن حلم من أحلامي السرية، التي لا أشرك فيها أحدا، لاخترت ذاك الذي أتخيل فيه نفسي طائرا أسطوريا يمتلك القدرة على التحليق فوق بلاد الله، ولو حدثت المعجزة لاخترت أن أبدأ بتلك الجزر التي تكون أرض الفلبين، متقلبا من شاهق لأدنو وأدنو مقتربا من تلك الطبيعة المبهرة، جزر رملية بيضاء، وسهول تلون الطبيعة بالأخضر الجميل، ومسطحات جبلية مدرجة كما أهرامات سقارة تتحول مصاطبها لواحات مزارع الأرز، ولعلني سأحوم وأحوم حتى أدنو من العاصمة مانيلا، متأملا سيارات الـ"جيبني" التي تتناقل في كل مكان كعلامة مميزة لعاصمة من أكثر عواصم آسيا ازدحاما، ومنها إلى خليج مانيلا الشهير، سأختار وقت الشروق لأنه أجمل مشهد لشروق الشمس في العالم، وصولا إلى قلعة سانتياجو في حي إنتراموروس التاريخي، التي تشهد على بسالة مقاومة اهل الفلبين للاحتلال، ولعلني لو اقتربت أكثر لاستشعرت دفء الود الذي يتمتع به اهل هذه البلاد، ولأنه عادة لا ينجو حذر من قدر، ولأن قدر هذه البلاد هو فيض السماء بالمطر، فقد تكون آنذاك تلك إشارتي، وعلامتي، للسقوط من أعلى حلمي إلى أرض الواقع..فليكن، فبرغم كل تناقضاته، مرحى به من واقع.

على مدى الأيام التي قضيناها في الفلبين، ما بين العاصمة، مانيلا، أو في كاجايان دي أورو، في في جزيرة مانداناو في الجنوب، استولى علي إحساس طاغ، سرعان ما راح يتأكد لي يوميا، بأن أهل الفلبين هم عائلة كبيرة، تعيش بين حدود بلد واحد. وهو شعب يستحق، في رأيي، جائزة نوبل لحب الحياة، ما يجعلهم يعرفون أنفسهم بأنهم أسعد شعوب العالم، من فرط الوداعة وحب التواصل الاجتماعي، حتى لو التقيت، هنا أو هناك شخصا ملحا يريد ان يبيعك هذا أو ذاك، أو صادفت صبيا يسير بجوارك يطلب حسنة، بإلحاح الاعتياد، أو سواهم، فإنك لا تنفر، بسبب هذه الروح الودودة التي تفرض وجودها على الشخصية الفليبينية، وتجعلك تسمع في اليوم الواحد كلمات مثل سيدي.. أخي.. صديقي.. شكرا.. من فضلك.. عشرات المرات، كأنها المفتاح السحري الذي تكون به الشخصية الفليبينية. وأما ما قد تسمعه عن انعدام الأمن ليلا في بعض الأحيان، أو التحذيرات بالتزام الحذر في اثناء الليل خوفا من السطو، فهذا يندرج في إطار المساويء المحتملة في أي مجتمع تزداد فيه حالات الفقر.

مطر..مطر !
إستقبلتنا مانيلا بالمطر. انهمرت المياه من السماء، لتغسل مانيلا بكرم وبذخ شديدين، لكن شيئا لم يكن ليؤثر على حركة السير، ولا الزحام الشديد الذي تعاني منه مانيلا، ولعل الاستثناء الوحيد هو اختفاء رجال المرور والشرطة فجأة، بحثا عن ساتر يسترهم من المطر الغزير الذي يهطل بلا انقطاع، وهو ما أتاح الفرصة لعدد من الفتيان والصبية، عراة الصدور أن يتناثروا بين السيارات طلبا لنقود قليلة توفر لهم طعامهم، مستغلين غياب الشرطة المؤقت.
مدينة شاسعة، وهي واحدة من 16 مدينة أخرى تضمها منطقة العاصمة المعروفة باسم مترو مانيلا، يتجاور فيها الفقر الشديد والثراء الفادح، جنبا إلى جنب، ويبدو من السهل تمييز أحياء الفقراء بمبانيها البسيطة المتوسطة الارتفاع، والوانها الكابية، وبساطة بنيانها، وبين الأحياء الأخرى الأكثر ثراء بمبانيها الشاهقة، العصرية، الأمريكية الطابع، في مدينة حولتها العولمة لنسخة أخرى من مدن العالم الجديد، بلا شخصية خاصة.
وفي الطرق التي تتجاور فيها السيارات حتى تكاد تتلاصق، تتجاور أيضا حافلات النقل العام الضخمة، مع سيارات الأجرة بأنواعها المختلفة، وطرزها اليابانية الصنع، جنبا إلى جنب مع سيارات الأجرة الشعبية المعروفة باسم "جيبني"؛ اشبه بميكروباصات صغيرة لها واجهة شاحنة أمريكية صغيرة، مزودة بجزء خلفي يركب فيه الركاب في صفين اثنين متقابلين، ويتلون كل منها بالوان صارخة متداخلة. لا يكاد شارع او طريق يخلو منها، بسبب قلة تكلفة أجرتها (7بيزو) بينما تبدأ اجرة سيارات الاجرة العادية من (30 بيزو). وهذه السيارات جميعا من مخلفات السيارات الحربية الامريكية التي تعود لزمن الحرب العالمية الثانية.
مانيلا واحدة من المدن التي تستقبلك بود، وتحثك على أن تندمج فيها بسرعة، إذ سرعان ما ينتهي الإحساس بالغربة لتحل محله ألفة شديدة مع المكان، خصوصا وأنه من النادر أن تجد فليبينا لا يعرف الإنجليزية، مما يجعل التواصل معهم سهلا. بالإضافة إلى البساطة الشديدة التي تميز الشخصية الفليبينية مهما كانت الطبقة التي ينتمون إليها.

مدينة شاسعة، تضم العديد من الأحياء السكنية والتجارية، بعضها شديد النظافة والفخامة، يضم عددا من الفيلات السكنية الجميلة، أو المساكن الفخمة المحاطة بحدائق في احياء يسودها الهدوء، وتحيط بها الخضرة والأشجار، وبعضها تتراص فيه الفنادق الفخمة، والمولات، أو المجمعات التجارية الضخمة التي تضم المطاعم والمحلات التجارية العالمية، وإلى جوارها مجمعات سكنية لا يمكن تصديق أسعار إيجار الشقة فيها من فرط ارتفاع قيمته، ومن الممكن أن يفصل بين هذه المنطقة وأخرى فقيرة عدة أمتار أو كيلومترات، ويكاد الفقر ان يكون، مثله مثل الثراء، هنا فاحشا، او مدقعا بالأدق، وهذه أحد ابرز وجوه التناقضات التي تحتويها الفلبين، ومانيلا على نحو خاص.ومن سائقي سيارة الأجرة، الذين يستمعون للموسيقى غالبا، يمكنك أن تستمع إلى الشكوى من الفقر، وارتفاع الأسعار، كما يمكن أن تستمع من أحدهم ما يفيد بأن وجود الجماعات التي يقودها أبو سياف في الجنوب، لا يعود سوى للفقر. وقد يحكي لك آخر عن إسلام شقيقته لتتزوج من مسلم، دون أن يؤثر ذلك على العلاقة مع العائلة، بينما يفضل آخرون الصمت والصبر على الزحام الذي لا ينتهي


خوزيه ريزال..كاتب يحرر أمة
مررنا في الطريق على نصب تمثال البطل القومي والكاتب الدكتور خوزيه ريزال، في منتزه ريزالRizal Park، وهو واحد من أبرز المثقفين الفلبينيين، ولد عام 1861وله روايتان هامتان هما Noli Me Tangere، (لا تمسني) و رواية El Filibusterismo، وقد اعيدت طباعة الأولى مؤخرا في سلسلة دار نشر بنجوين البريطانية. وبالصدفة كان يوم زيارتنا لخليج مانيلا مواكبا لاحتفالات المدينة بالذكرى رقم 149 لوفاة ريزال والتي بدت كعيد قومي، حيث احتلت صوره كل مكان.
ويعد ريزال واحدا من أبرز أصوات المثقفين الفلبينيين الذين أعلوا أصواتهم ضد المستعمر الإسباني، وطالبوا بالإصلاحات، وحرض الشعب الفلبيني على الثورة، وهو ما أدى إلى اعتقاله، ثم إعدامه في العام 1896في موقع "حصن سانتاياجو" الذي كان آخر ما وصلنا إليه في نهاية جولتنا على خليج مانيلا، في حي إنتراموروس، الذي يضم العديد من الآثار التاريخية التي تعود للعصر الإسباني.
ولعل وجودنا في مثل هذا الموقع التاريخي كفيل بان يعود بنا قليلا لصفحات التاريخ. فقد كان أول من وصل إلى الفلبين في العام 1521، هو الأسطول البحري الذي قاده فرديناند ماجيلان، أما اسم الفلبين فيعود لعام 1542، واطلقه المستكشف الإسباني روي لوبيز دي فيللالوبوس حين وصل جزيرتي ليتي وسامار، واختير الاسم نسبة إلى الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا آنذاك، ثم عمم الإسم لاحقاعلى بقية الجزر التي تكون الفلبين وعددها 17 الف جزيرة، ليست كلها مأهولة بالسكان، (الفلبين تقسم لثلاثة جزر رئيسية كبرى هي لوزون Luzonفي الشمال وبها تقع مانيلا، وفيساياس Visayas، في الوسط وتطلق على عدد من الجزر تكون هذا الإقليم وبها مدن مثل سيبو Cebu، وبوراكاي Boracay، ثم الجزيرة الثالثة الجنوبية مينداناو Mindanao، وبها مدن مثل بوهول Bohol، ودافاو Davao) كما تم تأسيس مدينة مانيلا عاصمة للمستعمرات الإسبانية في منطقة الإنديز في عام 1571.
قلعة سانتياجو
في موقع "قلعة سانتاياجو" يستقر بناء جداري ضخم مسور بسور حجري عتيق تم بناءه في القرن السادس عشر، وقد كان، قبل وصول الاستعمار موقعا للبطل الفلبيني المسلم راجا سليمان، تحصن فيه، وقاتل المستعمر وقدم نموذجا لبطولات المسلمين في الفلبين، لكنه قتل، وقام الأسبان بهدم الحصن القديم وبناء قلعة خاصة بهم في نفس الموقع في العام 1571 على يد مارتين دي جويتي. وظل هذا الحصن مخصصا لإدارة الحكم الاستعماري الإسباني في الفلبين على مدى 333 عاما هي عمر الاستعمار الإسباني للفلبين، وفي داخل القلعة تقع مساحة شاسعة تضم العديد من المنازل الصغيرة وحديقة كبيرة تحيط بها مماشي، وتتوسطها نوافير المياه، التي شيدت عقب وصول المياه الجارية إلى مانيلا في العام 1882.
كما تضم المساحة الداخلية سجنا كان يتم اعتقال المساجين فيه، وبينهم البطل القومي الفلبيني ريزال الذي اعتقل واعدم في هذا السجن، الذي يعد اليوم مزارا خاصا يضم رفاته، وأغراضه، إضافة إلى الزنزانة التي اعتقل بها حتى يوم إعدامه في عام 1896. وبها يوجد تمثال صغير يجسد شخصية ريزال جالسا على أحد الكراسي كما تخيله الفنان في أثناء انتظاره للحظة الإعدام.
لكن الثورة استمرت، ونجح الفلبينيون في طرد الإسبان بعد عامين، وأعلنوا استقلالهم في العام 1899، لكن سرعان ما نشبت حربا بين الفلبين وامريكا في كوبا انتهت بسيطرة أمريكا على الفلبين. وفي العام 1935 أعلنت الفلبين تابعة للكومنولث، وظلت تحاول الحصول على استقلالها حتى اندلاع الحرب العاليمة الثانية التي أدت إلى سيطرة اليابانيين على الفلبين في 1942، ونشبت حربا ضارية بين الطرفين أسفرت عن مقتل نحو مليون مناضل ومقاتل فلبيني فيما عرف باسم "مذبحة مانيلا" التي مارس فيها الطرف الياباني الكثير من جرائم الحرب، حتى حصل الفلبينيون على استقلالهم أخيرا في عام 1945.في اثناء خروجنا من القلعة تتبعت آثار أقدام ريزال التي جسدها أهل الفلبين ليرى السلف ويتمثل الخطوات الأخيرة لريزال في طريقه للإعدام، بثقة من يعرف ان الحرية ثمنها باهظ، ولا يقل عن قيمة الحياة نفسها.


مقتطف من استطلاع الفلبين المنشور في عدد اكتوبر2010 في مجلة العربي

No comments: