Thursday, November 12, 2009

يوسف رخا في شمال القاهرة غرب الفلبين
شتات الأرواح في مدن غير مرئية

بلغته الجميلة بتوترها المربك، يخوض يوسف رخا تجربة ثالثة في كتابة الرحلة، يضمنها كتابه الجديد "شمال القاهرة غرب الفيلبين"، الصادر عن دار رياض الريس في سلسلة "الكوكب".
وبينما كان قد خصص كتابا لكل من رحلتين سابقتين؛ إحداهما لبيروت (بيروت شي محل)، والأخرى لتونس(بورقيبة على مضض)، فإنه في كتابه الجديد يعرج على ثلاثة منعطفات، في بلدان ثلاثة هي المغرب ولبنان والإمارات.
لا يبدو هذا كتاب رحلة بالمعنى المتعارف عليه، بالأحرى هو سيرة ذاتية عبر الرحلة، تأمل الذات في مرايا الاخرين، وتمارين على اللغة، كيف تصبح متوترة، وتوترها ليس غاية في ذاته، بل هو انعكاس لحالة الذات، محاولة للتعبير عن الروح، وليس النفس، ولأن الروح مما لا يمكن أن يعبر عنه بسهولة تأخذ لغة يوسف المتوترة في الكتاب مستويات عدة تتراوح فيها بين الغموض، والاقتضاب، والكشف الذي يصل حد التعري، والتكثيف الذي يرفع ملاءة اللغة إلى عنان السماء قبل ان تهبط، كأنها سحر، بدلالات محددة بجلاء.
يمكن تقسيم رحلات هذا الكتاب إلى ثلاث حالات لرؤية الذات، الأولى في اختبار علاقة الزواج التي بدأت في المغرب عبر رحلة شهر عسل، امتدت ما بين كازابلانكا وفاس إلى مراكش وطنجة، أما الثانية فهي تأمل علاقة عاطفية حسية غامضة ترتبط فيها البلد، لبنان، بكل الأسئلة التي تولدها عن تعقد تركيبتها السياسية والاجتماعية على التوحد العاطفي مع طرف ينتمي اليها.
أما الحالة الثالثة التي تجسدها رحلة الإمارات، فهي حال الوحدة والوحشة ربما، والأسئلة التي تتولد من مجتمع جديد لعيني يوسف رخا، تجتمع فيه الجنسيات من ارجاء العالم، فتتفاقم عزلته.
في المغرب، تبدو لغة النص متوترة، لكنها تنجح في نقل حس ضمني بالمرارة، حينا، وبالألم والشجن مرات، ثم تنقلنا في مستوى آخر بين الواقع المضبب إلى مستوى الأحلام، وبحيث يختلط على القاريء موقع الحلم من تفاصيل الواقع، لكن الحلم يكتسب من الواقعية ما يرسخه، ويتحول الواقع، بغتة، إلى لون من السحر. في مواقع أخرى قد تنتقل اللغة، بتشظيها وقلقها بين مكانين، هما المغرب، والقاهرة، في مكتب مضجر في الأهرام، لكن المكان، في الحقيقة بتفاصيله لا يعني الكاتب في شيء، فهو ليس سوى التكأة التي تمرح فيها الروح بين الأمل، والضجر والتأسي.
ثمة باعة حشيش في الدروب، ووجوه أطفال مرحة في الطرقات، وباحثات عابرات عن المتعة، ثمة وجوه واجمة في محطة القطار، وصوت ام كلثوم في كازا، وبحث عن طيف شكري في سوق طنجة الداخلي، واستدعاء لدار غالية التي تصبح في وعي الكاتب كأنها بيت الزوجية، يقارنها لاحقا ببيت الزوجية الحقيقي في القاهرة، وثمة وجوه ومفردات بلسان أهل المغرب. يلتقطها رخا من هنا وهناك ويطلقها في كتابه كشظيات لا يربطها رابط. كأنها صدى متكرر لهواجس الكاتب ومخاوفه، عن الماضي واحتمالات تكراره.
الكتابة متشظية، تتداعى وفقا لما تستدعيه الروح من أحاسيس، وليس وفق منطق العقل في تذكر رحلة. تمكن يوسف رخا من هذا المنطق الجديد في الكتابة، والذي يبلغ ذروته في اللغة الجميلة التي ابتكرها في روايته الجديدة "كتاب الطغرا" التي نشر منها مقاطع متفرقة في عدة دوريات، واظن أن هذا أحد أهم نتائج هذا الكتاب.
ملاحظات عابرة عن لغة المغاربة، وما يستغربه صاحب لهجة مصرية من مرادفات المغاربة في الحديث وفي العلامات، وعن معنى وجود النباتات في البيوت، لمن تربى في بيت مديني للطبقة الوسطى في قلب القاهرة.
وما بدأ في المغرب، يؤدي بشكل ما إلى الإمارات، التي تبدو زيارة الكاتب لها نوعا من الهرب من مرارة لا نحتاج للكثير من البراعة لاكتشافها في نص المغرب، ومن اليأس المهني في القاهرة، لكن الهرب بدلا من ان يولد الراحة المبتغاة، على الأقل من وطأة الذاكرة، فإنه يشعلها، بالمقارنات التي تفرضها حالة المجتمع الإماراتي.
نص الإمارات يفتح اسئلة عديدة عن معنى الوطن والمواطنة في كل من مصر والإمارات، وأخرى عن الثقافة، المسلعة المجلوبة المستوردة مقارنة بغيرها مما يثير الضجر.
وبالأساس تتسع اسئلة المكان- الوطن ،عبر ظلال المكان ذاته واهله، الذين يظهرون على استحياء، والمقيمون الذين يشكلون نسيجا متنافرا ، وعبر الذاكرة التي تستدعي المكان الاساس، كأن مصيرنا، (وقد اشار الكاتب إليّ في أحد المواضع)، هو ذلك القلق المستمربين اماكن إما أنها لا تعبأ بنا وتضجرنا تناقضاتها بالرغم من كونها أوطانا، أو تلك التي تعاملنا بوصفنا أغرابا.
لكن توتر اللغة المبني على توتر الروح في ظني كثيرا ما أدى إلى إطلاق احكام لا يطلقها سوى العابرين، أو الممرورين والضجرين، أي أنها تبدو انفعالية اكثر من كونها مراقبة واقعية للمكان في سياقه هو، وتاريخه هو، وظروفه.
الرحلة فيما أظن تقتضي من العابر أن يخضع لشرط التكيف واعتبار نفسه من المكان حتى يتمكن من رؤيته، وإلا مر عابرا، ولا أريد ان اقول أعمى.
ولا أظن أن يوسف رخا كان مكترثا لذلك، فهو من بداية النص يذكرني بجزء مما كان يردده ستلمان أحد أبطال رواية مدينة الزجاج لبول اوستر مع المخبر السري كوين:"لقد تشظى العالم يا سيدي. لم نفقد شعورنا بالهدف فحسب، وإنما فقدنا اللغة التي يمكننا بها الحديث عنه. وتلك بلا شك موضوعات روحية، ولكن لها ما يناظرها في العالم المادي".
في موقع آخر بين البطلين غريبي الأطوار سيعود سيتلمان للقول:"إن كلماتنا لم تعد تطابق العالم. فعندما كانت الأشياء كلا واحدا كنا نشعر بالثقة في ان كلماتنا ستعبر عنها، ولكن شيئا فشيئا تحطمت هذه الأشياء، تمزقت، انهارت، تحولت إلى فوضى، ومع ذلك ظلت كلماتنا على حالها، ولم تؤقلم ذاتها مع الواقع الجديد".
هكذا يبدو لي نص يوسف رخا، في محاولته للتعبير عن اضطراب العالم وانعكاسه على مخاوفنا ونوازعنا وقلق أفكارنا، للدرجة التي تبدو معها الكلمات وكأنها تشويه ما يتم طرحه، وتحويله إلى ركام مضطرب.
هذا بالضبط ما وجدتني أهتف به لنفسي كتوصيف لنص يوسف رخا في هذا الكتاب عن بيروت، لقد أربكه وضع المكان بحيث انه لم يعد هناك جدوى لأي كلمات لها معنى واضح ومستقر ان تعبر عنه، ولا عن روح الكاتب في تلك اللحظات المشوشة. تماما كما تبدو قصة الحب العابرة التي يعبر عنها النص.
هل يضيف يوسف رخا جديدا إلى كتابة الرحلة أو عن البلاد الثلاثة موضوع الكتاب؟ بالتأكيد لا. لكنه في المقابل قدم نصا فنيا تجريبيا مهما على تخوم الرحلة وفي قلب موضوع فقه اللغة في تعبيرها عن شتات الارواح
نشرت في النهار اللبنانية في نوفمبر2009.

No comments: