Thursday, October 1, 2009

عن سراييفو والبوسنة


البوسنة والهرسك..وجه الإسلام المشرق في قلب أوروبا
بقلم: إبراهيم فرغلي عدسة :سليمان حيدر

من قمة شاهقة تمكنا أن نرى مشهدا بانوراميا للمدينة البهية: بيوتا أوروبية الطابع بيضاء مغطاة بالقرميد، وأشجارا كثيفة تغطي تلال الجبال المحيطة بالمدينة كسور كبير، تمزج أحمر القرميد بأخضرها البهي، ونهرا يشق المدينة؛ يمنح المدينة ألقا خاصا، ويسبغ على قسماتها جمالا آسرا، يهبه لفتيات المدينة الفاتنات. وقبل أن نهبط من القلعة، قريبا من البوابة التاريخية القديمة لسراييفو؛ لنبدأ رحلتنا، أصخت السمع قليلا، لأصغي لنداء لاح لي أنه صوت المدينة يهمس "بمجرد أن لمحتك أيها الشاب شعرت بحاجة إلى أن أحكي لك شيئا لم أحكه لأحد أبدا". فبماذا باحت سراييفو؟!

في الطريق من المطار الصغير، إلى قلب المدينة في حي باتشارشيا العتيق حيث اخترنا أحد الفنادق للإقامة، كنت أتأمل المدينة البسيطة الجميلة، التي تبدو كأنها مساحة شاسعة بين تلال، تتناثر البيوت الأوروبية الطابع على محيط الجبال، بينما تستقر البنايات الحديثة العالية في الطريق الأقرب إلى المطار، وعلى جانبي الطريق الواسع، الذي يفصل بين نهريه مسار المترو، اصطفت بنايات حديثة ومحال تجارية وعمارات سكنية من العصر الاشتراكي الذي ميز يوغسلافيا قبل التفكك، وكلما توغلنا قدما كلما بات طابع البيوت أقرب للطابع الأوروبي التقليدي العتيق.
مزيج أوروبي، عصري وشرقي، فريد من نوعه. المساجد العثمانية الطرز تتجاور مع الكنائس والكاتدرائيات، في مدينة تعرف بأنها مدينة السلام أو مدينة "القدس الأوربية" كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بوصفها المدينة الأوروبية التي تضرب مثالا رائعا في تعايش الأغلبية المسلمة من أهل البوسنة مع صرب البوسنة الأرثوذكس، والكاثوليك من كروات البوسنة معا، وفي تقديم نموذج أوروبي إسلامي بديع في التسامح والتعايش. ولا عجب، فقد كان تاريخ البوسنة منذ الأزل متسامحا على هذا النحو، بل إنهم قدموا نموذجا نادرا في الحرب حين كانت قذائف الصرب توجه للبيوت والمساجد والمباني بلا تفريق، بينما لا يرد البوسنيون برصاصة واحدة، إلى كنيسة أو كاتدرائية، وهو ما سمعته من كثر هنا بينهم سفير البوسنة في الكويت ياسين رواشدة الذي التقيته في الكويت، وأدهم باشيتش، مساعد وزير الخارجية البوسني، والسفير الأسبق لجمهورية البوسنة والهرسك في دولة الكويت، و جافريلو جروهافاش نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والرياضة و السيد أحمد خطاب السفير المصري في البوسنة الآن، ود.عصمت بوتشاليتش، عميد كلية الدراسات الإسلامية، وغيرهم.


وداعا للحرب
إنتهت آثار الدمار التي كانت شاهدة على واحدة من أكبر مجازر التطهير العرقي التي شهدها القرن الماضي، وما بقي منها أكثره ذكريات مريرة، وشواهد قبور الشهداء، الذين راحوا ضحية حرب عرقية باهظة، في أماكن عديدة وبينها منطقة "كوفاتشي"، يتوسطها ضريح الزعيم الراحل علي عزت بيجوفيتش .
تحلت العاصمة سراييفو بحلة جديدة، لا تخلو من وجوه حداثية عدة، تؤكد أنها تسعى حثيثا للحاق بركب الدول كاملة العضوية في الاتحاد الأوروبي، حتى لو بددت تلك الأحلام بعض المصاعب الاقتصادية والسياسية التي سنلقي عليها الضوء تباعا في ثنايا هذا الاستطلاع، لكن ما يدعو للتفاؤل، في ملامح الناس، وحديث الشباب، ورجال السياسة والدين، والكتاب، والمستثمرين، وعارضات الأزياء ممن التقينا، وغيرهم، أكثر بكثير من نبرات التشاؤم.
في قلب المدينة الذي يتضمن منطقة السوق العتيق الممتليء بحوانيت خشبية انيقة، تتجاور على ضفتي الدروب والأزقة المبلطة بالحجارة، تتكدس بها ألوان من أعمال يدوية من الخشب والنحاس، صواني، أواني القهوة البوسنية التقليدية المكونة من الكنكات، والفناجين وقواعدها النحاسية المزركشة، أباريق، لوحات خشبية، واخرى معدنية، وأوان خزفية بديعة مرسوم عليها بعض أهم معالم سراييفو الأثرية، صناديق خشبية صغيرة مزخرفة برسوم ملونة، شالات نسائية، وغيرها، بينما تتناثر بين تلك الحوانيت مطاعم تركية، ومقاه، وملاه ليلية.
هذا الجانب من المدينة هو الجانب الذي يمتليء بالشباب. شباب من الجامعيين، بصحبة فتيات جميلات رشيقات، شقراوات أو صهباوات، أو ذوات شعور سوداء كالحة تعبر عن الجمال الذي تعرف به منطقة البلقان إجمالا، أو فتيات يتمشين، في الطريق إلى مطعم أو مقهى، أو إلى حفل راقص، أو حفل موسيقي لعازفين وموسيقيين من شباب البوسنة أو من رموز الطرب المشهورين من عهد يوغسلافيا، أو يعبرن الممشى الطويل الممتد تقاطعه مع شارع تيتو التجاري.
أما الكهول، وكبار السن من المتقاعدين، فسوف تجدهم متجمعين صباحا في ساحة مبلطة ببلاطات مصقولة على مقربة من باتشارشيا وبجوار الكنيسة الأرثوذكسية، يتحلقون حول مساحة كبيرة من الأرض، تمثل رقعة شطرنج كبيرة، تنتثر عليها قطع شطرنج ضخمة، يحركها كل من لاعبين متحمسين بحملها على البلاطات الكبيرة على أرض الباحة، بينما يقف المتفرجون يفكرون عميقا في اللعبات المحتملة، وبعضهم يستسلم جالسا لأشعة الشمس الدافئة حتى يغفو.

نبض الحياة
ثمة نوع من الألفة التي تلفك بها سراييفو على الفور، فتنفض عنك إحساسك بالغربة سريعا، وهو ما ترسخه عناصر أخرى بينها رؤية المساجد، وأبراج الساعة التي تحدد مواقيت الصلاة، والأبنية التركية التي تشبه الآثار العثمانية في مصر والشام، مثل التكايا والسبيل، والمدارس القديمة، والاستماع إلى صوت الآذان، بلغة عربية سليمة، وبأصوات جميلة خلابة، تجاورها الكاتدرئيات والكنائس في مساحات متجاورة.
في قرارة نفسي كان لدي يقين بأن التاريخ موجود في كتب التاريخ، لكني كنت أرغب في التعرف على الراهن، أن أرى المدينة اليوم بكل ما يمثل واقعها المعاصر الآن وهنا. أن استمع إلى نبضها المعاصر. وهكذا كنت مشغولا بالتفكير في كيفية إيجاد الفرصة للاقتراب من الشباب والفن في هذه المدينة بين ازدحام الجدول المعد لنا للمقابلات الرسمية وزيارات المدن الأخرى خارج سراييفو.
أبدأ من الفن، مشيرا لأن مهرجان "شتاء سرايفو" الذي يقام في شهر فبراير من كل عام والذي تأسس منذ اولمبياد 1984 التي اقيمت في البوسنة، والذي يرأسه ويدير فعالياته الشاعر والكاتب ابراهيم سباهيتش، بقدر ما يمثل مناسبة سنوية لحضور العديد من الفنانين من أرجاء أوروبا والعالم في فنون الموسيقى والمسرح والغناء والرقص والفن التشكيلي والافلام التسجيلية وعروض الفيديو آرت وغيرها، ليقدموا فنونهم لجمهور البلقان، فإن المهرجان نفسه عادة ما يكون مناسبة مهمة لكي يعرض الفن البوسني نفسه للعالم عبر عروض موسيقية لفنانين أمثال دامر إماموفيتش، الذي يعد أحد الأسماء المهمة في الفن الموسيقي في البوسنة في الوقت الراهن، وفي البلقان بطبيعة الحال.
كما أن البوسنة عرفت في السنوات الأخيرة نهضة سينمائية عبر مجموعة من المخرجين الشباب مثل ياسميلا جبانيتش، والأخوان نهاد وسعيد كريشيفيلياكوفيتش، اللذين قدما عددا من الأفلام التسجيلية، والروائية، وبعضها من تأليف نهاد وإخراجه أيضا. بالإضافة إلى سييلا كامريتش ودانيس تانوفيتش الذي حصل على جائزة الأوسكار عن فيلم No Man’s Land في العام 2002 ، وإدمير كينوفيتش وبيير جاليشا وغيرهم.
كان لافتا تتويج جهود شباب صناع السينما في البوسنة بحصول فيلم "جرابافيتسا" للمخرجة ياسميلا جبانيتش على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي قبل ثلاثة أعوام (العام 2006)، والذي قامت ببطولته الممثلة الصربية ميليانا كرابوفيتش، ممثلا في شخصية سيدة من البوسنة تتعرض للاغتصاب من رجل صربي خلال الحرب، وتنجب من الاغتصاب طفلة تنشئها بدون أن تخبرها عن هوية أبيها الحقيقية، وتعيش في صراع مستمر بين كرهها للرجل ومحبتها لابنتها، وفي محاولتها أن تخبيء هذه الفضيحة عن الابنة، حتى ينكشف الأمر.في مجال الموسيقى يعد دامر إماموفيتش أحد رموز الجيل الجديد من الموسيقيين، الذي يحاول مزج بعض الفنون الموسيقية الجديدة مثل الجاز مع الموسيقى التقليدية في البوسنة والمعروفة باسم Sevadah، وكان والده زعيم إماموفيتش، أحد رموز هذا اللون الموسيقي التقليدي البوسني في أرجاء يوغسلافيا. كون دامر فريقا موسيقيا من اثنين من العازفين بالإضافة إليه حيث يغني ويعزف على الجيتار، ويحظى هو وفريقه بشعبية كبيرة في سراييفو وفي البلقان، ويقوم بجولات فنية في بلجراد والعديد من العواصم الأوروبية. وهناك العديد من الفنانين الموسيقيين البوسنيين من أمثال جرافكو كوليتش، وخالد باشليتش الذي يعد نجما كبيرا هنا، وغيرهم كثير من الفنانين
مقدمة الاستطلاع المصور :نشر في مجلة العربي العدد 609-سبتمبر2009

1 comment:

أسما عواد said...

مررت لألفي السلام على ان أعود مرة اخرى
تحياتي