Wednesday, April 1, 2009

لأن الأشياء تحدث



"
لأن الأشياء تحدث" للمصري حاتم حافظ
عمى الروح حين يبرر الصدف والأقدار




مثل نصل يجرح بسرعة خاطفة، لا يشعر معها الجريح بشيء، إذ يرى جرحه، في ومضة، نسيجا أبيض لم تهرع الدماء إليه بعد، لكن سرعان ما يدفق الدم من كل حدب فيدرك الجريح جرحه، بينما الألم يتكاثف في الخلفية حتى يصبح مركز كل شيء. هكذا أحسست عندما انتهيت من قراءة رواية حاتم حافظ الأولى "لأن الأشياء تحدث"، الصادرة عن دار العين للنشر في القاهرة.
الراوي الذي يبدو عبثيا وجوديا، يحاول أن يتعامل مع طلاقه من زوجته كحدث عابر، يحفر جراحه عميقا، دون أن يدري أو ندري، لكنه يخبيء جراح ألمه، أو على الأقل يستخف بها، موعزا لنفسه ولنا موقفا حياديا من زوجته، مؤكدا أنه لم يحبها، مستفيضا في تساؤلاته عن الحب، ومعنى وجود زوجته في حياته، ومعنى وجوده هو في المطلق، ومخاوفه، تحت طبقة من اللغة التي تبدو محايدة تماما.
هذه اللغة نفسها هي نتاج مفارقة تقنية أخرى، تتمثل في توسل صيغة الرسائل المرسلة لشخص مجهول، كان الراوي قد تعرف عليه دون عبر أحد برامج الـ (Chatting) على الإنترنت، لكن دور، المرسل إليه هذا، لا يتعدى كونه متلق للرسائل. يتلقاها ولا يرد عليها البتة، مما يجعل المرسل إليه، موضعا آخر لتساؤلات الراوي نفسه، هل هو عربي يمني كما قال؟ هل هو رجل أم امرأة، هل قتل نفسه بالفعل كما ذكر في رسائله قبل أن يتوقف عن الرد؟ بل هل هو متخفي في شخص رجل بينما ليس سوى سهام زوجة الراوي، أو بالأحرى طليقته؟
تعطي هذه الحالة العبثية لوضع المرَسَل إليه جوا كافكاويا، يصنع متاهة افتراضية، هي وجه الحداثة التي يتوسلها حافظ في روايته، بالرغم من اتخاذ النص تقسيما شكليا متماثلا، يتقسم في فصول لكل منها عنوان رسالة وعنوان بريد إليكتروني للشخص ذاته وتاريخ. يكاد كل فصل من فصول الكتاب، أو كل رسالة من الرسائل تتساوى في مساحتها مع سابقتها، وكل منها يبدو كحالة قصصية مكثفة؛ تعكس وعيا عاليا من حافظ بالإيقاع والتكثيف معا. لكنها تبدو في مستوى آخر كمتاهة، يدخلها الراوي ليرى فيها ذاته بشكل أكثر عمقا، ويتأمل حياته، وزوجته التي يكتشف بعد سنوات الزواج الثلاث أنه يكاد لا يعرف عنها شيئا يزيد عما خبره في أثناء فترة الخطوبة.
كما يتأمل علاقته الغامضة والمعقدة بأبيه، ثم صداقاته، وعمله كرسام أو فنان تشكيلي، يبدو أقرب لشخصية الموظف أكثر مما هو من الفنان.
وبالرغم من أن الرواية لا تشير للمكان، ولا تبدو مهتمة به، ولا بوصفه، لكنها تقيم علاقة ضمنية وثيقة، بين أزمة الراوي في التباس علاقته بزوجته، وتأزمها وصولا للطلاق الذي تم بناء على طلبها، وبأقصى درجات التحضر، وبين المكان، بوصفه مدينة، تتأزم، فتنطلق فيها كتل سوداء رائحتها نتنة، بلا عقل تقريبا، لتنفذ أوامر اعتقال عشوائية تصادف كل من يقع في دوائرها سواء كان له علاقة بموضوع الاعتقال أو سببه أو لم تكن له أدنى علاقة بذلك؛ كما كان شأن الراوي، الذي خرج من عيادة الطبيب بعد أن فك الجبس عن قدمه المكسورة ليجد نفسه في مرمى الكتلة السوداء.
بلا كثير من الدراما، يضع حاتم حافظ رتوشا بسيطة مختزلة عن عناصر الخراب، والفساد، والتفسخ الاجتماعي، لكنها دالة، وكثيفة، ومتواءمة مع موضوع النص الذي تكون بؤرته أزمة فقدان الراوي لزوجته.
فقدان الراوي لزوجته يبدو كأنه عرض من أعراض خوف الراوي أن يعود يوما فلا يجد بيته، ولذلك فهو يفضل الجلوس في البيت عن الخروج، ويفضل البقاء في مصر عن السفر، ومع ذلك فقد فقد زوجته، ولعل ذلك ما يجعل مخاوفه من فقدان البيت- الهوية، أو المكان- الوطن أكثر احتمالية.
يشير إلى دوره كرسام في أثناء الدراسة حين كان يحاول أن يرسم موديلا عارية مستأجرة، لأن الكلية منعت رسم الموديل العاري، وكيف أنه، كشخص، ينتمي لمجتمع يدعي الأخلاقية ويعاني الازدواجية؛ كان يرسم امرأة أخرى غير التي يراها أمامه، لأنه في أعماق وعيه لم يستطع التعامل مع خجله من رسم امرأة عارية.
المسؤول الذي منع رسم العاري في كلية الفنون، لا يبدو لهذا الفنان رقيبا، بقدر ما يبدو منفذا لمستقرات اجتماعية في أعماق مجتمع يميل للمحافظة. الفنان تواطأ مع الرقيب، بلا اتفاق، وأصبح أعمى تقريبا حتى وهو يفتح عينيه على اتساعهما ليتأمل الموديل المستأجرة والتي يرسمها في حضور صديقة له.
هذا العمى نفسه يجسد أيضا مقدار تواطؤ الراوي مع أخلاقيات موروثة، كبحت الراوي عن رؤية زوجته، بالمعنى المجازي، بشكل حقيقي، معميا عن التفاصيل، وعنها، وأسهم في قبول أداء الجنس من منطق أخلاقي، استبدلا به دورهما في الفراش كرجل وامرأة إلى زوج وزوجة، بكل ما يعنيه ذلك في مجتمع يتوارث القيم المحافظة دون تفكير، أو كما يقول الراوي: أفسحا مساحة للرقيب بينهما، فكانت النتيجة أن بقي هو بمفرده في الفراش!!.
وهو نفس المعيار الأخلاقي الذي سيبرر به الراوي لنفسه مقاومته لجارته التي سافر زوجها قبل فترة، حين يعرض عنها معللا ذلك لنفسه بعلل عديدة، محوما حول فكرة نفوره من إغضاب الله، كأنه يستكبر أو يعاند الإحقاق بأنه لم يفعل ذلك من أجل زوجته، أو لأنه يحبها.
تكشف الرواية أيضا جانبا من الصراع الضمني بين الأجيال، ممثلا في جيلي الأب والابن، وهو صراع يسفر عن اعتراف ما بأن الجيل القديم، رغم الاختلاف معه، أحياناإلى درجة النقيض، كان يبدو عارفا بما يريد حتى لو كان ما أراده بالنسبة للجيل الجديد ليس سوى عبث محض. أما الجيل الجديد، فهو يرفض القديم، ولا يعرف ما يريد فينتهي مآله لأسئلة بلا إجابة وعدم معرفة بالمعنى الحقيقي للحب، ولا للحياة.
طبقات اللغة، والنبرة التي تبدو أقرب للحياد، واللاغنائية، التي يستخدمها الراوي في جل رسائله، تكثفت لتكشف في النهاية، عما كان معميا عنه في زوجته التي وقفت بجوار حميها في مرضه، عن حب صامت، وعميق، وعن رؤية منتصرة للمرأة عموما، كما كشفت عن جوهر ارتباطه بأبيه قبل موته، وعن شقيقه المهاجر الذي كشف معدنا لم يكن واردا في قاموس الراوي حين كان يصف شقيقه ذاك مطلقا عليه كل ما يدل على أنانيته. كما تكشف أيضا عن تأملات الراوي الفلسفية عن احتواء النفس البشرية لتناقضاتها مناصفة، وعن الإرادة، وأوهام الصدفة والقدر، وعن العنف وانتظاره ترقبا أو عبر المواجهة.
اللغة اللاغنائية لهذا النص، أحالتنا في النهاية إلى حزن عميق، مؤلم، وحقيقي، لكن بلا أدنى شبهة ميوعة عاطفية، أو غنائية، بل بالعكس فهناك حس ساخر وعبثي في المقابل، وهذا مكمن قوة هذه الرواية التي تعتبر أحد مكاسب النص المعاصر، خاصة وأنها أولى روايات كاتبها، ولا أظنها ستكون الأخيرة.
إبراهيم فرغلي



(النهار مارس 2009)



No comments: