سرقسطة.. عشيقة الحضارات!!
بهمسة خافتة بين شاب وفتاة متواعدين، في محطة القطار، استقبلتنا سرقسطة. وبمجموعة
من الآثار التاريخية الباهرة التي يندر وجودها حتى في أكثر المناطق الأندلسية شهرة.
فاجأتنا هذه المدينة بكثير مما لم نتوقعه. وتحولت دهشتنا إلى حال من الإعجاب بعد مشاهدة
موقع معرض إكسبو 2008 الذي قدر لسرقسطة أن تقيمه هذا العام، فأضافت إلى الرومانسية
لمسة من الإبهار، سواء على مستوى هذا المعرض الاستثنائي، أو على مستوى المدينة نفسها،
التي تتعانق فيها أربع حقب من التاريخ، في مزيج مدهش من لمستين؛ أولاهما أوربية تسم
كل شيء من النظافة والنظام والدقة إلى التخطيط العمراني، أما الثانية فلها صبغة أندلسية،
تتجلى في طرز المعمار، والآثار، والمباني العتيقة، وفي طيف خفي لهذه المدينة الايبيرية،
يزاح ستاره التاريخي بين آن وآخر ليطل وجه عربي ما، فيجعلنا على تلك الحافة الحادة
والرهيفة معا بين الألفة والاغتراب.
منذ ولجنا هذه المدينة، عبر بوابة محطة القطار، هتفت لنفسي مندهشا: هذه ليست
مدينة بيضاء كما قرأت عنها، بل هي مدينة اللون البني بامتياز؛ مدينة بلون الطين والحجارة،
عمارتها المعاصرة المستلهمة من تراث الأندلس تعتمد أولا وتاليا على الحجارة الحمراء
أوالبنية، تتقاطع فيها البساطة مع الحداثة بنوع من الإلحاح. وما بين اللونين؛ الأبيض
والبني، يمتد تاريخ المدينة العتيقة القادمة من زمن الأندلس، والمتجهة إلى مستقبلها
الأوربي المعاصر، بهدوء راسخ وثبات.
هكذا بدأ الانطباع التخيلي الاستباقي الأول ينزاح جانبا لصالح الصورة الواقعية
التي تؤكدها الشواهد والبشر من لحم ودم، والتي تكونت من فسيفسائها الصورة النهائية
على مدى الأيام التي قضيناها في استضافة سرقسطة، أو ثاراجوثا، كما يسميها الإسبان،
عاصمة إقليم أراجون، أو مملكة أراجون سابقا، التي تبعد عن مدريد نحو 300 كيلومتر، وتتوسط
المسافة بين العاصمة وبرشلونة. عرفت بأنها «عشيقة الثقافات الأربع» بسبب تتابع أربع
حضارات عليها، هي الأيبيرية (حيث سميت آنذاك باسم سالدوي) والرومانية (سيزار أجوستا)
والإسلامية (سرقسطة) ثم المسيحية (ساراجوسا). مرت بها جميعا، ثم تلاقحت، لتعطي لها
هذا الطابع الاستثنائي الخصب والفريد. أطلق عليها العرب «المدينة البيضاء»، ربما لأن
مساكنها كانت تطلى باللون الأبيض، أو لأنها دخلت الإسلام في العصر الأندلسي دون أن
تراق فيها الدماء. لكن ما كان قد كان واليوم تعيش المدينة زمنا آخر.
الإسبانية أولا وأخيرا
لا للإنجليزية، ليس هذا شعارا منطوقا، وإنما حقيقة واقعة، فمنذ وطأنا مطار مدريد،
ونحن نحاول أن نتفاهم بلغة وسيطة، هي الإنجليزية، لكن الحاصل أننا لم نفلح إلا في استخدام
لغة الإشارة، والتنبؤ بما قد توحي به كلمة أو أخرى مما ينهال به على أسماعنا كل من
توجهنا إليه بسؤال، لافرق في ذلك بين موظف القطار، أو موظف تغيير العملة، أو البنك،
أو المارة من الشباب والفتيات، أو سائقي التاكسي..فهم جميعا يتفقون على شعار واحد وبلا
اتفاق مسبق: «الإسبانية أولا وأخيرا».
في محطة قطار مدريد كان الموضوع أسهل نسبيا، فليس مطلوبا مني إلا أن أنطق باسم
ثاراجوثا ليفهم موظف التذاكر مقصدي. وفي مقهى المحطة كان من السهل الإشارة للفتاة الشقراء
بما أريد، وبالسهولة نفسها أحضرت ما طلبناه، لكن الصعوبة تمثلت في إبلاغي بالمبلغ الذي
يجب أن أدفعه لها. رددت رقما بالإسبانية، ولم أفهم، لا بد أنني بدوت لها بالغ السخف
إذ إنني حتى لا أعرف الأرقام بالإسبانية، في النهاية لمحت الرقم مكتوبا على شاشة الآلة
الحاسبة فهتفت لها سبعة، ونقدتها ما أرادت. عندما انصرفت باتجاه الطاولة سمعتها تنادي
بالإنجليزية: «معذرة..معذرة»، التفت إليها ضاحكا، وقلت لها: ها أنت تعرفين الإنجليزية،
فضحكت وهي تمد يدها بالشوك والملاعق.
في الحافلة السياحية التي تدور على كل المواقع السياحية في سرقسطة على مدار
اليوم، كنت محظوظا، بفتاة شابة تدير اسطوانات الشرح المسجلة بأكثر من لغة، أوضحت لي
أنها تدرس تاريخ الفن، وأنها تعرف الإنجليزية، لكنها لا تتقنها، لأن أحدا لا يمارسها
في إسبانيا إجمالا. المفارقة أن الإنجليزية هي اللغة الثانية في المدارس، إلا أن تدريسها
غالباً يتم بأساليب تقليدية، بالتركيز على القواعد والكتابة لا المحادثة. وعندما اعتذرت
لي عن إنجليزيتها فأكدت لها أنها أروع ما سمعت في سرقسطة، مؤكداً أنني الذي لا بد أن
أعتذر لعدم معرفتي الإسبانية.
في الطريق إلى المركز الصحفي لمعرض إكسبو 2008 أوضحت للسائق العنوان مكتوباً،
ففهم، وبالرغم من توضيحي له أنني لا أتحدث الإسبانية مطلقاً، لم يتوقف، طوال الطريق،
عن الحديث معي، حديثاً مطولاً، لم أفهم منه حرفاً، لكنني إزاء إصراره، صرت أؤمن على
كلماته بآهات متعاقبة، هادئة ومتقنة كأنني أفهم كل ما يقول!
في ميدان سان برونو Plaza
de San Bruno، حيث توجد أقدم آثار سرقسطة، وبينها كاتدرائيتيا بيلار، وسان سلفادور،
التي تحولت من مسجد إلى كنيسة، بعد خروج العرب من الأندلس، وغيرهما، ينعقد سوق شعبي
يوم الأحد من كل أسبوع، يعرض فيه بعض سكان سرقسطة قطعا من الأنتيكات، والعاديات، واللوحات
الفنية، والقلادات والحلي، والكتب والدوريات القديمة، والإكسسوارات النسائية وغيرها.
وتتوقف به فرق للعزف الموسيقي الكلاسيكي، والشعبي. لمحنا شابا تبدو ملامحه عربية، عندما
سألته إذا ما كان يتحدث الإنجليزية فسألني: هل أنت عربي؟ نعم. أنا أيضاً. حقاً؟ نعم
أنا من المغرب.
تبادلنا التحايا كأننا صديقان قديمان. ثم بدأ يحدثني، لا كما يفعل أصدقاؤنا
المغاربة، الذين يرفقون بنا فيتحدثون بروية وبوضوح، إنما بلكنة مغربية دارجة، وكأنني
صديق طفولة قديم. ويبدو أن بالوناً ممتلئا بعلامات استفهام قد ظهر أعلى رأسي، وهو ما
لمحته في ابتسامة صديقي سليمان حيدر ذات المغزى.
ابتسامة حيدر تحولت إلى قهقهات صاخبة عندما استعدنا الموقف مساء، بعدما انتهينا
من جولة في متحف سرقسطة يعرض مجموعة من أعمال الفنان الإسباني الشهير فرانسيسكو دي
جويا، (المولود في منطقة فويندوتودوس القريبة من سرقسطة عام 1746، والمتوفى في فرنسا
عام 1828).
مدينة للفنون
مع الأسف لم نستطع تصوير اللوحات من أعمال جويا ومقتنيات المكان إجمالا، بسبب
منع إدارة المتحف للتصوير، فاكتفينا بتصوير المبنى التاريخي العتيق، وبعض البوسترات،
بعد نحو ساعتين قضيناها متتبعين رحلة «فرانسيسكو دي جويا» لدراسة الفن في إيطاليا،
ولوحات أهم من تعلم عليهم أو عاصرهم آنذاك، ثم الاسكتشات التي رسمها في روما، والمراحل
التي مر بها فنيا، في الفترة التي أعقبت الثورة الفرنسية، مثل الباروك، والنيو كلاسيك،
سواء خلال وجوده في روما، أو بعد عودته إلى مدريد، ثم سرقسطة لاحقا.
في الساحة المواجهة لمبنى المتحف توجد نافورة مياه ضخمة، وحولها، شاهدنا عدداً
من الصور الفوتوغرافية معلقة على لوحات خشبية بيضاء ناصعة، تضم معالم المدينة الفنية،
مما يؤكد الطابع الثقافي والفني لسرقسطة والتي يعود لجويا الفضل في الكثير منها، فلمساته
موجودة في العديد من الآثار الفنية والمعمارية في أرجاء المدينة. ولاحقاً، في شارع
الاستقلال الذي ينتهي بميدان إسبانيا Espana Plaza في وسط المدينة، سنفاجأ، على الرصيف الواسع الذي
تتراص المحال التجارية والمقاهي على امتداده، بمجموعة من المنحوتات البرونزية العملاقة،
في تشكيلات مختلفة، حديثة، تميل للتجريد ولتيارات الفنون الحداثية والمعاصرة، من إبداع
النحات الإسباني مانيلو فاليدس.
لكن هذا الطابع الفني يأخذ سمة خاصة في قلب المدينة العتيقة، بمحاذاة نهر إيبرو
الذي يقطع المدينة، ويفصل بين جزأيها التاريخي القديم والمعاصر الحديث، ففي الجزء الأول
العتيق تتجاور مجموعة من البنايات القديمة، بينها كاتدرائية بيلار، التي بدأ بناؤها
في القرن السادس عشر، واستمر العمل فيها حتى القرن العشرين، حين اكتمل بناء أبراجها
العديدة ذات القباب المميزة. ويعد المبنى الذي يعود لعصر الباروك معماريا أحد أهم المراكز
الروحية في سرقسطة.
تحمل اسم القديسة بيلار التي تعتبر إحدى الرموز الروحية المهمة في سرقسطة، وغالبا
ما تتبارك السيدات بالاسم فيطلقنه على بناتهن، ويقام احتفال سنوي وهو بمنزلة العيد
السنوي للمدينة في ذكرى القديسة بيلار، في الثاني عشر من أكتوبر، حيث يفد سكان المدينة
بالآلاف يضعون الزهور بجوار صورة قديستهم في الساحة المقابلة للكاتدرائية، حتى يرتفع
هرم من الورد والزهور المهداة إلى روح القديسة بيلار، ثم تبدأ مظاهر الاحتفال عبر حفلات
موسيقية وأخرى لرقصة «لا خوتّا» الشعبية، ويشارك فيها الجميع، أي الراقصون المحترفون،
من جهة، والجمهور أيضاً.
وفي مقابل الكاتدرائية يقف تمثال لجويا نفسه متوسطاً ساحة شاسعة تفصل بين الأبنية
الأثرية العتيقة، وما يقابلها من بنايات عصرية.
في هذا الموقع بالتحديد، يوجد مبنى كاتدرائية «سان سلفادور» الشاهقة، التي كانت
مقرا لتتويج ملوك أراجون، وقد كانت في الأصل معبدا للرومان، وعندما وصل المسلمون إلى
سرقسطة وسيطروا عليها، قاموا بتحويل المعبد إلى الجامع الكبير للمدينة، ثم حوله ملوك
أراجون، بعد خروج العرب، إلى كاتدرائية، وهي تعرف أيضا باسم (La Seo ).
أما الجهة الأخرى من المدينة فتبدو بناياتها حديثة ومعاصرة، والسبب يعود إلى
أن المنطقة القديمة على الضفة الأخرى قد دمرت على يد قوات نابليون بونابرت في
1813.
بين الضفتين يصل جسر قديم يدعى جسر الحجر Peunte Piedra) )، ويقع في المكان عينه الذي شيد
فيه الجسر الروماني القديم، لكنه هدم وأعيد بناؤه، أكثر من مرة، بسبب الفيضانات أحياناً،
أوبسبب اعتداءات القوات الغازية، فأعيد بناؤه في القرن الثاني عشر، ثم هدم مرة أخرى،
وشيد الموجود حاليا في القرن الخامس عشر، ليصل بين الضفتين. وأعيد ترميم الجسر في الثمانينيات.
الشاهد الصامت!
الشاعر الألماني جوتة يقول: «إذا استطاع التاريخ أن يصمت، فهناك آلاف من الحجارة
شاهدة»! وإذا اقتربت من «قصر الجعفرية»، قريبا من المنطقة العتيقة لمركز المدينة، وأنصتَّ
للتاريخ، ولم تجد إجابة عن الأسئلة التي يولدها مشهد هذا القصر الفريد فإن حجارته ربما
تظل الشاهد الصامت الوحيد على تاريخ هذه المدينة، كما يظل بناء استثنائياً من حيث عمارته،
وكمركز تاريخي تعاقب عليه الحكام، منذ موسى بن نصير، الذي يقترن اسمه بالفتح الأندلسي،
في القرن الثامن الميلادي، وحتى يومنا هذا، حيث خصص جزء من المبنى كمقر للبرلمان.
مبنى القصر لم يشيد إلا في بداية القرن الحادي عشر، في عصر حكم أبي جعفر أحمد
بن سليمان (1046 - 1081)، وإليه ينسب اسم الجعفرية أو «الخافرية» كما ينطقه الإسبان.
أما مشيده أبو جعفر فكان أطلق عليه اسم «قصر السرور».
منذ ولوج المدخل العتيق المصمم على هيئة نصف قوس أو «آرش»، بين برجين من أبراجه
العديدة، يشعر المرء كأنه ولج حكاية من حكايات ألف ليلة، بلا مبالغة. وبالرغم من الإضافات
التي أضافها كل من الحكام الذين تعاقبوا عليه، أو الترميمات والتجديدات، يظل الطابع
الأندلسي، الإسلامي، راسخا في تفاصيل الزخارف، وهندسته الداخلية، وممراته، وحتى في
تصميم البهو الخارجي، والباثيو (الفناء الداخلي غير المسقوف، والمطل على حدائق داخلية)،
الذي يتوسط المداخل المتعددة لغرفه وأركانه الشاسعة.
وإذا كان التصميم الأساسي للقصر، بمعماره الإسلامي يعود للحاكم أبي جعفر، فإن
عملية البناء استمرت بعد وفاته، فقد استمر وارث عرش سرقسطة يوسف المؤتمن في عملية بناء
القصر، بعد وفاة أبيه. وهناك بعض الإشارات التاريخية التي دلت على ارتباط اسم أحد رواد
العمارة العربية الإسلامية ببناء القصر آنذاك وعرف باسم الخليفة زهير، وبدا واضحا أنه
تأثر بفنون العمارة التي سادت في قرطبة.
وقد انقلب أحمد المستعين على يوسف بن أبي جعفر، واستولى على حكم سرقسطة عام
1085، إلا أنه توفي عام 1110، وتولى الحكم من بعده الأمير عبد الملك الذي كان آخر حكام
العرب في سرقسطة، إذ سقطت سرقسطة في عصر المرابطين سنة 1118 بعد أن دام الحكم الإسلامي
فيها أربعة قرون، مازالت آثارها باقية حتى اليوم، علماً بأن النهاية الأخيرة للوجود
الإسلامي، بما في ذلك من بقي ممن يسمون بالمدخريين المسلمين، كان سنة 1622.
ثم تعاقب الحكام على القصر، ولشدة إعجاب ملوك آراجون بهذا القصر الذي استولوا
عليه بعد سقوط سرقسطة، وبينهم، وخصوصا، «بيدرو دي آراجون» الذي أحب أن يكون مقره في
هذا القصر، إلا أن كلا من هؤلاء الحكام قاموا بالتحوير والتعديل في بناء العديد من
أجزائه، وبدلوها، واستبدلوا بالزخارف الإسلامية أخرى قوطية ورومانية، كأنهم يئدون آثار
سابقيهم دلالة على الانتصار، ومحو تاريخ بآخر، وهي العقلية التي سادت آنذاك، وتجلت
في تحوير دور العبادة من مساجد المسلمين إلى كنائس، وبالعكس. كما حدث في غرناطة وقرطبة
وغيرها.
ويبدو أن هذه الطرز المعمارية أثرت لاحقا في تراث العمارة في سرقسطة المعاصرة،
التي تأخذ شكل الأبنية الحديثة، حادة الزوايا، لكنها تكتسي بجدران من الحجارة الصغيرة
أغلبها ذات لون بني قاتم أو بدرجاته مثل الطوبي تعطي الإحساس بلمسة خاصة من الأناقة
تميز هذه المدينة بلا استثناء. وأغلب البنايات لها شرفات صغيرة ذات زوايا حادة شبيهة
بعمارة شرق أوربا، وبعض عمارة البحر المتوسط.
المياه.. سر الحضارات
من بين ما تعرف به سرقسطة عذوبة مياهها، وبعض الكتابات تشير إلى أن القائد المسلم
موسى بن نصير عندما قام بفتحها سنة 714 ميلادية، أي بعد ثلاثة أعوم من عبور المسلمين
لمضيق جبل طارق، وشرب من مياهها للمرة الأولى قال: «لم أذق أعذب من مياه سرقسطة بين
كل مياه الأندلس». أما الاسم فهو تعريب لاسمها القديم «سيزار أوجستا» المستوحى من اسم
القيصر أغسطس الذي حكمها في عهد الرومان، فحوله العرب إلى سرقسطة.
ربما لهذا السبب اضطلعت سرقسطة، وأثبتت جدارتها، لتكون موقعا لأكبر مهرجان عن
المياه على وجه الأرض بوصف عمدتها خوان ألبرتو جولبي، ممثلا في معرض إكسبو الدولي هذا
العام 2008 وعنوانه «المياه والتنمية المستدامة».
استمر هذا المعرض الضخم لمدة ثلاثة شهور كاملة بين منتصف يونيو وحتى منتصف سبتمبر
الماضيين. وشاركت فيه دول العالم، بناء على الدعوة التي وجهها ملك إسبانيا خوان كارلوس،
لرؤساء وزعماء الدول، وافتتحت أغلب الأجنحة الدولية بوفود رسمية، من الوزراء الموفدين
من قبل دولهم وسفراء الدول في مدريد، تقديرا لأهمية الحدث، وقضية المياه، التي أصبحت
على خارطة أولويات الدول في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها العالم الآن والتي تؤثر
على ذوبان الجليد، مما يهدد بالأعاصير، والفيضانات، وبالأساس، تعرض المياه المتاحة
لنسب عالية من التبخر، مما يهدد بأزمة كبيرة إذا لم يتم الانتباه إليها، بترشيد استهلاك
المياه، وإقامة السدود، ومحطات التحلية، وغيرها من الحلول.
لذلك أولت دولة الكويت أهمية كبيرة للحدث، وأقامت جناحاً مميزاً، افتتحه وزير
الإعلام الكويتي الشيخ صباح الخالد الصباح الذي نقل تقدير سمو أمير البلاد الشيخ صباح
الأحمد الجابر الصباح للحدث ولأهميته، وقدمت الكويت تجربتها في تقطير وتحلية المياه
عبر ريادتها في إنشاء محطات تحلية مياه الخليج، موضحة الاهتمام الذي أولته الدولة لهذا
الغرض منذ بداية الخمسينيات حين أقيمت أول محطة لتقطير المياه في منطقة الأحمدي بطاقة
إنتاجية بلغت 8000 جالون يوميا آنذاك.
ربطت الكويت، في جناحها، بين ما وصلت إليه من تنمية، وحداثة، وبين وعي حكامها
بضرورة توافر المياه وتجربة الدولة في ذلك الصدد، والتي لولاها، لربما واجهت التنمية
صعوبات وتعقيدات عدة.
هذه الفكرة كانت ركيزة رئيس الوزراء الإسباني خوزيه لويس ثاباتيرو، في الكلمة
التي وجهها بهذه المناسبة: «المياه هي الحياة والحضارة»، مضيفا أن «هذا ما يجعلنا نأمل
أن يكون إكسبو ساراجوسا 2008 هو النموذج الحي لثقافة جديدة في التعامل مع استهلاك المياه
تتأسس على الاقتصاد، وعلى التعامل الرشيد مع هذه المادة الحيوية والثمينة، ووسائل جديدة
لإدارة استخدام المياه للتعامل مع المستجدات التي سببتها التغيرات المناخية، التي تعد،
ربما، التحدي العالمي الأكبر في هذا القرن الجديد الذي نحياه».
وهو المعنى ذاته الذي أكد عليه كل من رئيس إقليم أراجون مارشلينو إجلالسيس،
وعمدة سرقسطة خوان ألبرتو بيلوتش جولبي الذي أوضح أن المساحة التي خصصت للمعرض هي
25 هكتارا، مؤكدا أن المعرض يهدف للتركيز على أهمية المياه للتنمية، وعلى الجهود الواجب
تنفيذها من كل شعوب العالم خلال العقد القادم الذي أعلنته الأمم المتحدة عقدا للمياه
والتنمية. وموضحا أن الهدف التالي من المعرض هو إضاءة الدور الذي تلعبه سرقسطة اليوم
في إسبانيا وأوربا، بفضل التطور الاقتصادي الكبير الذي حققته على مدى السنوات الأخيرة،
وجعلها واحدة من المدن التي تسعى للتطور بقوة، عبر شواهد الحداثة والرفاهية التي تشيع
في ربوعها.
رئيس مؤسسة أهالي أراجون في الخارج أوضح في تصريحات للصحافة هنا أن سرقسطة تستهدف
أن تكون البوابة الغربية لأوربا، وأنها مؤهلة الآن لذلك بعد أن أصبح إسهام إقليم أراجون
في الناتج القومي 75%.
التقارير الإعلامية هنا تشير إلى أنه خلال العقد الأخير شهد الاقتصاد في أراجون
ارتفاعا بنسبة 16 في المائة، كما ارتفعت نسب التوظيف بمقدار 50 في المائة (16000 وظيفة
جديدة سنويا)، وهو ما أدى إلى خفض نسبة البطالة بمقدار 5 في المائة وفقا لإحصاءات المعهد
الوطني للإحصاءات في إسبانيا.
إكسبو 2008
أينما سرنا وجدنا ملصقات إكسبو 2008، في الفندق، وعلى الحافلات، وعلى جدران
البنايات، وأمام المحال التجارية، وطبعا في محطات القطار، كما توجد الإيقونة الخاصة
بالمعرض أيضاً، على شكل دمية، في كل مكان. المدينة مزدحمة بالإسبان من المدن الأخرى،
وبالعديد من السياح من زوار المهرجان. أما المدخل المؤدي إلى مكان المعرض فيعج بجماهير
غفيرة، كباراً وشباباً وأطفالاً، من جنسيات عدة، وخصوصا مدن إسبانيا جميعا، ومن سرقسطة
على نحو خاص( سكان سرقسطة ناهز عددهم 700 ألف فرد)، فهناك أجنحة للدول من كل أرجاء
العالم، قدمت كل منها، رسالتها في التنمية وترشيد المياه، وتجاربها الخاصة في هذا الصدد،
لكنها أبرزت، أيضاً، جوانب من حضارتها التي تأسست بفضل المياه. ولهذا فزيارة الوافدين
للمكان ليست مجرد زيارة أو رحلة تعليمية أو إرشادية، بقدر ما تعتبر جولة واسعة في ثقافات
العالم، فنونهم، وموسيقاهم، وأغنياتهم، وطقوسهم، وعاداتهم، وأزيائهم، مما يجعل من المعرض
المقام على مساحة شاسعة تصل إلى 25 هكتارا من الأرض، مركز جذب رهيب لزوار المعرض الذين
يفدون بالآلاف يومياً، من الساعة العاشرة صباحاً، وحتى الثالثة بعد منتصف الليل.
منذ لمحنا المدخل الرئيسي للمعرض، لفتت انتباهنا شواهد عديدة للمحاولات الباهرة
التي بذلتها سرقسطة في إنشاء المساحة المخصصة للمعرض، عبر جسر عملاق مصمم تصميما حداثيا
بواسطة إحدى المصممات الهندسيات التي تعود أصولها للعراق، ينتقل الرواد خلال هذا الجسر
الحداثي من مدخل المعرض، وحتى أرض المعارض، إضافة إلى جسر آخر علوي لنقل الرواد من
محطة القطار القريبة وحتى مدخل آخر من مداخل المعرض، إضافة إلى عدد من الأبنية المميزة
وبينها جناح معرض أراجون الذي صمم من المعدن والزجاج على هيئة سلة فواكه، فبدا حدثاً
جمالياً وبصرياً في أرض المعرض، وكذلك اتسم الجناح الإسباني بخصوصية تصميمه المعماري
الذي بدا كأنه مبنى زجاجي، داخل قصب البوص.
حضور عربي لافت
خصصت إدارة إكسبو ساراجوسا 2008 يوما من كل يوم من أيام المعرض ليكون يوما وطنيا
لدولة من الدول المشاركة، ويكون التركيز فيه على فعاليات وأنشطة فنية خاصة بتلك الدولة،
عقب افتتاح رسمي من قبل رؤساء الوفود لتلك الدول، وبحضور سفراء بلادهم، وبصحبة تمثيل
رسمي من إسبانيا في كل يوم من تلك الأيام الوطنية.
وكان للدول العربية دورها في هذه الاحتفالات، بدأت بقطر في 18 يونيو، الجزائر
في 5 يوليو، الأردن في 15 يوليو، اليمن في 18 يوليو، ثم المغرب وتونس في يومين متتابعين،
ومصر في 23 يوليو، والكويت في 29 يوليو حيث حضر الشيخ صباح الخالد وزير الإعلام الكويتي
الاحتفالية وألقى كلمة بالمناسبة، تليها السعودية. كما خصص يوم 16 أغسطس لدولة الإمارات،
18 أغسطس للسودان، ثم ليبيا وسلطنة عمان.
قدمت كل دولة من الدول العربية العديد من مظاهر ثقافتها وأنشطتها الفنية، التي
عبرت عن تقاليدها، وحضارتها، وعكست خصوصيتها.
وعلى مدار الفترة التي حضرناها لمتابعة المعرض لاحظنا الإقبال الجماهيري المدهش
على الأجنحة العربية كافة، والتي حظيت أغلبيتها بإعجاب الحضور.
الكويت.. جناح مميز
بدأت جولتنا في جناح دولة الكويت، الذي شهد تزاحما كبيرا من الجمهور، بسبب السمعة
الجيدة التي حققها المعرض، الذي وصف من المسئولين الإسبانيين بالتميز، وبينهم المفوض
العام في رئاسة هيئة المعرض الدولي اميليو فرناديز كاستانو، الذي وصفه بأنه «من أفضل
الأجنحة». وكان وكيل وزارة الإعلام الشيخ فيصل المالك قد افتتح الجناح الكويتي في منتصف
شهر يونيو الماضي بحضور عمدة مدينة سرقسطة وسفير الكويت لدى إسبانيا عادل العيار.
وأعرب كاستان إثر جولة له في المعرض عن إعجابه بعملية تحلية المياه، وطرق تأهيل
الصرف الصحي المتبعة في دولة الكويت، التي شاهد نماذج منها في عرض سينمائي يحمل اسم
"قطرة الماء".
فعند الدخول من الجناح تستقبل الزوار «بوم»، أو قارب صيد ضخمة، تتوسط المدخل
المؤدي إلى تكوين مركزي دائري على هيئة قطرة ماء يضم قاعة لعرض الفيلم التسجيلي ثلاثي
الأبعاد عن بناء السفن وعملية تحلية المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي في الكويت.
بينما عرضت على الجدران نماذج مركبة توضح العمليات الفنية لمعالجة وتحلية المياه
في محطات تنقية المياه في الكويت. بالإضافة إلى قاعة صمم لها ديكور من المجلس الشعبي
الكويتي القديم، وعلى الجدران علقت أبيات شعرية للشاعر الكويتي خالد الفرج منها:
أتبقون الكنوز لناهبيها
وتبنون المباني للتداعي
وأمكم الكويت تئن عطشى
ألا فلتنع عقلكم النواعي
وعلى الجدران أيضا وثقت إحدى اللوحات تاريخ بحث الكويت عن المياه، ففي عام
1905 تم حفر أول بئر في منطقة حوَلي، وفي العام 1925 وصلت إلى شاطئ الكويت أول سفينة
نقلت المياه من شط العرب، وفي 1939 أنشئت أول شركة لنقل المياه، وتم بناء ثلاث خزانات
على شاطيء الخليج العربي بسعة 8500 جالون يوميا، وفي 1946 أجرت الكويت أول صفقة لبيع
البترول، مما وفر الاستثمارات اللازمة لتطوير عمليات تقطير المياه وتحليتها، وأخيراً
في العام 1951 شهدت الكويت إنشاء أول محطة تقطير للمياه.
ضم الجناح أيضاً ركناً خصص للأطفال، به مقاعد ومناضد صغيرة، وشاشة عرض تعرض
فيلماً قصيراً كتحية من أطفال الكويت لأطفال إسبانيا، وعلى أرض هذا الركن عكست شاشة
ضوئية بحيرة مائية على أرض هذا الركن بها أسماك صناعية، كلعبة للأطفال. وقد بلغ عدد
زوار الجناح الكويتي نحو 200 ألف زائر خلال فترة المعرض بمعدل 2500 سائح يومياً وفقاً
لما أكده مدير الجناح فارس العنزي.
شاركت العديد من الدول العربية أيضاً بأجنحة قدمت أغلبيتها أفكاراً شبيهة حول
موضوع المياه، فجناح سلطنة عمان، مثلا، قدم فيلما عن الأفلاج في السلطنة ودورها في
تنظيم استخدام المياه في الري وفي عمليات التنمية واستهلاك المواطنين بشكل عام، إضافة
إلى البعد التاريخي للأفلاج والدور الذي لعبته، حين كان المواطنون يقيمون ممرات للفلج
الرئيسي موازية، بحيث لا يعرفها الغزاة الذين كانوا يسممون المياه.
وقدمت مصر جناحاً رسالته أن حضارة مصر مدينة للنيل الذي وفر لها مصادر الحياة
والزراعة منذ آلاف السنوات، لكنه جناح يعد بسيطاً مقارنة بأجنحة أخرى اهتمت كثيراً
بالأفكار الجوهرية حول موضوع المعرض. وقدمت المملكة العربية السعودية في جناحها أيضاً
أفكاراً مماثلة عن ترشيد المياه، وكيفية تخزينها، ودور المياه في تحويل مئات الأفدنة
من الصحراء إلى رقعة خضراء وزراعية.
أما جناح دولة الإمارات العربية المتحدة، فقدم العديد من الأفكار حول الموضوع،
ربطت بين نهضتها الحديثة، وتسارع معدلات التنمية فيها، وتوفير مصادر المياه للاستهلاك
عبر فيلم تسجيلي عرض على شاشات عرض ثلاثية الأبعاد، وبالمثل قدمت الجزائر نموذجا لجناح
بدأ ديكوره من المدخل الذي يشبه كهف رطبته المياه الجوفية.
كذلك قدمت دولة قطر في جناحها تفاصيل من ثقافتها، وبعض الحرف التقليدية لديها،
وهو ما شهدنا أمثلة له في أجنحة كل من المغرب الذي شهد إقبالاً كبيراً، واتسم تصميمه
بالتميز، وحظي بإعجاب الزوار الإسبان بشكل كبير، وتونس التي صممت ديكور الجناح، بالاعتماد
على وحدات من تراث المشربيات والمقاهي الشعبية، واختارت اليمن أن تقدم تراثها الحضاري
والمعماري في صور احتلت واجهة الجناح، وفي الداخل كان الجمهور على موعد مع جوانب من
التراث اليمني.
وتبارت ثقافات العالم في أروقة هذه الأجنحة، وأبرزت جميعا الرسالة التي اجتمع
الجميع عليها، وتميزت أجنحة مثل النمسا التي جسدت بجناحها تصميما للطبيعة الأوربية
التي تعرف بخصوبتها، وسهولها وغاباتها بفضل المياه، وبفضل سنوات من تقاليد الري. كذلك
تبارت أجنحة كل من وروسيا ومنغوليا وألمانيا وفرنسا واليابان وكوريا والصين التي قدمت
كل منها نموذجا خاصا ليس لثقافتها فقط، وإنما عكست مدى تميزها في تصميماتها تقنياً
وتكنولوجياً، وفي ابتكار أحدث الوسائل الإعلامية اللافتة في تقديم كل منها في الرسالة
التي يقدمها الجناح، كما اتسمت أجنحة الأقاليم والمدن الإسبانية بالتميز في الأفكار
التي قدمتها كل منها حول موضوع المياه، وبينها كتالونيا ومدريد وغيرها.
كارلوس ساورا في «إكسبو»!
بين الأجنحة جميعا تميز جناح إقليم أراجون ببنائه الفريد وطوابقه المتعددة،
وتصميمه الخاص بواسطة أربعة من أهم المصممين من أراجون، وعرض فنون المقاطعات المختلفة
للإقليم عبر مجموعة صور فوتوغرافية، تم تثبيتها بطريقة فنية خاصة بين ديكور مستلهم
من الطبيعة والأحراش، وعرض في قاعة شاسعة على اتساع المبنى مقسمة لعدد من الشاشات الضخمة
فيلم تسجيلي مدته 12 دقيقة قام بإخراجه المخرج الإسباني العالمي كارلوس ساورا، المولود
عام 1932 في هوسيكا التابعة لأراجون. وصحب الفيلم موسيقى تصويرية حساسة، وملهمة من
تأليف الموسيقي روكو بانوس، الذي عمل مع ساورا خلال فترة تنفيذ الفيلم.
تضمن الفيلم، الذي كان يعرض بالتتابع وبلا توقف، لقطات من الطبيعة في أراجون،
وبعض التقاليد الاحتفالية لأهالي المنطقة سواء طقوس حفلات من عيد الفصح أو رقصة سرقسطة
الشعبية التقليدية الشهيرة «لا جوتا»، أو «خُتّا»، كما تنطق بالإسبانية، وهي تنويعة
على رقصة الفلامنجو الشهيرة، لكنها تتسم بقوة الخطوات وحماسيتها، ولذلك تحظى بشعبية
كبيرة في إسبانيا. وهي رقصة تقليدية تقام في بعض المناسبات في ميدان أراجون بوسط المدينة.
وخاصة في شهر أكتوبر الذي يوافق العيد القومي للمدينة ومهرجانها الشعبي السنوي.
قدم الفيلم أيضا لقطات للمخرج السينمائي والمسرحي الإسباني لويس بونويل الذي
ولد في قرية كالاندا في أراجون أيضاً، وظهرت لقطات لصور قديمة له بالأبيض والأسود،
فالمعروف أنه كان صديقاً لساورا.
أما الجناح الإسباني فلم يقل تميزا إذ قسم إلى خمس غرف، ضمت أولاها قاعة صممت
لعرض ثلاثي الأبعاد عن المياه باعتبارها أصل الحياة، وباعتبار أن الوسائط المائية كانت
بمنزلة المقرات الحيوية الأولية التي آوت الكائنات المائية قبل أن تنتقل للبر لاحقا،
وانتقل الفيلم بالجمهور في رحلة عبر الزمن منذ أقدم العصور وصولاً إلى اليوم، متسائلاً:
كيف أننا نحن البشر أبناء المياه قد أصبحنا سببا للتصحر والجدب؟!
أما الغرف الأربع الباقية فضمت العديد من النماذج المصنوعة في أشكال فنية متعددة
لتوضيح العلاقة بين المياه والتنمية، وضرورة ترشيد البشرية للمواد الطبيعية والطاقة
المتاحة لها وكفاءة تنظيمها، وفي المجالات كافة. فخصصت كل غرفة لموضوع معين، مثل الموارد
والعمارة، أو البيئة والطاقة، ومدى إمكان توليد الطاقة واستمرارها مادام ترشيد استخدامها
تم بأعلى مستوى من الكفاءة.
الحقيقة أن أي عرض لهذا المعرض الهائل سيكون عاجزاً عن الإلمام به، فهناك مئات
من الأجنحة من كل دول العالم تقريباً، وبالإضافة لموضوع المياه قدمت كل الدول عروضاً
فنية، تأكيداً على أن الثقافة صنعها حسن استخدام الطبيعة، وتأكيداً لدور الثقافة في
حوار الشعوب، وتأكيد وحدة مصيرها، والتفافها حول الرسالة الخاصة بترشيد الموارد، باعتبار
الأرض مكاناً للجميع.
فقد أقيمت مئات العروض الراقصة، والحفلات الموسيقية، والمعارض الفنية، والأفلام
التسجيلية، وتصميمات الأزياء، داخل الأجنحة وخارجها، وتفاعل الجمهور مع الأجواء الفنية
الفريدة لهذا المعرض الاستثنائي، بينما العربات المحمولة أو «التلفريك» تحلق في سماء
المعرض تقل الزائرين بين طرفي المعرض ليشاهدوا موقع الحدث من موقع بانورامي مميز.
سرقسطة المستقبل
هذا المعرض الاستثنائي الذي جمع الجماهير من أرجاء العالم حول معنى واحد، وقدم
رسالة بالغة الأهمية حول مستقبل العالم ووحدته في مواجهة الأزمات عبر الترشيد وكفاءة
استخدام الطبيعة، قدم - في الوقت نفسه - دليلاً عملياً بالغ الأهمية على حيوية مدينة
سرقسطة وتطلعها الطموح للمستقبل كمدينة صناعية، وكعاصمة لإقليم يطمح لإنعاش السياحة
والخدمات، وكقوة اقتصادية أساسية في جسد الاقتصاد الإسباني خصوصاً والأوربي بشكل عام.
لكن كيف يمكن اكتشاف هذا المستقبل عملياً؟ بمعنى ما هو رأي الشباب في مدينتهم؟
كيف يعيشون، وبم يحلمون؟ هذا السؤال كان يشغلني طوال الوقت، فقط كنت أحتاج إلى أن يكون
حظي جيدا لأجد من يجيب عن سؤالي باللغة الإنجليزية، وأظنني وفقت في الحصول على بعض
المؤشرات العامة.
على سبيل المثال فإن ماريا بيلار (أسميت بيلار تبركا باسم القديسة بيلار) التي
كانت بين الفتيات اللائي وظفن لاستقبال جمهور جناح الكويت، من قبل إدارة المعرض، تعمل
في فترة الصيف، بالإضافة إلى دراستها لإدارة الأعمال في جامعة سرقسطة.
تعتقد ماريا أن فرص العمل بعد تخرجها ستكون أفضل مقارنة بالأجيال الأقدم، حيث
كانت الأغلبية من الشباب في سرقسطة يضطرون للبحث عن فرص عمل في مدريد أو برشلونة. ولتحسين
لغتها الإنجليزية قررت ماريا بيلار أن تحصل على منحة لمدة عام لاستكمال تخصصها نفسه
في أيرلندا.
وتقول إن الطلبة من خريجي جامعة سرقسطة كانوا يبحثون في الماضي عن فرص خارج
مدينتهم، لكن المدينة، في الوقت نفسه، ظلت ومازالت مركزا لجذب الطلاب والدارسين من
المدن الإسبانية الأخرى، باستثناء مدريد وبرشلونة، بسبب السمعة الجيدة التي تحظى بها
جامعة سرقسطة أكاديمياً، خاصة في مجال الهندسة، وفي الطب والعلوم، وتعتبر كلية الطب
والعلوم في سرقسطة واحدة من المراكز الأكاديمية المشهود لها في إسبانيا، ولدى الدارسين
باللغة الإسبانية بشكل عام، وتحتل مبنى تاريخياً عتيقاً في وسط المدينة، تعتبر آية
في الجمال المعماري، تحتل واجهته أربعة تماثيل مجسمة لعدد من أهم رموز الطب في العصر
القديم وبينهم أبيقراط.
التقينا فتاة أخرى هي كارمن رويز، التي تدرس الصحافة، بالرغم من أن دراسة الصحافة
ليست في عراقة التخصصات الأخرى، مثلما هو شأن هذا التخصص الدراسي في كل من مدريد أو
برشلونة، لكن هذا التخصص بدأ يشهد إقبالًا في سرقسطة أخيراً. وبسبب رغبتها في التخصص
الإعلامي تتعلم الإنجليزية وتحرص على إتقانها.
أما خوان بارجوس فيدرس علوم الإدارة أيضا، ويقول إن الحياة بشكل عام في سرقسطة
هادئة ويتوافر فيها كل شيء، ولذلك يسعى الخريجون الآن لأن يعيشوا بها إذا أتيحت لهم
الفرصة لذلك، خاصة أن هناك الآن فرصا جديدة للعمل في القطاع السياحي، وفي الخدمات.
هل تستقلون عن العائلة في وقت مبكر مثل الشباب في أوربا؟ سألت الكثير ممن التقيتهم
هنا عن ذلك فأوضحوا جميعاً أن هذا لا يحدث هنا لأسباب اقتصادية بحتة، فإيجارات المساكن
تتسم بالارتفاع مما يجعل استقلال الشباب هنا صعباً، والسائد كما أوضحت ماريا بيلار
أن يظل الشاب أو الشابة في رعاية أهلهم حتى بعد انتهاء الدراسة الجامعية، ولفترة طويلة
لأن متوسط سن الزواج أيضاً ارتفع إلى ما بين 30- 35 عاما للشباب والفتيات على السواء.
ربما لذلك كثيرا ما تتسيد الشوارع الدراجات البخارية التي يقودها شباب أو فتيات
في شوارع ثاراجوثا، فهي اقتصادية، وتسهل حركتهم بديلاً للمواصلات، وللسيارات الخاصة
التي تتسم بارتفاع أسعارها. ولعل هذا ما يتناسب، أيضاً، مع الطابع العام لمدينة مثل
سرقسطة التي توصف بأنها مدينة صناعية بامتياز، ففيها يوجد أحد مراكز تصنيع السيارات
التابعة لشركة جنرال موتورز، وتوظف عدداً كبيراً من التقنيين والمهندسين والموظفين
والعمال من سكان سرقسطة، والآن يتم إنشاء مدينة كاملة تمتليء بمراكز تصنيع السيارات
والخدمات الخاصة بها، إضافة إلى جزء خاص برياضات سباق السيارات، وتسمى مدينة المواتير
الميكانيكية، ومن المتوقع الانتهاء منها في الربع الأول من العام المقبل 2009. كما
يوجد في سرقسطة مصنع كبير لصناعة الأدوات المنزلية الكهربية والإلكترونية. بالإضافة
إلى مصنع آخر لصناعة المرايا.
أما الزراعة، فهي تقتصر على المناطق المحيطة بسرقسطة، وهي مناطق خصبة، وكانت
مركزا للسكان في الماضي، لكنهم نزحوا منها تدريجيا إلى سرقسطة ولم يبق سوى المزارعين
القدامى. فالجيل الجديد هو جيل المدينة، وليس جيل الضواحي أو الريف كما شأن الآباء
والأجداد. لكن سرقسطة تشتهر بزراعة الزيتون لذلك تعد صناعة زيت الزيتون،فيها من الصناعات
الشهيرة، ويعد إنتاجها في هذا المجال من أجود ما ينتج في إسبانيا وأوربا، ولذلك حرص
جناح أراجون على عرض عدد من منتجات ساراجوسا من زيت الزيتون.
كما أن للمدينة شهرة كبيرة في مجالات الإلكترونات والتقنيات الفنية من خلال
أحد معاهدها التقنية المتطورة والمعروف باسم «معهد أراجون للتكنولوجيا» الذي أسهم على
مدى 24 عاما متواصلة في تخريج العديد من الخبراء في تقنيات صناعة السيارات والإلكترونات.
ولعل كل هذه الخبرات، وخاصة الإدارية وخبرات التصميم والهندسة كان لها تجليات
بارزة في تصميم معرض إكسبو2008، من خلال العديد من الأفكار المبتكرة التي اعتمدت على
موضوع المياه، سواء بإقامة قاعات على هيئة قطرة مياه، أو بعض الشلالات الصناعية، أو
القاعات الزجاجية التي تتحرك المياه بداخلها، إضافة إلى بعض النوافير، وكذلك بعض مضخات
المياه التي كانت تضخ رذاذ المياه على الجمهور في النهار بسبب حرارة الجو. الأغلبية
من الشباب الذين التقيناهم هنا أجمعوا على سعادتهم بوجودهم في المدينة، ماريا بيلار
تقول: المدينة هادئة ويتوافر بها كل شيء، وهناك الكثير من أوجه الحياة الثقافية، فهناك
مسرح شهير هو (تياترو برينسبال) تعرض فيه العديد من المسرحيات، وحفلات الموسيقى الكلاسيكية،
وهناك الملاهي الليلية، والسينمات التي تعرض الأفلام الإسبانية والعالمية والعربية
أيضا، لكنها تعرض مدبلجة باللغة الإسبانية، بالإضافة إلى توافر القاعات التي يعرض بها
نجوم الموسيقى من سرقسطة من أمثال: المطربة أمارال، وفريق نيروس ديل سيلينكو، ومطرب
البوب ريكي بونبري، ومطربة الموسيقى الشعبية والبوب كارمن باريس، ومطرب الموسيقى الشعبية
أوكارولان. وهم جميعا لهم شهرة كبيرة في ربوع إسبانيا، ويقيمون حفلات بانتظام.
أخيراً، لا يعرف هؤلاء الشباب الكثير عن الثقافة العربية، ويعتبرونها جزءاً
من التاريخ، لكن ليس لهم بها علاقة، والبعض منهم يتعرف عليها من خلال العلاقات العاطفية
مع شباب من أصول عربية من المهاجرين، خصوصا الجالية المغربية، أو من أبناء الزيجات
المختلطة العربية الإسبانية، وهؤلاء - وبينهم فتاة الاستقبال في الفندق واسمها ديتيس
- فاجأوني بمعرفة دقيقة بأم كلثوم وفيروز، وقدرة على تمييز الاختلافات الفنية بين كل
من الفنانتين العربيتين، بالإضافة إلى معرفتهم ببعض ألوان الموسيقى العربية وبالموسيقى
الأندلسية خصوصاً.
هنا تزيح المدينة ستار التاريخ لتعبر بنا إلى عصرها الأندلسي، ولو على استحياء،
لكنها، بالرغم من ذلك لا تكشف كل شيء. هذه مدينة خصبة بتاريخها الحضاري المنوع، وبالرغم
من هدوئها الظاهر، ففي باطنها صخب يمور، ضجيج من تاريخ، وآثار أقدام العابرين، وطواف
أرواحهم لمن ينصت.
ربما لذلك كان وداعها مؤلماً، هكذا قلت وأنا أتأمل، في محطة القطار، وداعاً
حاراً بين فتاة وشاب بدا كأنه فراق سيطول، إذ أدهشاني ببكائهما المر الذي تخللته كلماتهما
الرقيقة. وكما استقبلتنا سرقسطة بالرومانسية، ودعتنا بأعمق منها، وخطفت من الروح ما
تنتزعه، عادة، مثل هذه المدن الاستثنائية والجميلة.
No comments:
Post a Comment