جزر الفلبين.. موطن أكبر عائلة في العالم..
إبراهيم فرغلي
لو قيض لي أن أكشف عن حلم من أحلامي السرية، لاخترت ذاك الذي
أتخيل فيه نفسي طائرًا أسطوريًا يمتلك القدرة على التحليق فوق بلاد الله، ولو حدثت
المعجزة لاخترت أن أبدأ بتلك الجزر، التي تكون أرض الفلبين، متقلبًا من شاهق لأدنو
وأدنو مقتربًا من تلك الطبيعة الباهرة، سأحوم وأحوم حتى أدنو من العاصمة مانيلا، متأملا
سيارات الـ«جيبني» التي تتناقل في كل مكان كعلامة مميزة لعاصمة من أكثر عواصم آسيا
ازدحامًا، ومنها إلى خليج مانيلا الشهير، وصولاً إلى قلعة سانتياجو في حي إنتراموروس
التاريخي، التي تشهد على بسالة مقاومة أهل الفلبين للاحتلال، ولعلني لو اقتربت أكثر
لاستشعرت دفء الود الذي يتمتع به اهل هذه البلاد، ولأنه عادة لا ينجي حذر من قدر، ولأن
قدر هذه البلاد هو فيض السماء بالمطر، فقد تكون آنذاك تلك إشارتي، وعلامتي، للسقوط
من أعلى حلمي إلى أرض الواقع.. فليكن، فبالرغم من كل تناقضاته، مرحى به من واقع.
على مدى الأيام التي قضيناها في الفلبين، ما بين العاصمة،
مانيلا، أو في كاجايان دي أورو، في جزيرة مانداناو في الجنوب، استولى علي إحساس طاغ،
سرعان ما راح يتأكد لي يوميا، بأن أهل الفلبين هم عائلة كبيرة، تعيش بين حدود بلد واحد.
وهو شعب يستحق - في رأيي - جائزة نوبل لحب الحياة، ما يجعلهم يعرفون أنفسهم بأنهم أسعد
شعوب العالم، من فرط الوداعة وحب التواصل الاجتماعي، حتى لو التقيت، هنا أو هناك شخصًا
ملحًا يريد أن يبيعك هذا أو ذاك، أو صادفت صبيا يسير بجوارك يطلب حسنة، بإلحاح الاعتياد،
أو سواهم، فإنك لا تنفر، بسبب هذه الروح الودود التي تفرض وجودها على الشخصية الفلبينية،
وتجعلك تسمع في اليوم الواحد كلمات مثل سيدي.. أخي.. صديقي.. شكرا.. من فضلك.. عشرات
المرات، كأنها المفتاح السحري الذي تكون به الشخصية الفلبينية. وأما ما قد تسمعه عن
انعدام الأمن ليلا في بعض الأحيان، أو التحذيرات بالتزام الحذر في أثناء الليل خوفا
من السطو، فهذا يندرج في إطار المساويء المحتملة في أي مجتمع تزداد فيه حالات الفقر.
مطر.. مطر!
استقبلتنا مانيلا بالمطر. انهمرت المياه من السماء، لتغسل
مانيلا بكرم وبذخ شديدين، لكن شيئا لم يكن ليؤثر على حركة السير، ولا الزحام الشديد
الذي تعاني منه مانيلا، ولعل الاستثناء الوحيد هو اختفاء رجال المرور والشرطة فجأة،
بحثا عن ساتر يسترهم من المطر الغزير الذي يهطل بلا انقطاع، وهو ما أتاح الفرصة لعدد
من الفتيان والصبية، عراة الصدور أن يتناثروا بين السيارات طلبا لنقود قليلة توفر لهم
طعامهم، مستغلين غياب الشرطة المؤقت.
مدينة شاسعة، وهي واحدة من 16 مدينة أخرى تضمها منطقة العاصمة
المعروفة باسم مترو مانيلا، يتجاور فيها الفقر الشديد والثراء الفاحش جنبًا إلى جنب،
ويبدو من السهل تمييز أحياء الفقراء بمبانيها البسيطة المتوسطة الارتفاع، وألوانها
الكابية، وبساطة بنيانها، والأحياء الأخرى الأكثر ثراء بمبانيها الشاهقة، العصرية،
الأمريكية الطابع، في مدينة حولتها العولمة إلى نسخة أخرى من مدن العالم الجديد، بلا
شخصية خاصة.
وفي الطرق التي تتجاور فيها السيارات حتى تكاد تتلاصق، تتجاور
أيضا حافلات النقل العام الضخمة، مع سيارات الأجرة بأنواعها المختلفة، وطرزها اليابانية
الصنع، جنبا إلى جنب مع سيارات الأجرة الشعبية المعروفة باسم «جيبني»، أشبه بميكروباصات
صغيرة لها واجهة شاحنة أمريكية صغيرة، مزودة بجزء خلفي يركب فيه الركاب في صفين اثنين
متقابلين، ويتلوّن كل منها بألوان صارخة متداخلة. لا يكاد شارع أو طريق يخلو منها،
بسبب قلة تكلفة أجرتها (7 بيزو) بينما تبدأ أجرة سيارات الأجرة العادية من (30 بيزو).
(الألف بيزو تعادل نحو عشرين دولاراً) وهذه السيارات جميعا من مخلفات السيارات الحربية
الأمريكية التي تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية.
مانيلا واحدة من المدن التي تستقبلك بود، وتحثك على أن تندمج
فيها بسرعة، إذ سرعان ما ينتهي الإحساس بالغربة لتحل محله ألفة شديدة مع المكان، خصوصا
أنه من النادر أن تجد فلبينيًا لا يعرف الإنجليزية، مما يجعل التواصل معهم سهلا. بالإضافة
إلى البساطة الشديدة التي تميز الشخصية الفلبينية مهما كانت الطبقة التي تنتمي إليها.
مدينة شاسعة، تضم العديد من الأحياء السكنية والتجارية، بعضها شديد النظافة والفخامة،
يضم عددا من الفيلات السكنية الجميلة، أو المساكن الفخمة المحاطة بحدائق في أحياء يسودها
الهدوء، وتحيط بها الخضرة والأشجار، وبعضها تتراص فيه الفنادق الفخمة، والمولات، أو
المجمعات التجارية الضخمة التي تضم المطاعم والمحلات التجارية العالمية، وإلى جوارها
مجمعات سكنية لا يمكن تصديق أسعار إيجار الشقة فيها من فرط ارتفاع قيمته، ومن الممكن
أن يفصل بين هذه المنطقة وأخرى فقيرة عدة أمتار أو كيلومترات، ويكاد الفقر أن يكون،
مثله مثل الثراء، هنا فاحشا، أو مدقعا بالأدق، وهذه أحد أبرز وجوه التناقضات التي تحتويها
الفلبين، ومانيلا على نحو خاص.
ومن سائقي سيارة الأجرة، الذين يستمعون للموسيقى غالبًا،
يمكنك أن تستمع إلى الشكوى من الفقر، وارتفاع الأسعار، كما يمكن أن تستمع من أحدهم
ما يفيد بأن وجود الجماعات المتطرفة التي يقودها أبو سياف في الجنوب، لا يعود إلا للفقر.
وقد يحكي لك آخر عن إسلام شقيقته لتتزوج من مسلم، دون أن يؤثر ذلك على العلاقة مع العائلة،
بينما يفضل آخرون الصمت والصبر على الزحام الذي لا ينتهي.
خليج مانيلا.. شواهد التاريخ
فور الوصول إلى خليج مانيلا الذي يطل على بحر الصين الجنوبي
تبدأ رحلة التاريخ، فهذا الخليج الشهير الذي يبلغ طوله نحو65كم، وعرضه 55كم، يعد أحد
المنافذ البحرية الأساسية لمانيلا، والتي منها شهدت الفلبين غزوات مستعمريها الثلاثة
المتعاقبين، الإسبان، ثم الأمريكيين، وأخيرًا اليابانيين. فقد شهد الخليج معارك حامية
الوطيس إبّان الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م). وفي هذا الخليج أيضًا استطاع أسطول
أمريكي بقيادة العميد بحري جورج ديوي تحطيم أحد أساطيل إسبانيا البحرية خلال الحرب
الإسبانية الأمريكية التي وقعت عام 1898م.
يمتد هذا الطريق ليضم على ضفته المتاخمة للبحر ممشى ساحليا
جميلا، أما الجهة الأخرى المقابلة للبحر فتضم عددًا من المتنزهات العامة، والساحات
الكبيرة التي غالبًا ما تضم نصبًا تذكارياً عدة لأبرز رموز الفلبين، وبينهم مثلا نصب
يتوسطه تمثال للبطل الفلبيني المسلم راجا سليمان الذي يعد واحدًا من أبرز أبطال المقاومة
الفلبينية ضد الإسبان في أثناء الاحتلال الإسباني للفلبين، وكان معروفا بشجاعته، وشدة
بأسه وضراوة مقاومته هو وأنصاره من المقاتلين، وقد تعرض للقتل في العام 1571 خلال معركة
بانجكوساي.
خوزيه ريزال.. كاتب يحرر أمة
مررنا في الطريق على نصب تمثال البطل القومي والكاتب الدكتور
خوزيه ريزال، في منتزه ريزال Rizal Park، وهو واحد من
أبرز المثقفين الفلبينيين، ولد عام 1861 وله روايتان مهمتان هما Noli
Me Tangere، (لا تمسني) ورواية El
Filibusterismo، وقد أعيدت طباعة الأولى أخيرًا في سلسلة دار
نشر بنجوين البريطانية. وبالصدفة كان يوم زيارتنا لخليج مانيلا 19 يونيو مواكبًا لاحتفالات
المدينة بالذكرى رقم 149 لمولد ريزال، والتي بدت كعيد قومي، حيث احتلت صوره كل مكان.
ويعد ريزال واحدًا من أبرز أصوات المثقفين الفلبينيين الذين
أعلوا أصواتهم ضد المستعمر الإسباني، وطالبوا بالإصلاحات، وحرض الشعب الفلبيني على
الثورة، وهو ما أدى إلى اعتقاله، ثم إعدامه في العام 1896في موقع «حصن سانتاياجو» الذي
كان آخر ما وصلنا إليه في نهاية جولتنا على خليج مانيلا، في حي إنتراموروس، الذي يضم
العديد من الآثار التاريخية التي تعود إلى العصر الإسباني.
ولعل وجودنا في مثل هذا الموقع التاريخي كفيل بأن يعود بنا
قليلا لصفحات التاريخ. فقد كان أول مَن وصل إلى الفلبين في العام 1521، هو الأسطول
البحري الذي قاده فرديناند ماجيلان، أما اسم الفلبين فيعود لعام 1542، واطلقه المستكشف
الإسباني روي لوبيز دي فيللالوبوس حين وصل جزيرتي ليتي وسامار، واختير الاسم نسبة إلى
الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا آنذاك، ثم عمم الاسم لاحقا على بقية الجزر التي تكون
الفلبين وعددها سبعة آلاف جزيرة، ليست كلها مأهولة بالسكان، (الفلبين تقسم إلى ثلاث
جزر رئيسية كبرى هي لوزونLuzon في الشمال وبها تقع مانيلا،
وفيساياس Visayas، في الوسط وتطلق على عدد من الجزر تكون هذا الإقليم
وبها مدن مثل سيبو Cebu، وبوراكاي Boracay،
ثم الجزيرة الثالثة الجنوبية مانداناو Mindanao، وبها مدن مثل
بوهول Bohol، ودافاو Davao)،
كما تم تأسيس مدينة مانيلا عاصمة للمستعمرات الإسبانية في منطقة الإنديز في عام
1571.
قلعة سانتياجو
في موقع «قلعة سانتاياجو» يستقر بناء جداري ضخم مسور بسور
حجري عتيق تم بناؤه في القرن السادس عشر، وقد كان، قبل وصول الاستعمار موقعا للبطل
الفلبيني المسلم راجا سليمان، تحصن فيه، وقاتل المستعمر وقدم نموذجا لبطولات المسلمين
في الفلبين، لكنه قتل، وقام الإسبان بهدم الحصن القديم وبناء قلعة خاصة بهم في الموقع
نفسه في العام 1571 على يد مارتين دي جويتي. وظل هذا الحصن مخصصا لإدارة الحكم الاستعماري
الإسباني في الفلبين على مدى 333 عاما هي عمر الاستعمار الإسباني للفلبين، وفي داخل
القلعة تقع مساحة شاسعة تضم العديد من المنازل الصغيرة وحديقة كبيرة تحيط بها مماشٍ،
وتتوسطها نوافير المياه، التي شيدت عقب وصول المياه الجارية إلى مانيلا في العام
1882.
كما تضم المساحة الداخلية سجنا كان يتم اعتقال المساجين فيه،
وبينهم البطل القومي الفلبيني ريزال الذي اعتقل وأعدم في هذا السجن، الذي يعد اليوم
مزارًا خاصًا يضم رفاته، وأغراضه، إضافة إلى الزنزانة التي اعتُقل بها حتى يوم إعدامه
في ديسمبر عام 1896. وبها يوجد تمثال صغير يجسّد شخصية ريزال جالسًا على أحد الكراسي
كما تخيّله الفنان في أثناء انتظاره للحظة الإعدام.
لكن الثورة استمرت، ونجح الفلبينيون في طرد الإسبان بعد عامين،
وأعلنوا استقلالهم في العام 1899، لكن سرعان ما نشبت حرب بين الفلبين وأمريكا في كوبا
انتهت بسيطرة أمريكا على الفلبين. وفي العام 1935 أعلنت الفلبين تابعة للكومنولث، وظلت
تحاول الحصول على استقلالها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى سيطرة
اليابانيين على الفلبين في 1942، ونشبت حرب ضارية بين الطرفين أسفرت عن مقتل نحو مليون
مناضل ومقاتل فلبيني، فيما عرف باسم «مذبحة مانيلا»، التي مارس فيها الطرف الياباني
الكثير من جرائم الحرب، حتى حصل الفلبينيون على استقلالهم أخيرا في عام 1945.
في أثناء خروجنا من القلعة تتبعت آثار أقدام ريزال التي جسّدها
أهل الفلبين على أرض حصن سانتياجو لكي تكون شاهدا للأجيال المتلاحقة على الخطوات الأخيرة
لريزال في طريقه للإعدام، بثقة من يعرف أن الحرية ثمنها باهظ، ولا يقل عن قيمة الحياة
نفسها.
في جوار منطقة قلعة سانتياجو لاتزال هناك العديد من المباني
التي تعود للعصر الإسباني، وبينها مجمع سان لويز الذي يضم عددا من البيوت التي عاش
بها الإسبان، والتي لا تزال تضم غرف النوم والمعيشة والمطابخ وحجرات الطعام الفخمة
على الطراز الإسباني، معبرة عن ثقافة خاصة عاشت وأثرت على المدينة لأكثر من ثلاثة قرون،
وقد تحولت المنطقة إلى منطقة سياحية يقف على أبوابها حراس يرتدون الزي الحربي الإسباني،
يستقبلون الزوار، ويقدمون المعلومات عن المكان.
المسلمون في الفلبين
بدأنا جولتنا في البحث عن أوضاع المسلمين في الفلبين من الحي
الصيني في مانيلا، وهو حي شعبي، يفيض بالعديد من المتاجر الشعبية التي تبيع كل شيء،
من أدوات المنزل، إلى المشغولات اليدوية، وباعة الاسطوانات المضغوطة «السيديهات»، بالإضافة
إلى عدد من المحال التي تبيع الذهب، والعديد من المطاعم التي يأتي السياح خصيصا إليها.
شارع ضيق طويل تصطف المحال على جانبيه، ويفيض بالبشر، من
باعة جائلين، وزبائن وسائحين، وبشر هائمين على وجوههم من أهل المنطقة، بينما ملامح
الفقر تبرز من كل مكان في الحي الشعبي العتيق.
ملامح الوجوه خليط بين الملامح الفلبينية كما ألفناها، وبين
لمحات من الملامح الصينية، التي يمتد إليها هذا الحي المعروف باسم «مدينة الصين» أو
China Town والذي أنشئ لأول مرة في عام
1594، في منطقة بينوندو في وسط المدينة، قريبًا من نهر باسيج القريب من حي إنتراموروس
التاريخي، وبذلك يعد هذا الحي الصيني الأقدم من نوعه في العالم، وقد أنشأه الصينيون
الذين قدموا للفلبين لأول مرة من جزر فيجي، حتى تكونت جالية كبيرة منهم في المكان الذي
حمل اسمهم لاحقا. وهو ما منح الحي شهرة كبيرة كمركز تجاري، وذلك قبل انتقال المركز
التجاري إلى مدينة ماكاتي أو حي مكاتي Makati في العقود الأخيرة في وسط مانيلا.
من بين العديد من الوجوه كنا نلمح، بين الحين والآخر فتاة
أو سيدة ترتدي الحجاب، وهو ما جعلنا ندرك أن المنطقة تضم المسلمين بشكل ما، وهو ما
دلل عليه وصولنا لمسجد القبة الخضراء، أو المسجد الذهبي، الذي يقع في قلب الحي الصيني،
والذي أنشئ في العام 1976 في عهد الرئيس الفلبيني الأسبق ماركوس في إطار استعداده لاستقبال
الرئيس الليبي معمر القذافي، وهي الزيارة التي ألغيت لاحقا.
بناء المسجد بدا صغيرًا، بقبة لونها أخضر، يجلس في الاستقبال
عدد من الشباب، بينما في باحة المسجد عدد من المصلين، والبعض سكن للنوم. وبدت القبة
في حاجة للترميم، والمكان بشكل عام يحتاج إلى الكثير من العناية، ليس فقط في داخل المساحة
الخاصة بالمسجد، بل وحتى حوله، حيث تنتشر القذارة وتتلاصق المساكن التي يبدو كثير منها
مبنياً بالصفيح حول حرم المسجد.
استهدفنا زيارة المسجد لأننا كنا نعرف أن المسئول الذي يماثل
منصبه منصب وزير الدولة للشئون الإسلامية عن منطقة العاصمة له مكتب متاخم للمسجد، وهو
كيم إدريس، الذي يتولى إدارة المسجد أيضًا. ولأنه لم يكن موجودًا، حددنا موعدًا في
اليوم التالي.
قدم لنا كيم إدريس مقدمة تاريخية عن الفلبين وعن دخول الإسلام
إليها، والذي يقال إنه وصلها في القرن التاسع الميلادي، بينما الرواية الشائعة والمتفق
عليها هي دخول الإسلام إلى الفلبين في القرن الثالث عشر، عن طريق العرب والتجار الذين
زاروا المنطقة آنذاك، وخصوصًا القادمين من إندونيسيا. وهو ما يدعمه أن الكثير من المقاتلين
الذين واجهوا المحتل الإسباني كانوا من المسلمين وبينهم مثلا المناضل الفلبيني المسلم
«لابو لابو» Lapu Lapu الذي قتل ماجلان في إحدى المعارك
في مدينة سيبو، وكذلك راجا سليمان، وسواهما.
دعم المسلمين ومستحقيه
لكن الملاحظة التي لاحظتها أن الحديث الذي يستخدمه كيم به
نوع من المرارة حول أوضاع المسلمين في الفلبين، وبه نوع من الاتهام المبطن بأن الدولة
لا تراعي المسلمين، وأن الدعم المستحق للمؤسسات الدينية والذي يأتي من بعض المتبرعين
من الدول الإسلامية لا يصل لمستحقيه، وأن هناك تمييزا في فرص العمل بين المسلمين وغيرهم،
وكذلك في المناصب الرسمية في الدولة، حيث إن هناك ممثلين في المجالس المحلية، لكن لا
يوجد ممثلون للمسلمين في البرلمان، وهذا بديهي في مجتمع أغلبية أصحاب الأصوات فيه من
المسيحيين، وبالرغم من ذلك، فلا يبدو الموضوع له علاقة بالمسلمين والمسيحيين، بقدر
ما له علاقة بتوافر ممثلين يستحقون الثقة، خصوصا أن كيم يعود ليؤكد أن الكثير من الممثلين
السياسيين في المجالس المحلية من المسلمين ينتخبون من قبل مسلمين ومسيحيين على السواء.
بل وهناك مقاطعات ذات أغلبية مسيحية يصل إلى منصب الحاكم أو المحافظ فيها مسئولون من
المسلمين.
لكن هل فعلا الموضوع هو التفريق بين المسلمين وغير المسلمين؟
لقد قمنا عقب زيارة كيم برحلة إلى إحدى القرى الصغيرة المتاخمة لمانيلا وهي فيربيو
في مدينة كيزان، التي يعيش بها عدد من المسلمين تحت خط الفقر، بيوت من الخشب والصفيح،
ومياه المجاري تزكم الأنوف، ومرافقنا عبد العزيز سالم الذي أسس مدرسة صغيرة ليعلم فيها
الأطفال القرآن الكريم واللغة العربية، أعلى سطح منزله، لم يقم حتى بتسقيف المكان لحمايته
من الأمطار الغزيرة، بدعوى أنهم لا يمتلكون النقود.
ومع ذلك فعندما سألنا إحدى السيدات، من أهل الحي، وهي الحاجة
رسمين سالم عن المشكلات التي تواجهها هنا، قالت إنه لا توجد مشكلات، باستثناء عدم قدرة
الآباء على تعليم أبنائهم بعد المرحلة الإعدادية لأنها تتطلب مصروفات، وبالتالي فغالبا
ما يتسرب الأبناء من التعليم ويمارسون أي مهنة لكي يستطيعوا الزواج. والمدهش إن متوسط
عمر الزواج في حي فقير كهذا هو 18 للفتاة و20 للشاب، وهكذا يبدأ الشباب حياتهم في الفقر
ويعيشون فيه بلا أمل في تجاوزه.
ونحن نناشد الجهات الخيرية الإسلامية أن تقدم الدعم لمثل
هذه المدارس الإسلامية الأهلية، لمساعدتهم في توفير منشآت صالحة للأطفال للدراسة، وتوفير
الكتب الدينية وكتب تعليم اللغة العربية.
وقريبا من هؤلاء يوجد أيضاً العديد من الجاليات المسيحية
في مستوى المعيشة نفسه، لكن الملاحظة أنهم، على الأقل، يحافظون على حد أدنى من النظافة
في أماكن إقامتهم.
وهكذا، فإنني لم أشعر أن موضوع التمييز هو المشكلة بقدر ما
أن هناك مشكلة في قلة الوعي، ليس في هذه القرية فقط، لكن حتى في الحي الصيني، فأغلب
من يعملون في بيع اسطوانات الأفلام وبينها أفلام بورنو خليعة هم من الشباب المسلمين،
وهو ما يحدث في بلد يعتمد على الزراعة كمصدر أساسي للدخل القومي، إضافة إلى تحويلات
العاملين من أبنائه في الخارج .
مع استمرار الحوار مع السيد كيم إدريس، يتبين لنا العديد
من النقاط المهمة، وبينها أن وصول التبرعات من الجهات الإسلامية إلى أفراد من المسلمين
في الفلبين، بشكل مباشر، أدى إلى أن العديد من حالات إنفاق الإعانات تذهب في غير محلها،
وبينها هذا المسجد نفسه الذي أصبح على القائمة السوداء من فرط ما وصل للقائمين عليه
في الماضي، ومن دون أن ينفق المال على ما وجه إليه من أعمال ترميم وتجديد.
لذلك يقول إدريس إن الحكومة هي التي تتوسط الآن في الحصول
على هذه الإعانات أو التبرعات، وتعطي منها لمن توجه إليه بقدر ضئيل للتأكد من جديته،
فإذا لم تثبت الجدية فإنها لا تقوم بإمداده بالباقي.
هناك إذن - وفقا لإدريس - لون من ألوان استمراء جهات عدة
من المسئولين على إدارة منشآت إسلامية في مانيلا أو خارج مانيلا، للحصول على أموال
المتبرعين والجمعيات الخيرية الإسلامية، وهو ما أدى إلى العديد من السلبيات التي يعاني
الكثيرون منها، وخصوصا المسلمين الذين يحصل أصحاب المصالح منهم، وهم مسلمون أيضا، على
تلك التبرعات باسمهم.
لذلك فإن الوعي ورفع مستوى التعليم للمسلمين، في الحقيقة
ينبغي أن يكون هدف لجان مجلس رعاية شئون المسلمين، كما يقول كيم إدريس، الذي أنشأ مدرسة
لتعليم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في المسجد، بها الآن 156 دارسا، يهدف إلى
أن يرتقي بسلوكياتهم، وترشيد سلوكهم ودعمهم بالأخلاق الإسلامية، كما يخطط لإزالة البيوت
المتهالكة حول المسجد، والتي تحولت إلى بؤر للقذارة والفساد، وهو يقوم مع الحكومة بتوفير
مساكن بديلة لهم قبل هدم البيوت. كما أوضح أنه تلقى دعما من دولة الإمارات لإجراء عدد
من التحديثات التي تمت بالفعل في تجهيز مكتب الإدارة وبعض أعمال الترميم.
احتياطات أمنية!
بعد هذا اللقاء وزيارة قرية المسلمين في فيربيو، كان علينا
أن نقرر إذا ما كنا سنذهب إلى الجنوب أم لا؟ كنا تلقينا تحذيرا من سفارة الفلبين لدى
الكويت بالتزام الاحتياطات الأمنية! إذا ما رغبنا في الذهاب إلى الجنوب، وهو نفس ما
سمعناه في مانيلا من سفارة الكويت.
في صباح هذا اليوم كانت الصحف قد احتل عناوينها الرئيسية
خبر مقتل صحفي في دافاو، وأشارت صحيفة Philippines Daily Inquirer إلى أن الصحفي نيستور بيدليدو هو الإعلامي الثالث الذي يتعرض للقتل خلال
خمسة أيام، بعد مقتل مراسل صحفي في مانداناو، ثم مقتل معلق إذاعي بعده بأربع وعشرين
ساعة في جنوب لوزون.
مانداناو.. الجنوب الجميل
لم أخبر زميلي حسين لاري بالأخبار، خشية ألا يوافق على السفر
للجنوب، لكنه كان يعرف من الأخبار كما أخبرني لاحقا. وبعد تطوع عبدالعزيز سالم، الذي
رافقنا في زيارة قرية المسلمين في مانيلا، والذي ينتمي لماراوي، حيث درس الدراسات الإسلامية
بجامعتها، لمرافقتنا، قررنا أن نذهب إلى مدينة كاجايان دي أوروCagayan
De Oro، لأن بها مطارا، ولقربها من ماراوي، على أن نكتفي
ببحث أحوال المسلمين بها، والعودة.
عندما ذهبنا للإفطار في مطعم ماكدونالدز، فوجئنا بأن الحارس
الواقف على الباب يرتدي زيا عسكريا، ولاحقا عندما تابعت أحداث التفجيرات القديمة خلال
التسعينيات لاحظت أنها عادة ما كانت تستهدف أماكن ترتبط بالأمريكيين مثل هذا المطعم.
ويبدو أن تقليد حراسة المنشآت العامة بواسطة أفراد من الجيش لا يزال متبعا، وليس مجرد
أفراد أمن كما هو شأن الحراس في مانيلا.
وبعدما شعرت بأن الأمور طبيعية وبدأت أشعر بالهدوء، لاحظت
أن الجنوب يمتاز بجمال الطبيعة بشكل باهر، حيث تمتد مساحات خضراء شاسعة حولنا، وحيث
تبدو من المستويات المرتفعة العديد من الهضاب الخضراء التي تنحصر بينها وديان وسهول
لا تعدم جميعا ذلك اللون الأخضر الباهر. كما تتكاثف هنا مناطق شاسعة من مزارع المانجو
والموز، والتي تتوافر ثمارها بشكل غير طبيعي في كل مكان، من الحدائق إلى أسواق الفاكهة
وصولا لباعة الفاكهة الصغار في الأسواق الشعبية.
ومثلها مثل أغلب مدن الفلبين تتوزع فيها الديانات وأغلبيتها
من الكاثوليك، وتبلغ نسبة المسلمين فيها نحو 15 في المائة، ومن بين هؤلاء قمنا بزيارة
أحد المساجد وهو مسجد لمبا، في قرية مجاورة هي قرية باراذوبول الذي قام إمامه الشيخ
ياسين إمام بإنشاء مدرسة تابعة للمسجد لتعليم الصبية من المسلمين التعاليم الإسلامية
وتحفيظهم القرآن، بالاستعانة بثلاثة من الشباب الذين درسوا اللغة العربية وحفظوا القرآن
كاملا في مدينة ماراوي، في معهد زيد بن ثابت لتحفيظ القرآن الكريم، وهم حسن علي بواروس،
وعبد التواب عبد الحميد، وأمان الدين علما الذي بهرنا بمدى معرفته باللغة العربية التي
تحدث بها معنا بإجادة تامة.
إمام المسجد الشيخ ياسين هو في الأساس من مدينة ماراوي، وقد
أنشأ المسجد عقب انتقاله لهذه المنطقة في العام 2003، ثم فكر أخيرًا في إنشاء هذه المدرسة،
حيث يستقبل فيها 46 طالبا يتكفل بإقامتهم وإطعامهم بمقابل زهيد، ومن خلال تبرعات بعض
الخيرين، حتى يتمكنوا من حفظ القرآن.
وهو يتمنى أن يجد المهتمون بالخير وبنشر الإسلام طريقهم لهذه
المدرسة لدعمها بتوفير مكان مناسب يتسع للطلبة ولإقامتهم، دعما لتعليمهم الدين الإسلامي
بشكل جيد، وبما يضمن ابتعادهم عن العاطلين ويملأ وقتهم بما ينفع.
مشروع نبيل
أما المفاجأة فكانت على بعد كيلومترات أخرى، حيث زرنا بيتا
تقيم فيه السيدة جهيرة شريف التي تتحدث العربية الفصحى بلكنة مصرية، حيث إنها درست
الشريعة الإسلامية في كلية الشريعة والقانون بجامعة ماراوي على يد عدد من الأساتذة
المصريين.
فقد خصصت هذه السيدة جزءا من بيتها، ليكون دارا للأيتام،
ومدرسة لتعليم اللغتين الإنجليزية والعربية وتحفيظ القرآن للفتيات اليتيمات من ساكنات
الدار، والمدرسة تعرف باسم «مدرسة حلاوة الإيمان» لتحفيظ القرآن الكريم. وتستعين السيدة
جهيرة شريف بعدد من المتطوعين من المدرسين الشباب الذين يأتون من مانيلا لتعليم الفتيات
اللغة الإنجليزية، ويساعدونها في تحفيظ الفتيات القرآن الكريم. وهي تفعل ذلك بجهد ذاتي
خالص، في مشروع يستحق الاحترام والتقدير، والأهم من هذا أنه يستحق الدعم بالفعل، لمدى
نبل هذا المشروع، الذي يبدو مشروعًا خيريًا عن اقتناع كامل كما يتجلى من الطريقة الأمومية
التي تتعامل بها السيدة جهيرة مع هؤلاء الفتيات، خصوصًا أنها تتكفل بهن تمامًا، وتأمل
أن تجد دوما ما يجعلها تستمر في هذا العمل الخيري المهم.
التقينا عقب هذه الجولة مدير مكتب الشئون الإسلامية في منطقة
كاجايان دي أورو، السيد آتي أومبرا جاندامرا، الذي أوضح لنا طبيعة الدور الذي تقوم
به فروع مكتب الشئون الإسلامية في الفلبين، والتي تختص أولا بدعم الحالة الاجتماعية
والاقتصادية للمسلمين، ومحاولة تحسين أوضاعهم المعيشية، إضافة إلى الجانب الخاص بحل
المشكلات الاجتماعية، موضحًا أن المسلمين في الفلبين لا يخضعون في قانون الأحوال المدنية
للقانون العام في البلاد، وإنما يتم تنظيم شئونهم وفقًا لقانون خاص يعود للعام
1883، وهذا القانون يهتم بتنظيم الأحوال المدنية وترتيبات عقود الزواج والطلاق والمواريث
وما شابه، وينبثق عن هذا المكتب - وهو مكتب حكومي يخضع لإشراف الرئاسة في البلاد -
عدد من الاقسام أحدها مختص بالثقافة ونشر الثقافة الإسلامية، والآخر بتنظيم شئون الحج
سنويا، إضافة إلى فرع مختص بالأوقاف.
يوضح لنا السيد جاندامرا، أن جزءاً من مهام المكتب الإشراف
على مدارس تعليم الإسلام وتحفيظ القرآن في المنطقة للتأكد من أن المتعلمين يتلقون صحيح
الدين، كما يتبنى هذا المكتب، بوصفه فرعا لما يعتبر وزارة للشئون الإسلامية في الفلبين،
قضية التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وتأكيد أواصر الحياة المشتركة، ويقول جاند امرا
إنه يستجيب لدعوات الكهنة في الكنائس بين آن وآخر، لكي يحاضر للمسيحيين محاضرات يعرفهم
من خلالها بجوهر الإسلام وتعاليمه، وتأكيد طابعه السمح، وأيضا يتم تعريفهم بما ذكر
عن السيد المسيح في القرآن الكريم، وهو ما يكون صورة إيجابية عن الإسلام، ويتم وفقا
للنظام التعليمي أيضًا تعريف الطلبة جميعا بالأديان كافة، وبينها المسيحية؛ بحيث يكون
كل طرف على فهم ومعرفة بدين الآخر، تأكيدا للتعايش بين المواطنين الفلبينيين كافة مهما
اختلفت دياناتهم، لأن هناك ديانات أخرى غير الإسلام والمسيحية مثل الكونفوشية والبوذية
وغيرهما.
الثقافة في الفلبين
من بين الأسئلة التي كانت تراودني عن الفلبين خلال فترة وجودنا
هو طبيعة الثقافة المتاحة بها، وقد أتيح لنا مشاهدة عرض فولكلوري راقص، في مسرح Amazing
Show الذي يقدم عددا من اللوحات الراقصة التي تستلهم موسيقى
ورقصات من الثقافات الغربية والآسيوية، إضافة إلى الرقصات الشعبية التي تعبر عن بعض
مظاهر الاحتفال في أرجاء الفلبين، وبينها مثلا رقصة خاصة جدًا تحتاج إلى مهارة القفز
بين زانتين من خشب البامبو يمسك بهما شابان وتقوم فتاة بالقفز بين المساحة المفتوحة
بين الزانتين والخروج منها قبل أن ترتطم الزانتان ببعضهما، برشاقة ومع إيقاع راقص انسيابي،
عرفت لاحقا أنها من مظاهر رقصات المسلمين في مانداناو، في حفلات الزفاف، وغير ذلك العديد
من الرقصات التقليدية.
وتكشّف لي لاحقا أن الفلبين لديها ثقافة واسعة في المسرح
والعروض المسرحية، والثقافة البصرية والمرئية عموما، فهو شعب محب للفولكلور والموسيقى،
إضافة للسينما، حيث تعد الفلبين من الدول التي شهدت طفرة كبيرة في السينما في الستينيات
والسبعينيات، قبل أن تتدهور أحوالها لأسباب سياسية عدة لا مجال لها هنا.
التقيت بالسيدة مالو جاكوب Malou Jacob،
نائب مدير اللجنة الوطنية للفنون والآداب، وهي الجهة التي تماثل المجالس العليا للآداب
والفنون في منطقتنا، National Commission for culture and the Arts،
والسيدة جاكوب في الوقت نفسه كاتبة مسرح مرموقة في الفلبين، ومخرجة أفلام وثائقية،
إضافة لكونها أكاديمية تحاضر في جامعة دي لاسال، De La Salle،
ولها العديد من المسرحيات التي عرضت على خشبات المسرح، وحصلت على العديد من الجوائز
المحلية والدولية وسواها. كما تم عرض مسرحيتها «بلد تبحث عن بطل» في اليونان وقام بالتمثيل
فيها فنانون من اليونان في العام 2000.
عندما سألت السيدة جاكوب عن طبيعة نشاط هذه اللجنة قالت إنهم
في صدد إرسال ستة من الكتاب الفلبينيين، خلال شهر أكتوبر الحالي 2010، إلى أحد أبرز
مهرجانات آسيا الأدبية وهو مهرجان «أوبود» الأدبي في بالي بإندونيسيا، حيث يشارك فيه
ناقدان من نقاد الفلبين عن واحد من أشهر شعراء الفلبين وهو فرانسيسكو بالجتاس Balgtas الذي عاش في القرن التاسع عشر، ومن أهم أعماله Florante
and Laura، وهو عمل ملحمي يتناول تعاون المسلمين والمسيحيين،
في الفلبين ويظهر شخصية المسلم كشخص يتحلى بالشهامة والكرم، على استعداد دائم لمساعدة
مواطنه المسيحي، من خلال قصة حب بين مسلم ومسيحية.
كما سيتم مناقشة أعمال الكاتب خوزيه ريزال، وسوف يتم توزيع
نسخ طبعة دار بنجوين البريطانية لأعماله التي صدرت أخيرا.
كما يشهد المهرجان قراءات شعرية لاثنين من أبرز شعراء الفلبين
المعاصرين وهما الشاعرة مارجوري إيفاسكو التي تكتب بالإنجليزية، لكنها بدأت أخيرا في
الكتابة باللغة المحلية، ويشاركها الشاعر ريكاردو دي أونجريا، وهما يشاركان كذلك بأوراق
عن الثقافة في الفلبين، إضافة إلى كاتبين مسرحيين مميزين هما د. بول ديمول، وانطونيو
بيريز.
ثقافة شفاهية خصبة
تقول السيدة جاكوب: «نحن لدينا ثقافة شفاهية خصبة جدا في
الفلبين، ولذلك ينتعش الشعر لدينا بشكل كبير، ولدينا عدد كبير من الشعراء المميزين،
كما أن لدينا تراثا خصبا من الأساطير والملاحم الشعرية القديمة، ولا تنس أن اللغات
المحلية هنا تربو على نحو مائة لغة ولهجة، ولكل منها تراثها الأسطوري والشعري، لذلك
نحن نشجع الجميع على الكتابة بلغته المحلية، بحيث نتمكن من إلحاقها بمناهج التعليم
في مدارسنا لكي يتعرف الأطفال على تراثهم الثقافي. ويمكننا لاحقا ترجمتها للإنجليزية،
فكما هناك شعر الهايكو في اليابان نحن لدينا شعر تاناجا، وداليت، وهي ألوان من المسرح
الغنائي والشعري تميزت بها الفلبين خصوصًا خلال فترة الاحتلال الإسباني. وهناك ملحمتان
شهيرتان هما هدهد Hud Hud، لدى أهل الشمال، ودارنجن Darngen،
في الجنوب».
وأسألها عن الكتّاب البارزين في الرواية الآن فتقول: إن هناك
عدداً كبيراً من الكتاب، ولكن بالنسبة للشباب هناك كاتب يدعى ميجيل سويوكو، Miguel
Sujuco، له رواية حققت شهرة كبيرة هي رواية Ilustrado،
حيث حصلت كمخطوطة على جائزة بالانكا المحلية السنوية، وبعد نشرها حصلت على جائزة آسيا
مان بوكر، وهي النسخة الآسيوية من جائزة بوكر البريطانية.
وتشير جاكوب أن مانيلا تعيش حالة من الانتعاش المسرحي خلال
هذا الموسم حيث شهدت مهرجانا دوليا للرقص، تحت رعاية المركز الثقافي، كما تعرض عرضا
له جماهيرية كبيرة، لأن مخرجه هو سيمن مالايا، إذ إنه مخرج سينمائي شهير، حصل على عدد
من الجوائز بينها جائزة مهرجان كان عن فيلمه Brilliante
Mindoza.
نهضة سينمائية شابة
وبمناسبة السينما توضح جاكوب أن المركز الثقافي - وهذا المكتب
على نحو خاص - يقوم بإرسال الأفلام السينمائية الفلبينية إلى مهرجانات دولية عدة خصوصا
في جنوب إفريقيا والبرازيل، وتشير إلى أن هناك عدداً من السينمائيين البارزين الذين
صنعوا أفلاما جيدة من بينهم مثلا بيبي ديكونو Pepe Diokono،
وإسماعيل برنار، ومايك دي ليون، وبيك جالاجا، وسواهم.
وتقول: «لقد كانت هناك حركة سينمائية جيدة آنذاك، أما اليوم
فهناك حركة شابة جديدة تقوم على التصوير الرقمي Digital،
وهم مبهرون إذ لا يعتمدون لا على الإنتاج الحكومي أو حتى الخاص، بل يعتمدون على جهدهم
الخاص، ونحن أنشأنا قسما جديدا يختص بدعم الأفلام الجديدة، حيث سننتج عددا من الأفلام
الأولى لهؤلاء الشباب، دون أي تدخل منا على أي نحو في طبيعة هذه الأفلام ورؤية أصحابها.
وبشكل عام فالموسيقى والسينما في الفلبين يشهدان وعلى مدى
العقد الأخير حركة وانتعاشا كبيرين، فالموسيقى أيضا لدينا شديدة الثراء، بسبب التنوع
الثقافي الكبير في البلاد، ولذلك ستجد أن الموسيقى في الجنوب مثلا تشبه بعض الموسيقات
المشابهة لثقافات مجاورة لنا مثل الهند وغيرها، بينما هذه تختلف عما ينتج في مانيلا،
وهناك ثورة جديدة في العزف باستخدام أدوات تقليدية مثل الزجاجات، بإدخالها مع الآلات
التقليدية، وغيرها الكثير».
نشاط دولي
التقينا أيضا مع المسئولة عن الأنشطة الدولية في لجنة الثقافة
والفنون ماريسل دياز Maricel Diaz، التي أوضحت
لنا أن الفلبين تقيم وتشارك سنويا في العديد من الفعاليات الدولية الثقافية والفنية،
وبينها مثلا «المهرجان الفلبيني الدولي للفنون»، الذي يعقد في شهر فبراير، والذي بدأ
محليا مركزا على الثقافات المحلية في الفلبين، لكنه تحول للعالمية، حيث يشارك فيه الآن
عدد من الدول الأجنبية والعربية أيضا، مثل الإمارات التي يشارك منها عدد من المخرجين
الشباب من إمارتي الفجيرة، والشارقة.
ثم هناك مهرجان الفنون الدولي الذي يشهد هذا العام الاحتفالات
بذكرى مرور 35 عاما على العلاقات الفلبينية الصينية، حيث يقام بينالي يعرض الفنون الحديثة
من كل من الثقافتين ومن الفلبين يشارك عدد من الفنانين التشكيليين البارزين منهم داني
ديلينا، برندا فاياردو، توني ألفارادو، وسواهم.
وهناك عدد آخر من المهرجانات - تقول دياز- خصوصا المهرجانات
الموسيقية، وتلك الخاصة بفنون الرقص التقليدي، ومهرجان ريدباليا المختص بالموسيقى العالمية.
أما معرض مانيلا الدولي للكتاب فيقام سنويا في شهر سبتمبر
وهو معرض ضخم يضم الكتب التي تصدر في أرجاء العالم.
في الحقيقة أنني التقيت السيدة مالو جاكوب وماريسل دياز في
اليوم الأخير لوجودنا في مانيلا، وأظنه أكثر اللقاءات التي استمتعت بها لفرط ما فتحت
لي من أبواب الثقافة عن الفلبين، هذه البلاد التي نختزلها للأسف في بلادنا بكونها بلدا
تصدر فقط العمالة والخدم.
اختزال في غير محله
وقد أثلج صدري كثيرًا أن هذه الملاحظة كانت الكلمة التي افتتح
بها السيد بدر ناصر الحوطي سفير الكويت لدى الفلبين حواره معي في اللقاء الذي تم في
مكتبه، لافتا الانتباه إلى أن الفلبين دولة شديدة التميز في مجال الثقافة والفنون،
ويقول: «الشائع عن الفلبين أنها تصدر العمالة، لكن الحقيقة أن الفلبين أكبر من كونها
ذلك بكثير، على الرغم من أن مدخولها القومي يعتمد على تحويلات العاملين في الخارج قبل
الزراعة ربما وقبل السياحة أيضا. إذ تصل تقديرات هذا الدخل من الشرق الأوسط فقط بما
يزيد عن تسعة مليارات دولار، لكن من ناحية أخرى ستجد أن الفلبين كدولة سياحية مهضومة
تماما، مقارنة بدول مجاورة استطاعت أن تروج لنفسها سياحيا، فأهل الفلبين من أكثر شعوب
العالم انفتاحا على الآخر، شعب ودود وقادر على التواصل مع الآخر بسبب معرفتهم باللغة
الإنجليزية، على عكس الأمر في الدول المجاورة. وهم أيضا شعب متضامن اجتماعيا بشكل مدهش،
غير منطو على نفسه، منفتح على المعرفة وعلى الثقافات الأخرى، كما أن الفلبين تتمتع
بعدد من أجمل شواطيء العالم على وجه الإطلاق».
ويضيف السفير الكويتي بدر الحوطي: «إن أهل الفلبين شعب مثقف
جدا، والكثير منهم يمثلون بلادهم في أرفع وأرقى المناصب في أوربا وأمريكا، سواء كمهاجرين
أو كمقيمين، ولديهم عدد من الجامعات المرموقة أيضا، إضافة إلى ذلك فهم يتمتعون بسمعة
عالمية في مجال العلاج الطبي والتمريض، وهو ما يجعل الحكومة في الفلبين الآن تفكر في
عمل خطة للترويج للبلاد كمركز للسياحة العلاجية، خصوصا أن التكلفة لمثل هذه المراكز
العلاجية، أي تكلفة العلاج ستكون أقل من مثيلتها في الدول المجاورة، بشهادة وزارة الصحة
الكويتية التي أرسلت لجانا لتقييم مستوى الخدمات العلاجية هنا في الفلبين».
ويشير إلى أن العلاقات بين البلدين وثيقة تحكمها العديد من
الاتفاقيات التجارية والدبلوماسية والثقافية المشتركة، خصوصا أن لهم سفارة قديمة في
الكويت على عكس الكويت التي أسست سفارتها في الفلبين في العام 1996. كما أوضح الحوطي
أن السفارة شجعت عددا من المستثمرين الكويتيين على الاستثمار في مجالات الميكنة الزراعية
والتجارة، والصناعات الغذائية بالإضافة إلى الخدمات اللوجيستية، خصوصا أن هناك دولاً
عربية دخلت مجال الاستثمار في الزراعة وخاصة محصول الأرز عقب الكوارث التي حلت بالعالم
خلال السنوات الأخيرة وتسببت في بعض الأزمات الغذائية في مناطق الكوارث.
مدرسة عربية
تضم مانيلا مدرستين خاصتين دوليتين تتميزان عن غيرهما بتخصصهما
في تدريس اللغة العربية، والتي يفضل أبناء الجالية العربية من الدبلوماسيين وسواهم
إلحاق أبنائهم بإحداهما، وهما فرعان لمدرسة New Horizon،
التي ساهم في إنشائها «جمعية الإصلاح الكويتية»، ويشرف عليها كل من عبد العزيز العثمان،
وعبدالعزيز الجيران، صاحب فكرة إنشاء المدرسة، كما عرفنا من مدير المدرسة السيد إبراهيم
المقدم.
وتخضع المدرسة لنظام تعليم خاص معتمد يستند على المنهج التعليمي
المعتمد في سنغافورة، والمتأسس على نظام تعليم المدارس الخاصة الإسلامية في الولايات
المتحدة، ويضاف إليه منهج لغة عربية حديث وغير تقليدي يماثل طرق تعليم اللغة الإنجليزية
الحديثة، كما أخبرنا كمال مكي آدم مدرس اللغة العربية والدين بالمدرسة.
تبقى إشارة إلى أن ما يحدث في الجنوب ربما يحتاج إلى حلول
حاسمة، خصوصاً أن هذا التشدد يسيء لصورة المسلمين في الفلبين، ولو أن هذا التشدد -
كما يراه البعض - نتيجة طبيعية للفقر وسوء أحوال المعيشة.
عندما سألت إحدى المواطنات العاديات روز أوستوكيو عن انطباعها
عن المسلمين في الفلبين؟ قالت: إنهم يعيشون في جيتو منعزل، وأن ذلك لا يتوافق مع الطابع
الاجتماعي للفلبينيين. وتقول: نحن نتعامل مع بعضنا بعضاً كعائلة كبيرة، وهو ما تجده
في الأزمات، وعندما تحب المرأة، فإنها تعطي نفسها بالكامل لزوجها، خصوصاً أننا كمجتمع
مسيحي ليس لدينا طلاق.
أما جانيس موديلو فتقول: مشكلة الفلبينيين أنهم يضعون المشكلات
على الحكومة، وينتظرون الحل، بينما الحل يكمن في اتحاد الجميع في حل مشكلاتهم، بغض
النظر عن دياناتهم. الجميع يقول إن الفلبين مشكلتها الفساد، وهذا صحيح، لكن الفساد
موجود في كل مكان في العالم، لذلك نتمنى أن يحدث التغيير على يد الرئيس الجديد وبأيدي
الناس أنفسهم بدلاً من أن يظلوا في انتظار التغيير دون أن يغيّروا هم شيئاً.
ودعنا الفلبين قبل خمسة أيام من تسلم السيد نوي نوي أكينو
الرئاسة في الفلبين، تاركين أهلها يسعون ويحلمون بمستقبل أفضل وأجمل، بينما تلوح لنا
أيد وأكف من التقينا هنا، فأشعرونا بأننا كنا نقيم في بلادهم لسنوات ولسنا مجرد عابرين
من فرط دماثتهم وحميميتهم، ولهذا ضبطت نفسي متلبسًا أتمتم طوال إقلاع الطائرة في طريق
عودتنا.. من قلبي سلام للفلبين وأهلها، نعم فالبلاد تكون جميلة بأهلها.
استطلاع نشر في مجلة العربي - الكويت - أكتوبر 2010
No comments:
Post a Comment