"خبرني العندليب" لعمر قناوي

"خبرني العندليب" لعمر قناوي

يوميات الثورة المصرية على إيقاع نبوءات رجال الظل!

إبراهيم فرغلي

اختار الكاتب والصحافي المصري عمر قناوي لكتابه، الصادر عن دار الأدهم، الذي يقدم فيه يوميات الثورة المصرية عنوانا مضللا هو "خبرني العندليب"، ولولا العنوان الفرعي الذي يوضح أنه شهادة عن الثورة المصرية لأحال العنوان القارئ إلى كتاب ذكريات عن عبد الحليم حافظ مثلا، أو ما شابه.

لكن بعد قراءة الكتاب يتبين القارئ أن  هذا العنوان، رغم ضبابيته، جوهري واساسي، لأنه، وربما بالخلاف مع الكثير مما كتب عن الأحداث، يتضمن خطا يستمر في أغلب مواضع الكتاب، ويبدو ضربًا من ضروب التنبؤ بالكثير مما حدث في 25 يناير وما بعدها، والفضل في هذه التنبؤات كانت تعود لشخص ابقى الكاتب على شخصيته سرًا، لطبيعة وضعه وحساسيته، كما سنفهم من السياق لاحقًا، لكن المثير هنا أن ما قاله ذلك الرجل لعمر قناوي بلغ من الدقة تحقق الكثير منه بشكل لافت، وهذا هو العمود الفقري لفكرة الكتاب التي تحاول أن توضح أن مسار الأحداث وإن بدا أنه اشتعل على يد شباب مصر، وباستخدام وسائط التواصل الحديثة لكن كان لهم شريكا فضل أن يكون خفيا، وأن يبقى في الظل ربما لاتفاقه الأساسي مع جموع الشعب المصري في مسألة رفض التوريث، الذي كان يبدو كقدر تعد وتستعد له كافة المؤسسات السياسية  في عهد مبارك ويباركه الإعلام المصري الرسمي آنذاك.

ولهذا يرفض عمر قناوي أن يعتبر الكثيرون أن أحداث الثورة بدأت في 25 يناير قائلا:"الحديث عن ثورة يناير كما هو معلوم ومفهوم لا يمكن أن يبدأ مما حدث في 25يوم  يناير 2011، ولا مما حدث قبلها بشهر في تونس، فنحن إن فعلنا ذلك نكون كمن يتحدث عن مباراة كرة قدم بناء على ما شاهده في شوطها الثاني، فلثورة يناير فصل أول، امتدت أحداثه من العام 2005 وحتى انفجارها. كان الجميع تقريبا يتفق على أن انفجارا سيحدث في مصر حتما لكن كيف. لا أحد يعلم".

يبدأ الكتاب من أحداث حركة "كفاية" في 2005، التي ظهرت وتشكلت في جو محبط، كان الجميع يرون فيه عدم جدوى اي عمل سياسي، بسبب المناخ العام المسيطر على البلد آنذاك، وهو ما جعل الكاتب يتردد في الانضمام إلى اعتصامات كفاية في بداياتها، لكنه انضم إلى إحدى الوقفات الاحتجاجية في وقت لاحق، وتم اعتقال الموجودين وخصوصا الصحفيين، ثم تم الإفراج عنهم بعد فترة قصيرة بسبب تدخل نقابة الصحفيين. وفي هذه اللقطة ومن خلال تعامل رجال الأمن، يلتقط الكاتب عددا من الملاحظات من بينها مثلا اختلاف أداء رجال الأمن الوطني مع المعتقلين، بين التشدد الحاسم في ضرورة عدم النزول إلى الشارع، وبين محاولة إقناع الشباب في هدوء أنه لا جدوى من الالتفاف حول شخصيات مشكوك في نزاهتها، كما أشار أحد الضباط ، وفق ما يقول الكاتب، إلى أيمن نور، الذي التف حوله الشباب في تلك الفترة.

يرصد الكتاب ملامح عامة لتلك الفترة، التي كان خلالها عمر قناوي، إضافة لعمله في الصحافة مسؤولا للتسويق في مكتبة صغيرة في وسط البلد، كانت أقرب لمركز تلاقي ومرور العديد من الصحفيين والكتاب والفنانين والنشطاء السياسيين، أساتذة الجامعات، وبعض رموز المجتمع، مما أتاح للكاتب أن تكون لديه دائما فرصة للتعرف على ما يدور في المجتمع في دوائر مختلفة.

ومن بين هؤلاء، وبالصدفة البحتة، التقى الكاتب بشخص جاء لزيارة المكتبة، وأعجبته أجواءها البسيطة وتواجد مثقفي الجيل الجديد في المكان باستمرار، ودار بينهما حوار عن التوريث والبلد والسياسة، ثم توثقت الصلة بينهما وراحا يلتقيان في مقاهي عدة لشرب الشاي والحديث، لنعرف لاحقا أن هذا الشخص هو "العندليب"،  أو صاحب النبوءات، التي تحقق الكثير منها بالفعل، ليس فقط في انفجار يوم 25 يناير، بل وفي الكثير مما حدث لاحقا، وابرزها توقيت تنحي مبارك، ثم أنباء اعتقالات رجال الحزب الوطني بل واعتقال حسني مبارك بتهم قتل المتظاهرين والفساد، ثم اعتقال ولديه علاء وجمال. التي لم يكن أحد يصدق أنها ستحدث آنذاك رغم سقوط مبارك.

كانت أولى الملاحظات التي لفتت انتباه عمر لذلك الصديق، أنه في خلال إحدى التظاهرات التي شهدتها تلك الفترة بين عامي 2005 و2006، أكد الرجل لعمر أن هتافهم "واحد اتنين – الجيش المصري فين؟"، وجد صدى كبيرا لدى أحد القيادات الكبيرة في الجيش، جعلته يتدخل لمنع بيع أحد البنوك، في اجتماع لمجلس الوزراء قائلا ما معناه "أنكم بعتم البلد بما فيه الكفاية"، ويضيف عمر أن هذه الرواية أكدها لاحقا اللواء محمد العصار ، عضو المجلس العسكري عقب الإطاحة بمبارك، موضحا ان القيادة المذكورة تمثلت في شخص المشير طنطاوي، وزير الدفاع آنذاك.

في عام 2008 يقول له الصديق أن مصر ستشهد حدثا ضخما "عمر، فيه حاجة كبيرة بتترتب لهم لضرب مشروع التوريث، إنت واصحابك جزء منها، أيمن نور واللي معاه جزء منها، إبراهيم عيسى وجمهوره جزء منها، والإخوان هيكونوا جزء منها، وهيشارك فيها الآلاف، وفيه ناس معاك يمكن تكونوا بتتقابلوا دلوقت وبتسلموا على بعض في الشارع، ولا انت عارف ولا هما عارفين أنكم كلكم هتشاركوا في الحاجة الكبيرة دي"!

يقول الكاتب أن هذه الجملة التي قيلت له رغم غرابتها لم يأخذها  مأخذ الجد، إلا بعد أحداث مقتل سوزان تميم، حين لاحظ أن معلومات صديقه عن الموضوع دائما ما تسبق الإعلام، حيث بدأ بعدها على حد وصفه "يركز معه"، إذ بدا له ذلك الشخص (لا ينطق عن الهوى). خصوصا أيضا بعد وقائع حرائق القاهرة في العام نفسه. 

يقول قناوي أن اختلافه مع الكثير من الأصدقاء والنشطاء، جاء دوما بسبب المعلومات التي كان يمتلكها قبلهم عن الأحداث، قبل أن يوضح أخيرًا أن الصديق الذي تباعدت لقاءاتهم منذ عام 2009، لم يظهر إلا في يوم 26 يناير حين تذكّره عمر واتصل به، فهنأه الصديق بالأحداث مؤكدا أنه كان ينتظر اتصاله مضيفا أن "الجيش معاكم، قول يا رب وتكمل على خير إنشاء الله". ثم بدأت دورة جديدة من المعلومات التي تتعلق بالكثير من وقائع الثورة والأحداث الدامية التي ارتبطت بها، وكان لعمر، بفضل ذلك الصديق، فرصة معرفة مسيرة  الكثير من تفاصيلها، والتي يذكر وقائعها بالترتيب ودوره فيها، وأسماء الناشطين والأصدقاء الذين كانوا جزءا من الحراك مثل محمد خير ويحي وجدي وهاني درويش، رحمه الله، وباسل رمسيس ورشا عزب وسواهم من الأسماء التي تتوالى وفق الأحداث.

وهذا بشكل عام جانبا توثيقيا مهما في الكتاب، لأنه يتضمن العديد من الوقائع خصوصا خلال الأيام التي سبقت التنحي، إضافة لملاحظاته على الميدان في تلك الفترة، وطبيعة المشاركين في الأحداث، وظهور الإخوان، والمنصات، ثم ظهور رموزهم تدريجيا، إلى آخر تلك التفاصيل التي تأتي من شاهد عيان.

وبعد التنحي يلتقي قناوي بالصديق الذي يوضح هويته أخيرا، وكما هو متوقع ينتمي لأحد المراكز الحساسة في الدولة، موضحا أن هناك كيانا إداريا يعرف يعرف باسم "القلب الصلب للدولة" المسؤول عن الحفاظ على الدولة من الأخطار المتوقعة، والتي كان هذا الكيان قد تكهن بها بعد سياسات حكومة أحمدنظيف، وأن جانبا من مهام هذا الكيان الحفاظ ايضا على مدنية الدولة. لكن العلاقة بين الكاتب والصديق، والتي نفهم من خلالها صدمة الجيش من انقلاب الشباب عليهم في الفترة الانتقالية، سوف تنقطع في وقت لاحق بسبب خلاف يخص انتخابات مرسي وشفيق.

من أبرز سمات هذا الكتاب أنه يتدفق بالسرد بشكل بسيط ومشوق، لا يتخلى عن رشاقته مهما كانت دموية الأحداث وصعوبتها، ويظهر فيه الكاتب وسط الأحداث كشبح، بمعنى أنه لا يدّعي بطولة من أي نوع، ولا يتكلف أو يقحم نفسه في أي أحداث لم يشترك فيها، ويتحرى الدقة والأمانة في الوقائع والأسماء.  ويوضح أنه لا يحب السياسة، ويرى أن تكوينه النفسي لا يصلح لها، ولا يزيد ما يرغبه في الحياة عن "عود وكتاب وراديو وفنجان القهوة".

كما يخلو السرد من أي حس بالنرجسية، وبالعكس فالكتاب يتضمن لونا من النقد الذاتي لأخطاء الشباب في الاختلافات، بعد غياب الكثير من الشباب الذين وجدوا في الأحداث الأولى للثورة، كما يرصد دخول وجوه غريبة في الأحداث خلال الفترة الانتقالية، ويصل إلى شهادة تاريخية يؤكد فيها أنه كان دائما على استعداد لأن يبرر الكثير للمجلس العسكري، رغم أخطاءه الفادحة "باختصار لأنهم شركاؤنا فيما حدث ....هل اتضحت الصورة الآن؟".