في ذكرى رحيل العميد الأربعين
قضية كرم صابر سبة في جبين الثقافة المصرية
إبراهيم فرغلي
ماذا لو أن العميد حي يعيش بيننا اليوم؟ ما الذي كان يمكن أن يراه طه
حسين ببصيرته في ظلام أيامنا العربية هذه؟ هل كان سيقبل أن يسمع عن منع كتابه "الأيام"
من التدريس في المدارس المصرية؟ هو الذى نادى بأن يكون التعليم حقا من حقوق البشر
كما الماء والهواء؟ أم لعله كان سيخوض
قتالا عنيفا، تمرس عليه جيدا في بداية القرن ضد منع الفكر الحر، بل لعله كان ليقود
حملة شرسة على المدعين ممن ينصبون أنفسهم ولاة على عقولنا وضمائرنا؟
ثم هل كان سيقبل بالصمت الذي التزمه الكثير من المثقفين حول قضية الكاتب
كرم صابر الذي يواجه حكما بالسجن لمدة خمسة أعوام بتهمة ازدراء الأديان، بسبب
مجموعته القصصية "أين الله"؟
تأتي هذه الأسئلة الافتراضية في الحقيقة، انطلاقا من أن هذا الأسبوع
يواكب الذكرى الأربعين لرحيل طه حسين، ويشهد في الوقت نفسه أياما معدودة قبل يوم
12 نوفمبر المحدد لجلسة الحكم التي سينظر فيها القضاء في قضية كرم صابر، التي تعيد
للأذهان قضايا الحسبة التي طالما شهدنا مثلها في عهد الديكتاتور حسني مبارك، والتي
يبدو اليوم عودتها في مناخ ثوري يطالب بالحرية أمرا مريبا وغريبا، يؤكد أن الثورة
التي بدأت في 25 يناير، لم تحقق شيئا من أحلام الثوار الذي خرجوا للشوارع بالملايين من أجل العدل
والحرية، بعد.
إن الحقيقة التي لا يفهمها أعداء
الحرية، والظلاميون، وأعضاء محاكم تفتيش العصر التي تطل علينا اليوم بوجهها القبيح
مرة أخرى، أن الأدب، كما قال طه حسين يوما، لا قيمة له إذا فقد الحرية.
ولهذا فإن معركة حرية التعبير ليست قضية عابرة تخص هذا الكتاب أو ذاك، أو
تتعلق بهذا الكاتب أو غيره، بل هي معركة مصير، فالأدب، كل الأدب، لا يمكن له أن
ينتمي لهويته إذا فقد هذا الجذر الرئيس الذي ينبني عليه وهو حرية التعبير.
كانت محكمة ببا الجزئية في مصر، في بني سويف، قضت بتأجيل نظر قضية الكاتب
كرم صابر، عضو اتحاد الكتاب، والمحكوم عليه بـ5 سنوات سجنا غيابيا بتهمة ازدراء الأديان
لنشره مجموعة أدبية صدرت منذ أكثر من عامين بعنوان «أين الله»، إلى 12 نوفمبر، وإخلاء
سبيله، وطلب محامي المتهم شهادة رسمية من الأزهر
حول المجموعة القصصية «أين الله» خاصة أن الشهادة التي اعتمدت عليها المحكمة
وقدمها الخصوم «غير رسمية».
واتهم المحامي حمدي عبدالعزيز الكاتب في بلاغ قدمه إلى نيابات بني سويف بازدراء
الأديان، وطالب بسرعة مصادرة الإصدار وإخطار مشيخة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية وهيئة
كبار العلماء واصفاً إياه بأنه «يتعدى على الذات الإلهية والتهكم على الشريعة الإسلامية
وفرائضها».
وما يلفت الانتباه هنا، وفق الأوراق التي نشرت حول القضية أن النيابة استفتت
جهتين دينيتين هما الأزهر والكنيسة حول رأيهما في النص الأدبي. وهي مفارقة لافتة، إذ
أننا لم نعرف أن الأدب موضوعا لاختصاص أي من المؤسستين الدينيتين، فليس النص موضوع
النظر هنا، كتابا في الفقه أو في تاريخ الكنيسة المصرية لكي يمكن أن تكون مثل هذه الإحالة
مبررة. بل هو مجموعة قصصية أدبية، لا يمكن أن يتم نقدها أو فحص قيمتها الفنية والأدبية
والموضوعية إلا من جهة الاختصاص الفني والأدبي من النقاد. ويكون الحكم في مدى فنيتها
هو المعيار الأول والأخير، كما شأن كل منتجات الفنون الأدبية بأنواعها المختلفة.
وكما كل نص أدبي أظن أن نصوص هذه المجموعة يمكن الاختلاف حول مدى فنيتها،
ومدى خضوعها لمعايير حداثة النص القصصي، وقد تجد من يراها قصصا جيدة محكمة، أو قد يرى
فيها البعض إخلالا بشروط الحداثة الأدبية، أو حتى ببعض القيم السردية في فن القص. كما
قد يختلف عن مدى مطابقة مفاهيم الشرط الزمني المتعارف عليه للنص القصصي، من انحيازه
لزمن الحدث نفسه، أو غير ذلك، وهذا كله يظل موضع نقاش وجدل فنيين أو أدبيين في المقام
الأول، وليس محله إطلاقا مؤسسات دينية أيا كانت.
كما أن ما قد يراه قارئ ما غير معتاد على قراءة الأدب، أو غير مختص في النقد
الأدبي أو الفني، خروجا عن المألوف، هو في الحقيقة يأتي على لسان شخصيات العمل وليس
على لسان المؤلف. وفي تاريخ الفن الأدبي كله لم يعرف أن الشخصيات تعبر عن آراء المؤلف،
لأن شخصيات العمل تجسد نماذج شبيهة من الواقع، تضيف إليها أو تقتطع منها. لكن ما
يدور في ذهن الشخصيات في الحقيقة ليس من فراغ، بل هو من صميم ما يدور في أذهان
البشر في الحياة.
بشكل شخصي فإنني على سبيل المثال لا أتفق مع المنهج الزمني لبعض القصص الذي
استخدمه الكاتب، بسرد وقائع زمنية طويلة، في مساحة سردية قصيرة جدا، وهو ما يعرض توازن
النصوص للاختلال، وربما لبعض الافتعال والمبالغة. كما أنه يؤدي لتضخيم الصراع الدرامي
على حساب المشهد المركزي الذي تتكئ عليه القصة.
ربما أتوقف أيضا أمام بعض الفقرات السردية التي تعاني من المباشرة بسرد
أفكار بعض الشخصيات كأنها خطاب مباشر أكثر من كونها مونولوجات ذهنية داخلية.
كما قد توقفني العديد من الصياغات التي تخل بجماليات اللغة، في عدد من
القصص، أظنها كانت تحتاج من الكاتب المزيد من الإحكام، خصوصا وأن فن القص، هو فن
يقوم على الاقتصاد والإحكام.
وفيما عدا ذلك فإن قصص المجموعة التي تدور أغلبها في الريف، تدور وقائعها
على تماس ما بين الحلم والأسطورة، وتعبر بامتياز عن أرواح بشرية مختلفة، لا تعدم
خفة الظل، ولا الإنسانية، تعيش بفطرتها وتسأل أسئلتها الوجودية بطريقتها، ولا أظن
السؤال الرئيس هنا هو أين الله؟ بل هي أسئلة عديدة عن العدل، وعن أسباب الظلم؟ وعن
الرحمة. وهي أيضا أسئلة عن المساواة، وعن حق المرأة في مجتمعات تستقوي على تلك
الحقوق باسم الشرع والدين. وعن الكيفية التي تضرب بها السلطة، السياسية والدينية،
عرض الحائط بكل قيم العدل باسم الدين.
إن المثقفين الذين نسوا جميعا ذكرى العميد الأربعين، والذين لم يحرضوا
القراء على إعادة قراءة كتب العميد تعبيرا عن قناعتهم بأهمية تراث التنوير الذي
تركه، ولم يلعبوا دورا مؤثرا في تعديل مسيرة الثورة، مطالبون جميعا أن يقفوا جميعا
وقفة رجل واحد، وقد فعلوها مسبقا في أكثر من قضية، ليناصروا حرية التعبير، وأن
يتذكروا ويتأكدوا أنه برغم التخلف والجهل ومحاكم التفتيش التي نشهدها اليوم، فإننا
شهدنا أيضا لحظة استثنائية لا ينبغي لنا أن ننساها في بعض المدارس هذا العام تمثلت
في مظاهرات طلابية حشدها الطلاب رفضا لمنع تدريسهم كتاب الأيام لطه حسين. وفي هذا
ما يؤكد أن طه حسين حقا لم يمت، وأن المستقبل سيصنعه هؤلاء الأحرار وبهم ستنتصر
حرية الفكر والتعبير.
No comments:
Post a Comment