"العطر".. دراما الرائحة!
إبراهيم فرغلي
ليس من السهل لمن قرأ رواية العطر للكاتب الألماني "باتريك زوسكند" أن يتخيل إمكانية تحويلها إلى صورة سينمائية، ليس فقط لأن النص يحقق أحد شروط الحداثة التي تقتضي صعوبة تحويلها لعمل سينمائي، كما يشير الكاتب ميلان كونديرا، وأنما لأن الروائح تلعب الدور الأساسي، وتمثل جوهر النص. ومع ذلك فقد استطاع المخرج الألماني "توم تيكفر" أن يتحمل عبء هذه المهمة فهل استطاع أن يصيب النجاح؟
للإجابة على السؤال يقتضي الأمر أن نبدأ من النهاية، أي من الأثر الذي تحدثه قراءة النص، ثم قرينه الذي ينتج عن مشاهدة الفيلم السينمائي. فعندما تنتهي من الرواية ستكون قد استنفذت كل خبراتك الخاصة بحاسة الشم، واستعدت، وربما استنشقت، عشرات من الروائح وأريج العطور، وعبق الأجساد. لكنك ستقف عاجزا أمام الكثير من الروائح التي لا تختزن ذاكرتك الشمية لها أي مدلول. وهذا على وجه التحديد أحد المناطق التي تمثل جوهر العمل الروائي، وهي في نفس الوقت منطقة خلافية بين الفيلم والرواية.
فبطل الرواية "جون باتيست جرونوي"-الذي ولد بشكل درامي أسفل عربة سمك في قلب سوق باريس المعبأ بكل الروائح البشعة- يمتلك طاقة غير عادية على شم الروائح، بكل أنواعها، وتصنيف محتوى ما يشمه، وهو ما جعله يبدو قادرا على التنبؤ، أو قادرا على رؤية ما لا يراه غيره. لكنه في الواقع وجد في المرادفات اللغوية المتاحة لتوصيف ما يشمه فقرا شديدا، وعجزا عن التعبير والوصف الدقيق، ما جعله يشك بمعنى اللغة؛ فلم يستسهل على نفسه استخدامها إلا عندما كان يضطر للتواصل مع الآخرين. إذن ففي هذا ما يبرر قلة كلامه في النص، واستكانته إلى عالمه الباطني الذي تلعب الروائح فيه دور البطولة. أما في الفيلم فقد بدا صمته، وقد أدى الممثل "بن ويشو" الدور ببراعة، يبدو كأنه جزء من غرابة أطواره، وربما بلاهته، بينما نعرف من النص أنه لم يكن كذلك على الإطلاق، بالعكس فهو بالغ الذكاء، وما يعرفه مقارنة للبشر خارق، ويفوق إمكاناتهم جميعا. وبالتالي فصمته ليس إلا استغراقه في عالمه الذاتي الذي يتفجر بالمسميات والروائح وبالعطر الملكي الذي سيعيد له أهميته أمام الناس، والذي يستبدل به أي معرفة للضمير، أو القيم أو القداسة. هنا كان الحل الذي قدمه المخرج ممثلا في اختيار الممثل الذي بدا وسيما بعض الشيء والذكاء يطل من عينيه، وأعتقد أن هذا هو الحل الذى حاول به المخرج التغلب على شرح كل هذا باللغة والاكتفاء بطّلة الممثل وأدائه وتعبيرات وجهه. وأظنه نجح في ذلك
بامتياز.
أما الأثر الذي يخرج به مشاهد الفيلم، فهو فكرة دراما الرائحة، من خلال تركيز الكادرات على الفتى وهو يستنشق عبق رائحة ما، وعلى الموسيقى التصويرية التي تصاحب صورا تكشف قدراته على شم ما لا يمكن لغيره أن يشمه مثل روائح الدود في الخضروات، أو البكتيريا في أمعاء فأر صغير، وما شابهها, وعلى اللقطات المصاحبة لاستنشاقه عبق الفتيات اللائي يقوم بقتلهن للحصول ، من بشرتهن، على الرائحة التي يمكنها أن تجذب إليه العالم، وتجعله في نظر من يشم شذاها بطلا أو ملاكا.
ومن المؤكد أن الفيلم لم يخلص للتفاصيل السيكلوجية والوصفية، بنفس إخلاص النص المكتوب لهذه التفاصيل، لكنه، أخلص للجزء الثاني من الرواية الذي يتضمن نهايتين: الأولى يسكب فيها جرونوي العطر، الذي استخلصه من عبق الفتيات المراهقات الفاتنات، على رأسه، فيتحول من مجرم يقف على منصة المقصلة عقابا على جرائم القتل التي ارتكبها، إلى ملاك يدخل البشر تحت تأثيره في حالة من النشوة الروحية والجسدية التي يفقدون بتأثيرها وعيهم، حتى يكتشفون عريهم في الصباح. أما النهاية التالية فيجسدها مشهد النهاية الذي يذهب فيه إلى مكان مولده في سوق السمك، ليسكب مرة أخرى العطر ويترك نفسه لهجوم البشر وتكالبهم عليه حتى ينتهون من تناوله كأنهم أصبحوا من آكلي لحوم البشر.
في سبيل التركيز على النهايتين، لم يتقيد المخرج ببعض التفاصيل مثل مقتل مرضعته الأولى في الفيلم فور أن تركته، بينما هي في النص تعيش حتى التسعين ثم تموت نفس الموتة التي كرست حياتها كلها لكي تتجنبها. كما أن النص الروائي يفسر أن جرونوي لا يمتلك رائحة منذ طفولته، وهو ما يسبب الدهشة والارتياب لكل من تعاملوا معه. بينما في الفيلم لا نفهم هذه الخصوصية، إلا بعد أن يكبر، ويكتشف بنفسه هذه الملاحظة. كما أن بالديني صانع العطور لم يلتق، في الفيلم ، بنظيره الذي كان قد سحب البساط من تحت أقدامه لفترة، وكان للمثلين بشكل عام تقوية للشخصيات التي ليس لها نفس القوة في الرواية لصالح شخصية البطل جرونوي.
مع ذلك فالخط السردي في كلا النصين المكتوب والمرئي يكاد أن يتطابق في الحالتين، إذ أن التفاصيل التي تجنبها الفيلم في أغلبها لم تؤثر على سير الأحداث، خاصة فيما يتعلق بمواصفات الشخصيات، والأماكن، من الأسواق، إلى المنازل ومعامل العطور والمدابغ وقصور النبلاء، إذ بدا السيناريو - الذي شارك فيه المخرج مع الكاتب الألماني زوسكند- أمينا في تصوير تلك الأماكن كما كانت تبدو عليه في القرن الثامن عشر، وهو زمن الرواية والفيلم.بالإضافة للإضاءة التي لعبت دورا أساسيا في تأكيد البعد الزمني من جهة، وشاركت في إنجاح محاولة المخرج لعمل تأثير درامي للروائح. وبذلك يكون المخرج قد نجح في تحقيق ما اعتبره الكثير من المخرجين مستحيلا.
ساعد في هذا النجاح الأداء العبقري للممثل الشاب(بن ويشو)، إضافة لأداء النجم (داستين هوفمان) الذي لعب دور صانع العطور الإيطالي بالديني، والذي أسهمت خبرة جرونوي في صعوده إلى قمة صناعة العطور في فرنسا. إضافة لدورأبوالفتاة الأرستقراطية التي كانت واحدة من ضحايا جرونوي( لعب الدور آلان ريكمان، ولعبت دور الابنة راشل هارد وود).
بغض النظر عن نجاح الفيلم وقدرته على إحداث نفس تأثير الرواية يكفي النصين: الروائي والبصري قدرتهما على إدهاشنا، وفضح محدودية قدراتنا اللغوية في التعبير عن حواسنا، ودفعنا إلى مناطق غير مطروقة، تتجاوز الحواس التي نعرفها إلى ما بعدها. وتنقلنا بين تناقضات الخير والشر، قربا وابتعادا ، وتثير الأسئلة التي عادة ما تحتاج لتلق تال؛ إما بإعادة القراءة، أو إعادة المشاهدة، وفي أعمال سباقة كهذه يكون في الإعادة أكثر من إفادة.
No comments:
Post a Comment