استطلاع جراتس- ابريل
2013
عاصمة أرض التاج قديما..
جراتس..مدينة لا تتسع سوى
للثقافة والعلم والحب!
بقلم وعدسة : إبراهيم
فرغلي
"أجل،
أجل، جراتس، أعرف المدينة معرفة جيدة. لا يحدث بها الكثير حاليا. لكن فيما مضى! هل
تعرف أن شكسبير أخرج عرض " تاجر البندقية" في جراتس؟" هذه مقولة ينقلها الكاتب النمساوي الراحل فريتز أورلاندو Fritz von Herzmanovsky-Orlando، في إحدى كتاباته عن مدينة جراتس، المدينة الثانية في النمسا بعد
العاصمة فيينا، وعاصمة إقليم إستريا Styria وهو ما تشير إليه بالفعل أدبيات عدة تقول أن العرض
الأول بالالمانية لهذه المسرحية قد عرض في قصر الأرشيدوق فرديناند في العام 1608
ميلادي.
تكشف
هذه المقولة العابرة جانباً أساسياً من جوهر هذه المدينة ذات الخصوصية، التي يمكن
اعتبارها مدينة ثقافية بامتياز، رغم أن شهرتها لا تقارن بشهرة العاصمة فيينا. لكن
كل خطوة خطوتُها في هذه المدينة كانت تمنحني هذا الإحساس، بداية من أمام مبنى
جامعة جراتس، التي احتفلت قبل عامين فقط بمرور 425 عاما على إنشائها، أي اكثر من
أربعة قرون!
تعتبر جامعة غراتس أقدم جامعات
المدينة، وربما من اقدم جامعات أوربا كلها، حيث أسسها الأرشيدوق تشارلز الثاني في عام
1585. كانت الكنيسة الكاثوليكية تسيطر عليها، ولكن جوزيف الثاني اعاد اليها
استقلالها في عام 1782، وفي محاولة للسيطرة على المعاهد التعليمية أعاد إنشاؤها في
عام 1827 بواسطة الإمبراطور فرانسيس الثاني، وسميت "Karl-Franzens Universität".
ومن
المؤكد أن مدينة لديها جامعة عريقة كهذه، راكمت جهودا تعليمية وأكاديمية وبحثية
طويلة، ولا شك أن ذلك ايضا ينعكس على سمعتها في مجال التعليم الجامعي على نحو أو
آخر. ويمكن أن يلاحظ المرء هنا بالفعل أعدادا هائلة من شباب الدراسين الذين تفيض
بهم جنبات المدينة، كما يلفت الانتباه بالقدر نفسه الأعداد الكبيرة للدراجات، ففي
كل ساحة أو ميدان من ميادين جراتس هناك موقف خاص للدراجات، التي تعد الوسيلة
المفضلة الأولى للفتيات والشباب في جراتس الذين تفيض بهم شوارع المدينة العريقة.
ويمكن القول أيضا ان جراتس هي مدينة الطلبة والتعليم، إذ توجد بها اكثر من ست
جامعات يدرس بها ما يزيد عن 40000 الف طالب من النمسا وخارجها.
تقع المدينة على ضفاف نهر
مور Mur، جنوب شرق النمسا، ويمكن لمن يمر بوسط المدينة أن
يعبر جسرا يفصل بين جزئي المدينة التي يقطعها النهر، وهو الجسر الذي يمكن أن يرى
الفرد، حين يمر به، عددا هائلا من الأقفال المعدنية الصغيرة التي تُعّد ظاهرة هُنا،
حيث يشيع في ثقافة جراتس، وربما مدن أوربية، أخرى أن ياتي العشاق إلى الجسر، ويكتب
كل عاشقين اسميهما على القفل ويغلقانه في موضع من السور المعدني الذي يسّور الجسر،
في دلالة رمزية على أمنيتهما أن يغلق كل منهما قلبه على حب رفيقه للأبد.
تمتلك جراتس خصوصية
جمالية فريدة أظنها تتشكل من تضافر مظهرين أو سمتين جوهريتين في طابع المدينة؛
الأول هو الخصوصية المعمارية لمبانيها التي يعود أغلبها إلى فترة العصور الوسطى،
وأغلب المباني هنا تحمل سمات العمارة لعصر الباروك، ما يجعل منها مدينة عمارة
أثرية لافتة، أما المظهر الثاني الذي يؤكد الطبيعة الخاصة لجراتس هي أنها منطقة غابية،
تفيض فيها وحولها الغابات والتلال ايضا حيث تحيط بها من ثلاث جهات.
وهكذا نجد تعانقا فاتنا
وفريدا بين الطبيعة بتلالها وغاباتها مع المباني العريقة الجميلة. وهي ليست مجرد
عمارة عريقة بل واحدة من أجمل مدن العصور الوسطى، مما دعا اليونسكو إلى اعتبار
لمدينة القديمة في غراتس واحدة من أفضل المناطق المحفوظة في أوروبا الوسطى، وقامت منظمة
اليونسكو بإضافتها إلى قائمة مواقع التراث العالمي.
تشير الدراسات التاريخية
أن اسم المدينة "جراتس" Grazيعود لأنها كانت موقعاً لقلعة رومانية في بدايات القرون الوسطى. وبعدها تم بناء
قلعة صغيرة بواسطة السلوفينيين التي أصبحت بعد فترة حصناً منيعاً. في اللغة السلوفينية،
معنى كلمة "غراديتش" هو "القلعة الصغيرة". أما الاسم الألماني
للمدينة؛ "غراتس"، فقد استخدم للمرة الأولى في عام 1128. وكانت المدينة مركزاً
تجارياً هاماً في ذلك الوقت. وبعد مرور نحو قرن آخر على ذلك التاريخ، أي في أواخر
القرن الثالث عشر وتحديدا مع العام 1281، في
عهد رودلف الأول، حظيت المدينة بالعديد من الامتيازات التي انعكست على مظهرها
ووضعها السياسي والاجتماعي.
وكما أغلب مدن أوربا كان
لهتلر تأثيره على المدينة مثل كل المدن التي تتحدث بالألمانية، فقد حظى أدولف هتلر
ترحيباً ساخناً وعاصفا عندما زار المدينة عام 1938، العام الذي انضمت فيه النمسا إلى
ألمانيا النازية، وتم ضمها للرايخ. وقد انقلب عليها لاحقاً، وطارد كل اليهود الذين
كانوا يعيشون فيها مما أدى إلى طرد العديد من الأدمغة العبقرية التي كانت تسهم في المنجز
العلمي والفني والثقافي في جراتس.
ففي مقابلة مع مدير متحف
جراتس العلمي أكد لي مدير المتحف د.فرانتز ستانجل
ما يلي: "قبل هتلر وحتى
العام 1938، كانت جامعة جراتس تحصل على جائزة نوبل في العلوم كل عامين، وبعد هتلر أصبحنا
نحصل على نوبل كل 30 عاما». هذه الملاحظة المهمة تكشف كيف أن الدكتاتورية والعنصرية لا يمكن
أن تحقق أي نهضة بل على العكس، فهي لا تستطيع سوى أن تقتل أي نهضة، وفي القلب منها
النهضة العلمية والبحثية، وصولا للنهضة الثقافية.
في مقابلة أخرى مع الدكتور
ماركوس ياروشكا Markus Jaroschka محرر مجلة Lichtungen الأدبية في جراتس، يقول: " إن ترهيب هتلر
ومطاردته لليهود في النمسا بعد العام 1938 أدى إلى هجرة الكثير من الأدمغة من
النمسا، وهو ما أثر سلبا على المنجز الثقافي والعلمي للنمسا بشكل عام ولجراتس بشكل
خاص".
مع ذلك فلا يبدو أن
المدينة قد تورطت كثيرا في الحروب، خصوصا في القرن الماضي فترة الحرب العالمية،
وهو ما تشهد عليه الكثير من عمارتها القديمة الباقية حتى اليوم. ففي خلال الجولات
التي قمت بها في ارجاء المدينة كانت العمارات الجميلة والمباني القديمة والأبراج
التاريخية كلها تشير إلى روح من الاستقرار، والهدوء. فهذه المدينة في الحقيقة تمنح
من يمر بها إحساسا مدهشا أنها مدينة للسلام، مدينة من تلك المدن التي يمر عليها
التاريخ فتقابله بابتسامة، تخفي بها عمق ما يمور بها من خبرات، ولعلها بذلك
استطاعت أن تنهي كل ما تعرضت له من مظاهر النزاعات والحروب دون أن يبقى لذلك من
آثار مأساوية.
فالعديد من المصادر
التاريخية تشير في الوقت نفسه إلى أن جراتس، مثل العديد من مدن النمسا، تعرضت للهجوم
من قبل العديد من البلدان المجاورة لها ولكن معظمها انتهى بالفشل، ومن بين من
قاموا بمهاجمة المدينة المجريين عام 1481، كذلك العثمانيين الذين حاولوا احتلال
المدينة وهاجموها في عامي 1529 و1532، كما احتل جيش نابليون بونابرت غراتس في عام
1797وتمت مقاومته، لكن في عام 1809 اضطرت المدينة لأن تقاوم هجوماً فرنسياً آخر.
تل القلعة الصغيرة
حين صعدتُ إلى التل الذي
يقع في أعلاه برج الساعة الشهير في جراتس، والمعروف باسم "القلعة
الصغيرة" أو Schloßberg تمكنت من مشاهدة المدينة تقريبا، وهي تبدو من
هناك مثل غابة من المبان المنسجمة التي لا يمزق تناسقها النشاز الذي تتسبب فيه الأبراج
الحداثية الشاهقة. كأنها تجمع هائل لمجموعة من السيدات الارستقراطيات اللائي
يعتمرن جميعا قبعات بلون طوبي فاتح. فكل بنايات جراتس تقريبا يعلوها القرميد
المبني بشكل مخروطي تجنبا لتكدس مياه المطر والثلوج، ما يمنح المدينة مشهدا جماليا
أنيقا وفريدا.
إنه نوع من الجمال يعبر
عنه الأديب فرانز نابل قائلا :"لا يصرخ هذا النوع من الجمال عاليا ليلفت إليه الانتباه
وينال الإعجاب، فهو مستكف بنفسه مثل النساء الارستقراطيات الجذابات".
بمعنى آخر،
وكما لفني الشعور وأنا جالس في عربة "التلفريك – القطار" التي تهبط على
قضبان حديدية مسافة الأربعمائة متر التي تجسد علو هذا التل، ناظرا عبر النافذة
الزجاجية الأمامية إلى المدينة، أحسست كيف أن هذه المدينة قد لا تبدو مدينة من تلك
المدن التي تُذكّرك، حين تراها للمرة الأولى، بمارلين مونرو مثلاً، أو بالجمال
المثير الصاخب بشكل عام، بل هي مدينة تستدعي ملامح امرأة جميلة هادئة الجمال، لكن
جمالها الداخلي لا يظهر إلا بعد اكثر من نظرة، وحينها يبدو كيف ان التعلق بجمال
كهذا قد يستمر للأبد، بالتالي فهو ليس ذلك النوع الجمال الصارخ الفاتن الذي يلتهب
به المرء وسرعان ما يتمنى أن يمتلك القدرة على نسيانه!
عاصمة
الثقافة الأوربية
حين تتأمل
المدينة من أعلى تل "القلعة الصغيرة" ، وتعانق عينيك الجمال المتجانس
للمدينة سرعان ما يمكنك أن تتبين نتوءات قليلة في المشهد تمثلها ابراج الكنائس
والكاتدرئيات التي تمتلئ بها المدينة، وتجسد كل منها ألواناً من العمارة الأوربية
التقليدية الجميلة، التي تعود في معظمها لعمارة عصر الباروك، ثم تلتمع في المشهد
بضع ماسات، سرعان ما تتجلى كنماذج معمارية ذات طابع شديد الحداثة، وعندما تسأل عن
أي منها تأتيك الإجابات بعبارات تحمل دوما تاريخا محددا هو العام 2003، وكلمة
العاصمة الثقافية.
فقد اختيرت
جراتس في العام 2003 عاصمة للثقافة في أوربا، ولأجل هذا الحدث المهم حشدت المدينة
جهودها لتأسيس عدد من الأبنية الجديدة، والتصميمات المعمارية لعل أبرزها مبنى "متحف
الفن الحديث" Kunsthaus
،
الذي صممه المعماري الإنجليزي بيتر كوك بالتعاون مع كولين فورنيير، المصمم
النمساوي من جراتس، واستلهما فيه أفكار ما بعد الحداثة في المدارس المعمارية العصرية،
على اعتبار أن المتحف قد تم تصميمه من أجل عرض كافة الأعمال المعاصرة من الفنون
النمساوية الحديثة في الفن التشكيلي خلال الأربعة عقود بين تاريخ تشييده وابتداء
من العام 1960، وبينها الأعمال الحداثية الخاصة بفن الفيديو، والإنترنت، والأعمال
المركبة وسواها. وكانت الفكرة ايضا في تعانق هذا البناء شديد الحداثة مع المبنى
المتاخم له الذي يعود لعصر الباروك.
حب الاختلاف
كان من اللافت حقا أنني في
اليوم الذي شهدت فيه هذا المبنى ليلا لأول مرة كانت هناك لافتة ضوئية مضاءة باللون
الأحمر تحمل كلمتين باللغة العربية هما "حب الاختلاف" في تأكيد لجوهر
مدينة ثقافة وعلوم مثل جراتس تحتفي بالاختلاف وترى فيه منبع خصوبة البشرية
وتعايشها.
أما التصميم الثاني فيقع على بعد عدة أمتار من
مبنى متحف الفنون الحديث وهو جسر حداثي التصميم يعرف باسم Mur Island، أو جزيرة نهر مور، وهو جسر موازي للجسر التقليدي
القديم الذي يفصل بين قسمي جراتس المفصولين بالنهر، لكن هذا الجسر الحديث اتخذ شكل
جزيرة تبدو كفقاعة زجاجية حديثة، أو بالأحرى قبة زجاجية تطفو على النهر، تقع في
وسط النهر مباشرة، وأقيم بها مقهى محاط بمساحة مفتوحة، ثم يمتد من طرفيها ممر
لولبي تغطى أجزاء منه بالزجاج، ويمثل بقية جسد الجسر. وقام بتصميم هذا الجسر
المصمم الأمريكي فيتو أكونشي Vito Acconci.
وفي مثل هذه النماذج
الحديثة للعمارة يتجلى إحساس القائمين على هذا المشروع مدى خصوصية ما تتمتع به
جراتس من نماذج معمارية عريقة، خصوصا وأن مدرسة عريقة للتصميم الهندسي عرفت باسم
"مدرسة جراتس" نشأت في العام 1970، واصبح أكثر عناصرها اليوم أساتذة
كبارا تخرجت على أيديهم دفعات متعاقبة من المصممين والمعماريين المميزين، وكان
عليهم أن يمنحوا الأجيال اللاحقة امتدادا لهذا التراث يتمثل في صيغ معمارية شديدة
الحداثة ومبتكرة التصميم بشكل لافت، عن وعي كامل، في أول الأمر وآخره، أن مدينتهم
مدينة للثقافة والفنون بشكل عام ينبغي أن تعبر عمارتها عن هذه الخصوصية بشكل أو
بآخر، وعبر الدمج المتناغم للعمارة التقليدية العريقة مع نظيرتها الحداثية العصرية
بل وما بعد الحداثية التي تستلهم التقنيات
الحديثة.
كما أن مدينة تمتلك قائمة
طويلة من أبرز الأسماء في حقول العلوم المختلفة والفنون والموسيقى والأدب، كان لا
بد لأجيالها الجديدة أن تراعي ذلك عند تصميمها لمباني الأربعة عشر مبنى للجامعات
الجديدة التي أنشئت بها خلال السنوات الخمس عشر الماضية.
من اللافت في هذه المدينة
أنك يمكن أن تلتقي في اليوم الواحد أكثر من مصري في مدينة جراتس، وفي الندوات
الأدبية التي يشارك فيها أي أديب عربي سوف تجد بين الحضور عددا كبيرا من المصريين
والعرب المقيمين في جراتس. فهناك جالية كبيرة من المصريين في النمسا بشكل عام.
بالإضافة إلى الطلبة الذين يدرسون هنا إما في الجامعات المختلفة أو من يحصلون على
منح دراسية في المعاهد المختلفة وبينها المعهد العالي للترجمة، إضافة للأنشطة
المختلفة التي تقوم بها منظمات دولية مثل المعهد الأفرو آسيوي، وكذلك المهرجانات
الأدبية التي تقوم بها هيئات ثقافية مختلفة في جراتس، وبينها مثلا مهرجان المركز
الثقافي المعروف باسم Kulturzentrum bei den Minoriten والذي تديره إحدى المثقفات الناشطات في جراتس وهي
الدكتورة بيرجيت بولزل Dr.
Birgit Pölzl
ويقدم سنويا أنشطة أدبية بارزة.
في لقاء مع الدكتورة
مديرة المعهد العالي للترجمة أوضحت أن المعهد مكون من 12 قسما مختلفا يبلغ عدد
الدارسين في اقسامه جميعا بين 1300 إلى 1400 دارسا ودارسة، وهذه الأقسام هي لغة
منطقة البلقان، وهو قسم مهم لأنه يضم اللغات الصربية والبوسنية وكرواتيا، وهي لها
أهمية كبيرة في النمسا لأنها تقع بجوارها، ثم الإنجليزية، والفرنسية والإيطالية
والإسبانية والروسية واللغة العربية، والتركية والمجرية. والسلوفينية، إضافة إلى
قسم خاص بالترجمة للصم والبكم، وهو قسم يحظى بإقبال شديد لأن حكومة النمسا تلزم
كافة المؤسسات الحكومية والبرلمان على نحو خاص بتوفير مترجم في حالة وجود ولو فرد
واحد من الصم أو البكم في أي مؤسسة. ويقوم بالتدريس في المعهد عدد من الخبراء في
مجال الترجمة من اساتذة الترجمة الذين يشترط إجادتهم للخبرة العملية في الترجمة
الفورية جميعا في اللغة التي يقومون بتعليمها.
بالنسبة للغة العربية
فيتراوح عدد الدارسين في القسم سنويا ما بين 35 الى 40 دارسا، وتقول الدكتورة أن
الاهتمام باللغة العربية زاد كثيرا عقب أحداث 11 سبتمبر بسبب زيادة الاهتمام الغرب
بفهم الثقافة العربية، وعادة ما يقوم بالتدريس في قسم اللغة العربية جنبا إلى جنب
مع الأساتذة النمساويين، عدد من الاساتذة العرب من مصر بشكل خاص بسبب العدد الكبير
للجالية المصرية في النمسا، وأيضا من السودان والعراق.
ويركز المعهد على تخريج
دفعات من الأشخاص المؤهلين للعمل في مجال الترجمة الفورية، ولذلك لم يهتم بعلوم
نظرية الترجمة إلا قبل 15 عاما فقط، واليوم غالبا ما يحصل الخريجين على الدراسات
العليا قبل أن يبدأو في العمل بشهادتهم العلمية.
لذلك لا تبدو ترجمة الأدب
هدفا من أهداف هذا المعهد، ولكن الدارسين الذين يرغبون في العمل في مجال الترجمة
الأدبية عادة ما يجب أن تتوفر لديهم هذه الرغبة في حب الأدب وترجمته.
ويحظى هذا المعهد بأهمية
كبيرة في النمسا لأنه واحد من ثلاثة معاهد فقط موجودة في النمسا حيث يتواجد
المعهدان الآخران في فيينا وفي تيرول.
كولاريتش وهاندكه
عند زيارتي للمركز
الثقافي أو ما يطلق عليه Litraturhause في جراتس تعرفت على عدد كبير من أسماء الكتاب
والأدباء النمساويون، وبينهم الأب الروحي للثقافة المعاصرة في جراتس وفي النمسا
الفريد كولاريتش Alfred
Kolleritsch
الذي أسس ما يعرف باسم "منتدى حديقة المدينة" Forum Stadtpark
، وهو منتدى أدبي كان له دور كبير في الستينات في إطلاق حركة
أدبية مهمة من النمسا، كما اسس مجلة Manuscript، أو "مخطوط" ، التي تعد أول مجلة طليعية
في النمسا، وكانت نواة لتشكيل جماعة أدبية طليعية عرفت باسم "جماعة
جراتس" تكونت من كولاريتش وبيتر هاندكه ، الشاعر والكاتب المرموق، والفريده
يلنيك وبارباره فريشموت، وغيرهم. وأسهمت المجلة في إطلاق والتعريف بعدد كبير من
الأدباء النمساويين من بينهم إرنست جاندل Ernst Jandl ، وأوزوالد فينر
Oswald
Wiener،
كما أن المجلة نفسها نشرت لـ بيتر هاندكه Peter Handke الذي جاء لدراسة القانون في
جراتس عام 1961، وفي 1963 بدأ نشاطه الأدبي
يأخذ شكلا أوضح. فتعرف على ألفريد هولتسنجر الذي كان يرأس قسم الأدب والتمثيليات الإذاعية
في راديو جراتس. وتعرف أيضا إلى ألفريد كولاريتش في العام نفسه ونشر له كولاريتش
في "مخطوط" لأول مرة في العام 1964. وبعد عام واحد نشرت إحدى أهم دور
النشر في ألمانيا زوركامب روايته الأولى وبعدها تفرغ للكتابة. وقد لعبت هذه المجلة
دورا كبيرا في التعريف بعدد كبير من اهم الكتاب النمساوين والذين حققوا الشهرة
لاحقا.
"ماوسكريبت" وما بعدها!
في مكتبة المركز الثقافي Literaturehause
اطلعت على الأعداد الأولى من مجلة "مخطوط" Manuscript وعلى العديد من الدوريات الثقافية الأخرى الأخرى،
وأعمال أهم كتاب النمسا، وبينهم، مثلا، بالإضافة لمن سبق ذكرهم أعمال ألفريده
يلنك، الحائزة على نوبل في الآداب في 2004، في العديد من الترجمات لغير الألمانية،
وأعمال لكتاب وكاتبات ، مثل بارباره فريشموت Barbara-Frischmuth ، التي تناولت الثقافة التركية
والعربية كثيرا في كتباتها، وإلياس كانيتي
Elias
Canetti
الحائز على نوبل في الآداب أيضا في 1981، وريلكه
Rainer Maria
Rilke،
وهيرتا موللر (جائزة نوبل) وغيرهم.
أما الكاتب النمساوي المصري الأصل طارق الطيب فأوضح لي تفاصيل ما عرف باسم جماعة
أدباء جراتس (GAV) التي تم تأسيسها عام 1973 كواجهة مختلفة لـ (P.E.N.-Club)، العديد من الكاتبات والكتاب والفنانين والفنانات
أعضاء وعضوات في هذه الجماعة، التي تقدم العديد من القراءات بمقابل، وتنظيم
اللقاءات الأدبية ومساعدة الكتاب في ترويج أعمالهم بشكل لائق.
كنت أتمنى أن ألتقي
الكاتب الرائد كولاريتش، لكن الظروف لم تسمح بذلك مع الأسف، لكني، حظيت بفرصة
اللقاء مع شخص ىخر مرموق في الوسط الثقافي النمساوي وفي جراتس على نحو خاص وهو
الدكتور ماركوس ياروشكا Markus
Jaroschka ،
رئيس تحرير دورية ثقافية اخرى مهمة في جراتس وهي Lichtungen، الذي اوضح لي الدور المهم الذي لعبته دورية
"مانوسكريبت" على يد كولاريتش وجماعة جراتس، وأوضح انها كانت تتقاسم
الأهمية مع مجلة اخرى كانت تصدر في المانيا آنذاك باسم Aczent وتعني بالألمانية معنيين هما "اللكنة" أو
"التجديد"، كما أخبرني أن جراتس قد حظيت بشهرة ثقافية كبيرة في الستينات
والسبعينات في المناطق الناطقة بالألمانية بسبب النجاح والشهرة التي حققتها مجلة
"مانوسكريبت".
مجلة "ليتشجِن"
بالنسبة لمجلة "ليتشجِن" Lichtungen، وهي كلمة لا مقابل لها في العربية (تعني الأماكن
الفسيحة أو الخالية من الأشجار في الغابة) فقد صدرت لأول مرة في عام 1981 على يد
مؤسسيها أوتو إيجن رايتش وهورست جيورج هابرل، والأخير كان ناشطا ثقافيا مهما وأحد
مؤسسي مهرجان الخريف الستيري (النمساوي) أو خريف شتايرمارك:وهو مهرجان عالمي للفن المعاصر (أدب ومسرح وفنون تشكيلية وأفلام ورقص
وموسيقى وعمارة وغيرها)، يقام سنويا خلال شهري سبتمبر وأكتوبر في مقاطعة
شتايرمارك، تأسيسه عام 1968 وهو أقدم المهرجانات التقليدية الفنية في أوروبا كافة.
وقد تولى د.ياروشكا رئاسة
تحرير المجلة في العام 1990، ويعمل مع طاقم مكون من خمسة أفراد، ويقول: حين بدات
العمل اردت أن أحقق لونا من الخصوصية للمجلة، وبشكل لا يبدو فيه أي تنافس مع
المجلات الأخرى وبينها "مانوسكريبت" لأن كولاريتش صديق حميم، ولم أكن
أبتغي التنافس إطلاقا.
لهذا فكرنا في ثلاثة أمور
نحقق بها خصوصية المجلة أولها النشر للأسماء الشابة وصغار السن من الكتاب في جراتس
وفي ارجاء النمسا والمانيا، أما الامر الثاني فكان عن طريق عمل ملفات عن آداب
العالم المختلفة خارج أوربا، وأنجزنا عدد كبير من الملفات عن الثقافة والأدب في
تركيا وتشيللي وكوبا والكونغو، ومؤخرا عن سيبريا وروسيا وأرمينيا لأنها كانت عاصمة
الثقافة الأوربية للعام 2012، وفي الأعداد المقبلة سنخصص ملفا عن الشعر في
البرتغال، وعدد آخر عن أدب البرازيل لأنها سوف تكون ضيفة معرض فرانكفورت للكتاب في
دورته المقبلة.
ونفكر في ملف عن الأدب
العربي مستقبلا أيضا.
أما العنصر الثالث الذي
حاولت به المجلة أن تحافظ على خصوصيتها فكان تخصيص نحو ثلث المجلة لجزء خاص بالفن
التشكيلي المعاصر في النمسا والثقافة الألمانية.
ويوضح د.ماركوس ياروشكا
أنه يسعد بالفخر وبالسعادة الكبيرة حين يحصل اي من الكتاب الشباب الذين نشر لهم في
المجلة على جوائز ادبية مرموقة، وهناك عدد لا باس به من الشباب الذين حصلوا بالفعل
على جوائز. زآخرهم على سبيل المثال الكاتب كليمنس سيت الذي حصل على جائزة لايبتزج
للكتاب.
ويعرب ياروشكا عن سعادته
بما أنجزته المجلة من ملفات أدبية من ثقافات العالم خلال السنوات الست الاخيرة،
بالإضافة إلى أن المجلة نشرت مقالا للعديد من الكتاب الذين حصلوا لاحقا على جائزة
نوبل ومنهم أورهان باموق من تركيا والفريده يلنك وهيرتا موللر، اكثر من مرة،
وتوماس ترانسترومر الشاعر السويدي، الذي نشرت قصائده في المجلة مطلع التسعينات،
ولو كليزيو من فرنسا.
ويقول ان المجلة منتشرة
بشكل كبير في شرق اوربا وفي منطقة البلقان، خصوصا وأنها تنشر عادة باللغتين
الالمانية واللغة التي يحتفى بثقافتها.
طارق الطيب
في محاولة لاستجلاء
الطابع الثقافي العام للنمسا بشكل عام سألت الكاتب النمساوي المصري الأصل طارق
الطيب، خصوصا وأنه يقوم بالتدريس في جامعة جراتس، بالإضافة لكونه كاتبا معروفا في
النمسا عن وضعه هنا ككاتب من أصل عربي أصبح جزءا من الثقافة النمساوية وكيف يرى
الاختلاف في النظر للثقافة بين الثقافتين العربية والنمساوية فقال:
"الاختلاف يأتي عادة من النظرة الخارجية، بمعنى: كيف ينظر النمساوي
للأدب العربي وكيف ينظر العرب للأدب النمساوي. الأفق هنا أوسع فيما يتعلق بالنظر
للأدب بشكل عام؛ فلو ذكرنا مثلا أمام القراء العرب كلمة (جائزة نوبل في الأدب)
نجدهم يتذكرون نجيب محفوظ ولا يعرفون شيئا عن الآخرين مثلا، ولو ذكرت هذا للقراء
في النمسا- رغم حصول "إلفريده يلينيك" على الجائزة بعد محفوظ بسنوات لن
تجد هذا التركيز عليها.
كما أن الثقافة أيضا لها منابع أوسع هنا عن طريق الترجمات المتوافرة للكتاب
العرب في اللغة الألمانية، والتي تتفوق بمراحل عن الترجمات القليلة جدا للكتاب
النمساويين مثلا، رغم ثراء الأدب النمساوي. الراديو والتلفزيون يخصصان برامج مطولة
للحديث عن كاتب عربي أو فنان عربي وتتم دعوة الكثيرين سنويا سواء من المؤسسات
الأدبية أو من الجامعات أو غيرها.
وهناك بالطبع النظرة العامة المؤثرة في الميديا عموما عن العرب وعن
المسلمين والصور السيئة المنقولة يوميا والتي تحتاج إلى سنوات طويلة لمحو كآبتها.
من ناحية أخرى وبشكل خاص، استوعبتني النمسا ككاتب نمساوي من أصل عربي لأكتب
وأحصل على جوائز ومنح أدبية قيمة وسفر لتمثيل النمسا في الخارج دون أس شيفونية
وطنية ولا أعلام!
الثقافة هنا أيضا جزء لا يتجزأ من حياة النمساوي بدءا من الحضانة حتى ما
بعد المعاش. هناك برامج وفيرة ومناسبة لكل الأعمار ولكل الفئات، وكما ذكرت هي جزء
متصل بالحياة يدخل فيها ويخرج منها بانسجام كبير!
سألته عن الكتاب النمساويين الذين يحب أن يقرأ لهم فقال:
أحب الكثير من
الكتاب النمساويين:فمن الراحلين مثلا تستهويني القراءة لكل من: توماس بيرنهارد،
شتيفان تسفايج، روبرت موزيل، إلياس كانيتّي، أنجبورج باخمان (هناك جائزة سنوية
شهيرة في النمسا باسمها، ماتت مبكرا!)
أما من الأحياء
فاحب أعمال باربارا فريشموت، بيتر توريني، بيتر هاندكه، إلفريده يلينيك، راديك
كناب.
قالوا عن جراتس:
ترجمة غادة الحلواني
حين قمت بزيارة
بيت الفنون والأدب Literaturehause في جراتس، أهداني
مدير البيت كتابا هو الوحيد المتاح باللغة الإنجليزية، تمت ترجمته عن الألمانية، بعنوان
"إقرأ جراتس"، ويضم عددا هائلا من كتابات أشهر كتاب جراتس والنمسا واوربا
عن جراتس في فترات تاريخية مختلفة. بالإضافة إلى عدد من الرسائل التي تبادلها كتاب
مروا على أو أقاموا في المدينة، أو رسائل من فلاسفة وكتاب وشعراء مشهورين في
النمسا أو من أهل جرتس نفسها. إنه كتاب رائع لأنه يقدم بوتريها مختلفا وشاملا
وفريدا لهذه المدينة. وحين تنتهي من قراءته تكتشف أنك اقتربت من جوهر هذه المدينة وسر
فتنتها الذي لا يمكن فك شفرته بسهولة . وقد اخترت عددا من النصوص التي قامت بترجمتها
الكاتبة والمترجمة غادة الحلواني فيما يلي نورد نصها:
فرانز نابل
( 1883-1974)
محبة
لكي تعرف المدينة
جيدا وتفهم جوهرها، عليك أن تتذكرها قبل الحرب العالمية الأولى حين كانت لاتزال عاصمة
"أرض التاج" لمقاطعة ستيريا في مركز النمسا القديمة، وليست خارج التاج البريطاني
كما هي الآن، بلدة في نهاية فرع راكد من السكة الحديدية. كانت لاتزال الحياة، حينذاك
تتدفق عبرها بلا كلل أو تعب لا يجبرها شيء على التوقف أو العودة إلى الوراء. كانت توجد
حدود لغوية بالقرب منها حينئذ، لكنها لم تكن- هذه الحدود- الجدران الشاهقة مثلما هي
الآن. كانت الحدود مفتوحة، بجيشان طليق يتدفق بحرية من فوقها. وباعتراف الجميع، كانت
المدينة يشار إليها مزحا بـ" بنسيونبوليس" ملجأ لالتماس السلام والهدوء لهؤلاء
الذين وصلوا حاجز العمر القانوني أو لعلهم تعبوا من خدمة الدولة أو كانوا في الجيش
قبل سن التقاعد. وفعليا مع نهاية القرن الثامن عشر يمكن أن نجد كلمات قليلة من الثناء
على المدينة في إحدى النصوص:"... ومرة أخرى يفقد معظم الناس الذين ينتقلون إلى
جراتس الرغبة في التقاط عصاهم التي تساعدهم في المشي ويواصلون تجوالهم". من ناحية
أخرى، هذا لا يعني بالضرورة أن المثل القائل عن الحب عن طريق " المعدة" أو
أن السمعة الرائجة أنه مع دخل متواضع يمكن أن يعيش المرء مرتاحا، مسؤولان عن اغرائهم
لانفاق أمسيات حيواتهم هنا. ربما تلعب، أيضا، تلك الأسباب الأخرى الأكثر نبلا دورا.
فمرارا وتكرارا، قد يغوي المرء أن يعقد مقارنة بين جراتس والمرأة المحبة والأمومية
في الوقت ذاته. ولعل هذا يقدم إجابة على السؤال الذي يبحث عن سبب جاذبيتها. إن الجمال
بالتأكيد جزء منها، لكن لن يدركه طفيلو الحب أو يميزوه من النظرة الأولى التي تغريه
فقط على المداعبة العابرة. فهو – الجمال- لا يكشف عن نفسه إلا بعد النظرة الثانية أو
الثالثة وفقط للساعين الأجلاء.
هذا لا يعني أن
جراتس لا تتمتع بمواقع شهيرة وقيّمة للزيارة والمشاهدة. إن مَن نظر إلى الأعلى من فوق
السلم الشعائري إلى ضريح فريناند الثاني المعارض الشرس للبروتستانت، سواء تحت سماء
صيفية عميقة الزرقة جنوبية أم من خلال الحجاب الفضي لليلة مقمرة في الشتاء لن يستطيع
أن ينسى المشهد بسهولة. وهذا ينطبق على منظر البرلمان المحلي أيضا، بالرغم من أن جماله
لا يتكشف فورا للمتجول العابر بل للساعي الذي يتقدم عبر البوابة ويقف بعدها أمام صف
القناطر الراقص الذي يشكل فندق اركادنوف. وسوف يكون حينئذ سعيد بأن يترك العنان لنفسه
في طرق المدينة القديمة الباردة والمعتمة، بحوائط بيوتها وأقواس دعاماتها وقصورها الرمادية
العتيقة. وكما هو الحال مع البرلمان المحلي تغطي أوراق الشجر التي تملأ الباحة صخوره
الرائعة العارية وغير المزخرفة.
لا يصرخ هذا النوع
من الجمال عاليا ليلفت إليه الانتباه وينال الإعجاب، فهو مستكف بنفسه مثل النساء الارستقراطيات
الجذابات.
فهو يشعر في لا
وعيه أن الخاطب المشتاق يحدس وجوده خلف الواجهة المتواضعة ويعرف كيف يجده. وعلى هذا
المنوال القصور الصغيرة التي شيدت في العصور الوسطى وفي الفترة الزمنية قيام ثورة مارس
1848 . وإذ شيدها نبلاء ومواطنون ذو مكانة عالية تاقوا إلى الرفاهة، فقد أقاموها خارج
أبواب المدينة. حاليا، تقف هذه القصور بحفيف أشجارها التي تملأ حدائقها حبيسة جدرانها.
ذاك أن السحر الطاغي للمدينة لازال في مشاهدها الطبيعية. فلا يحوطها فقط هذه الوفرة
الباذخة، بل تخترق المناظر الطبيعية المدينة وتقسمها إلى مركزها. إنه انتصار وزفر على
عرش تلال سكولبرج التي أصبحت رمزها.
فريتز فون هيرزمانوفسكي-أورلاندو
( 1877-1954)
الكرة المقنعة
يتصور مرة أخرى
سريساند الكلمة:" أجل، أجل، جراتس، أعرف المدينة معرفة جيدة. لا يحدث بها الكثير
حاليا. لكن فيما مضى! هل تعرف أن شكسبير أخرج عرض " تاجر البندقية" في جراتس؟
كان عليه أن يفر من فيينا بعد " القياس من أجل القياس" بسبب إهانة نقابة
المحاميين، كما يعرف كل مثقف. رهاب الأجانب الشهير التي تتمتع به العواصم ساهم في هذا
أيضا. لا عجب. فيينا هي العاصمة الطبيعية للبلقان بل يمكن أن أقول حتى أنها الغدة المنغولية
لأوروبا.
بيتر دانييل ولفكيند
( * 1937)
جراتس
سواء كان في براغ
أو كراكو أو سالزبرغ أو بلجراد أو لندن، في مكان ما في كل هذه المدن يوجد قلعة وحوائط
مهدمة قليلة وبرج ملكي قديمة. ولكل قلعة من هذه القلاع قصتها. وكل هذه القصص متشابهة:
بناء، توسع، حصار، دفاع، تدمير. وتبدو القلاع من الداخل متشابهة جميعا. غرفة عامة رائعة
وغرفة تخزين وحوائط وممرات وسرير واسع بأربعة أعمدة ولد عليه البطل أو طعن وكنيسة صغيرة
ومتنزه. وفي كل هذه المدن توجد كنيسة للحجاج ونصب تذكارية قليلة. وفي كل هذه المدن
يوجد بيت ما متواضع في مكان ما حيث ولد فيه شاعر شهير أو رسام أو مؤلف موسيقي. وفي
كل هذه المدن توجد شوارع قديمة حالمة، ونصب تذكاري للطاعون الأسود وعدة بنايات جديدة
بدرجات مختلفة من القبح. وهكذا بالنسبة لي على الأقل، تذوب كل هذه المدن في مدينة واحدة
في نموذج " المدينة الأوروبية". كذلك جراتس واحدة من عناصر الإنتاج التسلسلي على سيور التاريخ الذي صنع تبعا للنموذج نفسه. ولانقاذ
شعور الوطنيين المحليين: منتج تسلسلي بمعالم خاصة.
ماكس برود (
1884- 1968)
جراتس مثل زيورخ
( سبتمبر
1911)
المدينة الصغيرة
( زيورخ) أكثر أناقة من براغ- انفقت البنوك كثيرا على تجهيزها، كل شيء من الرخام الأزرق.
الانطباع هو عن مدينة مزدهرة وجميلة بسكان غير مميزين يتدافعون بتزامن كما يبدو بين
البنايات الجميلة. لن يرغب أي أحد أن يصدق أنهم خلقوا هذه الأشياء الجميلة. تبدو جراتس شبيهة بها.
جوستاف شرينر
( 1793-
1872)
عن الشخصية
بالمناسبة، شخصية
مواطن جراتس العادي تتمتع بمعالم محددة تدل على الخليط مع العناصر السلافية. العمل
ببطء، التصرف بعمد، يعادي كل الأشياء الأجنبية وليس ودودا. فقط حين يكون شيء ما كاملا
وتاما يكسب ببطء قبوله. لا يستطيع أن ينسب لنفسه صفة الود، فهو يقرر أن يحييك بصعوبة
إلا إذا كنت سوف تؤثر في مصيره. لا تشيع صفة النظافة في الطبقات السفلى.
يورغ-مارتن فيلنوار
( * 1957)
جيوجرافيتي
وكما تأتي جراتس
دائما قيل لينز وويلز وجولز
وإنس وجورك وفاك
وهول ورست وريد
وليخ وزيل ويبس
وفيز وفين
مدينة الحروف
الأربع الأجمل
في الكلام
جوزيف فريهر فون
هامر- بورغستال
( 1774-1856)
المرجل السحري
جراتس المرجل
السحري! من ذلك الذي خلقك منطقة ساحرة؟.. جراتس المضفرة بكثافة ببساتين الورد ومروج
المياه تعويذة متلألأة.
بيرند شميدت
( * 1947)
على نحو ما، المطر
حقيقي مختلف
حين تمطر في جراتس
فهي تشبه بالتأكيد حين تمطر في فيينا ودنكرك ونيوارلاينز، كما هي في هامبورج ولندن
وماربورغ في لاهن. لكن في جراتس ليس الأمر مماثل على نحو ما.
فربما يمكن أن
تقول المثل من زاوية نظر المدن الأخرى. لكن يوجد شيئا واحدا مؤكدا؛ ففي جراتس المطر
أكثر ازعاجا من فيينا ودنكرك ونيو اروليانز وفي هامبرج وفي لندن وفي ماربورج في لاهن.
المطر مزعج في
جراتس لأننا في جراتس تحت المطر.
لايزعجنا المطر
لو أنه يسقط في فيينا أو دنكيرك أو نيو أورليانز أو في هامبرج أو لندن أو ماربورج في
لاهن. فقط، لا يجب أن يسقط في جراتس. باستثناء حين يصدف أن نكون في فيينا أو دنكرك
أو نيو أورليانز أو في هامبورج أو لندن أو ماربورج في لاهن بينما تمطر في جراتس. هكذا
نحن أهل جراتس.
انجيلا كروس
( * 1950)
جراتس
أتمنى أن لا أسمح
لنفسي بالشطط فأحكم على جراتس. غدت جراتس موطني بعد عام من سقوط الستار الحديدي. كان
يجب أن تصبح جراتس كل شيء تخيلته في العالم خلف العالم في الخمسينات والستينات والسبعينات
والثمانينات. وكانت كذلك بالطبع.
بيتر روسجر
( 1843-
1918)
المدينة الكبيرة
يرتفع سعر الطعام
ببطء لأن جراتس تحاول أن تضفي على نفسها هيئة المدينة الكبيرة وهو أمر بصراحة متناهية
غير لائق تماما.
هانز كورن
( 1906-
1985)
هذا ما كان مقصودا
منذ البداية
ميز صورة هذه
المدينة التحفة الفنية: قاعة المدينة والجمال الساحر للقلعة القديمة والتناقض المثير
بين الكاتدرائية القوطية والضريح بطابعه الجنوبي، كذلك البيوت العديدة والقصور ومن
أجل المكانة الاجتماعية يجتمع النبلاء والمواطنون هنا في هذه المقاطعة في هذه المدينة
التي شيدت من أجل هدف جاد. قدم الزمن والايطاليون
مرة أخرى النماذج لهم، من البندقية. وبالإضافة إلى أطفال المقاطعة، وظف السلاف من ستيريا
وكراين في البيوت. وبالمثل، نجد خليطا واقعيا. ففي " قائمة الموظفين" في
الصناعة النامية أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يوجد أسماء ألمانية لأبناء المزارعين إلى جانب أبناء آخرين من سلوفانيا وايطاليا. يعتبر
هؤلاء السلاف والإيطاليين شهود على أصلها ونموها ويعكسون وظيفة هذه المدينة العاصمة
للنمسا الداخلية Inner Austria. كان الهدف من حجمها ألا يخدم فقط
مقاطعتها الصغيرة بل منطقة تمتد إلى البحر وأن يصبح وحدة مدمجة. ما كان أعتقد الناس
هنا في هذه المدينة ما انجزوه وما ضحوا به وما تحملوه وطبيعيا ما كسبوه بطريقة متواضعة
من كل هذا، يمتد على المنطقة الأكبر التي تمتد من داشتين إلى ادرياتيك حيث خضع الألمان
في ستيريا وكارنثيا إلى جانب السلاف حول كران والإيطاليين بالقرب من جورتس واكيلا إلى
سلطة وصي شرعي واحد.
إنه يمتد إلى
المنطقة الموحدة التي عرفت عبر التاريخ باسم النمسا الداخلية ولكنها لم تختف من التاريخ
باعتبارها وحدة الثقافة والتقاليد. هذه الحدود من الشعوب العظيمة التي شكلت الغرب واللاتين
والألمان والسلاف عاشت معا طويلا في مهمة جليلة، وفي صراع ثقافي، وفي تبادل اقتصادي تحت ادارة قانونية وسياسية.
في القرون التي
تغير خلالها مفهوم الفترة الانتقالية وبدا من زاوية سطحية أنه ذات من القرن السادس
عشر إلى القرن السابع عشر، انفتحت طرق عديدة من التعاون الاقتصادي. في الوقت ذاته تأكدت
روابط لانهائية من الصداقة الشخصية خلال علاقات الدم وتجددت باستمرار بحيث استمرت في
التأثير حتى وقتنا الحاضر. كانت هذه الفترة فريدة. إذا عرفنا هذه المساحة اليوم وخاصة
اليوم باعتبارها مساحة للمسؤولية، فهي ليست مسألة تذكر أو حفاظ على التقليد الفلكلوري.
لم تعد تتمتع هذه المنطقة بالامتيازات الآن، بل بالأحرى تحمل على عاتقها مسؤولية مشتركة.
كل شخص يعتبر أن الرغبة في السلام بين الأمم أكثر من مجرد شعار يمكن ويجب أن يقبل هذه
المسؤولية. إنها المهمة الأخلاقية الأولى التي يسعى جيلنا إليها بكل الحب الممكن والطاقة
راسما خبرته عن هذا القرن. أين كان يمكن أن يبدأوا هذا مبكرا عن هذا حيث حطام سوء فهم
الأجيال وأخطائها تحتاج إلى إزالتها من الطريق.
فولتر فون دير
فوجلفيد
( 1170-1230)
ويلكم أيها الأغنياء
أخبروني من سين
إلى مور
من بو إلى تراف
أنني أستطيع عبرهم مثل:
معظمهم لا يبالي
كيف يمتلك
فإذا يجب أن أمتلك
مثلهم فوداعا أيتها المشاعر الرائعة
الملكية دائما
ممتعة، لكن التقدير يأتي قبلها.
لكن الملكية هذه
الأيام عالية التقدير جدا
بحيث يمكن أن
تجلس مع ملك
مع كل لوردات
المجلس الملكي
ويلكم أيها الأغنياء!
من مصير الامبراطورية الرومانية.
نشرت في مجلة العربي - الكويت - إبريل 2013
No comments:
Post a Comment