مهاب نصر: آباؤنا .. حزب الكنبة الفاسد
لا يعرض فيلم “في بيتنا رجل”، الا وتقفز صورة الأب الموظف، الذي ربى ابنه على الخضوع، والأدب المتمثل في انحناءة الرأس، انحناءة تبقى طول العمر، لأرواح تتحسب أن تأتي يد فتصفعها، أهم ما يعنيها أن تسير الحياة بلا مشاكل مع أن الحياة نفسها مشكلة، وأن تمر دون مواجهات، وهو ما يعني أن تستبدلها بمواجهة طويلة مع نفسك تخرج منها مهزوما مسلما بالأقدار.
لهذا كان تديّن هذا الجيل هو خوف عميق، وأغانيه الدينيه المفضلة مليئة بالحزن المخنث أو الترنح، لا بالمهابة أو الجلال اللذين يمثلان انتماءك الى روح كلية، تربط الوجود في وحدة.
الأب في الفيلم لم يدخل لعبة السياسة الا مضطرا وعلى مضض، صبرا على الرجولة، وليس دفاعا على بلد محتل، فما بالك بميوعة موقفه (أو موقف نموذجه) حين تتسلم السلطة فئة تزعم أنها وطنية؟
هؤلاء شاهدوا الصعود البرجوازي الناصري دون أن يبدلوا بيجاماتهم، وحين استبدلوها استبدلوها بالجلالبيب.
قبلوا النفقاق للرؤساء على انه احترام، والصمت على الضيم باعتباره طبيعة يستحقونها “وهم فعلا يستحقونها”، ربوا أبناءهم على أنانية البيت “لا تصاحب فلان.. لا تعطي أشياءك لفلان.. نحن أفضل من غيرنا.. بلدنا يا حبيبي أحسن بلد في الدنيا” لأنهم لم يروا طبعا غيرها.
تعلم هؤلاء باعتبار التعليم (لا العلم) وسيلة بامكانهم أن يركلوها، (كما ركلوا من قبل طرابيشهم) حين استلام الوظيفة، اعتبروا المعرفة سلطة لا اكتشافا، تكريسا لا إبداعا، فاخرجوا لنا أسوأ العقليات الزنخة، حافظي القوانين، لا مبدعيها، من أمثال طارق البشري.
ليس غريبا أن أشهر الساسة كانوا محامين قبل الثورة كما لو أن القانون هو السياسية، وعليهم اعتمد كل محتكر للسلطة، القانون قبل الانسان، تماما كما كانت الكلمة في كتبهم التي استظهروها أهم من الحياة الملقاة خارجها.
تمايلوا مع أم كلثوم برومانسية رخوة، تعوضهم عن رصانة حياة بلا روح. ولم يسمحوا لحياتهم أبدا أن تكون هي الأغنية.
كانوا ملاحدة لا يجرؤون على الالحاد، مؤمنين عاجزين عن التورط في الايمان. يتزوجون غالبا المرأة التي لا يحبونها. بل التي تضمن لهم أن تظل حياتهم السرية وأحلام مراهقاتهم في طي الكتمان.
آباؤنا كانوا عالة على الحياة، وجاءوا بنا ليتأكدوا أنهم أحياء فعلا، ثم ليؤكدوا من خلالنا أن الحياة كانت وستظل هكذا، سلم متحرك ما ان نضع أرجلنا على أول سلمة فيه حتى يسحبنا الى أعلى: “ذاكر يا حبيبي”.
سافر آباؤنا الى الخليج، كالمسافر الى سجن، ولكن بنهم وعقلية اللص.. أو المرابي، طأطأوا روسهم، وهم يحصون الغنيمة، وعادوا بقفاطين ومصاحف، ليبنوا عمارات التمليك، والسوبر ماركت، وليروجوا لاقتصاد (أنا أولا وأخيرا).
حين تقارن بين ما فعله مغامرون وموظفون أوروبيون حين جاءوا الخليج فكتبوا المذكرات واليوميات، وبين ما يمكن أن يحكيه أحد آبائنا بعد رحلة العودة تعرف معنى فقر الروح والعقل معا.
عادوا مدرسين بسيارات التويوتا، وبتابلوه من الفراء عليه مصحف، وفانلة “مونتجو” وشبشب. ليدرسوا لنا التربية القومية ويحفظونا:”أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا”.. مع أن ربيعنا خماسيني مترب، يهب مصفرا غاضبا كمن أوقظ قهرا من النوم.
حرضونا دائما أن نبتعد عن السياسة، التي هي سياسة حياتنا، واستبدلوها في وعينا بالشطارة، أي القدرة على انتهاز الفرص على حساب الغير. ألقوا في ضمائرنا الشك من كل معرفة تجيئنا من الخارج.
كانوا على استعداد دائم لتصديق أي سلطة، لأنهم كانوا يضعون أنفسهم في مكانها، ويستعذبون قهرها، كما لو كان ينزل على ظهور آخرين.
هؤلاء الفاسدين المفسدين، هم من تتحرك سلالاتهم الآن مشككة في كل تمرد، بل في كل مغايرة ( ده ح يتفلسف، يعني انت اللي ح تغير الكون.. خليك في حالك وشوف مصلحتك.. ما تسمعش كلامهم دول خربوا دماغك.. يعني هو انت ناقصك حاجة.. ده احنا اللي عارفين مصلحتك.. ده انت لسه مش عارف تصرف على نفسك). يزرعون العجز ثم يسألوننا أبناءهم عنه.
أداروا عالما على هيئتهم جبانا كذابا متواطئا (هي دي الحياة يا ابني بكرة لما تكبر ح تفهم)، وحين تكبر، يكون قد شاخ عظمك الفقري قبل فروة رأسك. فتؤمّن على كلامهم من قسوة العجز، وتحقد مثلهم على كل من يريد أن يغير شكل الحياة.
تعاملوا مع الحياة على أنها ليست حياتـ(هم)، بل مصروفا يعطى كل صباح، ولكل نصيبه. هؤلاء خونة بالسليقة. وهذه الثورة يعرفون بالحدس أنها ليست ضد المجلس العسكري ولامبارك ولا الحزب الوطني.. بل ضدهم من عديمي الموهبة، خصيان الروح، المحرومين من الكرامة، الا باعتبارها سلطة قهر لا اعتزازا بالحياة.
الثوار ليسوا وحيدين حتى لو كانوا وحيدين، انهم أصحاب البلد حتى لو أخطأوا، لأنهم أصحاب الفعل والمبادرة لامتلاك الحياة التي هي لهم بالأصالة والفعل حتى لو لم يبق في الميدان الا شخص واحد.
ليس عليهم أن يشعروا بالغربة، بل ألا يفاجأوا بحزب الكنبة، والأكثر أن يفرضوا عليه ارادتهم لأنه بلا ارادة، بل هو عدو فكرة الارادة أصلا.
لا تعتبروا حزب الكنبة أرقاما، فللأرقام حياة أيضا تقع وراءها، بل نفاية تاريخ يتخثر ببطء. ورائحته أبشع كثيرا من روائح الغاز في الميدان
مهاب نصر
No comments:
Post a Comment