إسكندرية بيروت" لنيرمين نزار
أزمنة افتراضية بين مدينة للحنين وأخرى للحلم
أزمنة افتراضية بين مدينة للحنين وأخرى للحلم
"كان لأمي شعر جانس جوبلين وقوام تويجي. لقد وصمني جمالها للأبد بالقبح، فلن أكون بجمالها أبدا، ولا بأناقتها اللامبالية ولا برشاقتها بالقطع. لي ملامح منمقة تبدو جميلة حسب ما قيل لي، ولكن ملامحها هي أكثر جمالا بكثير(..) في محاولاتي الفاشلة أن أكون نسخة منها صادقت الموسيقيين وأحببت الجينز. حفظت أغاني البيتلز وفيروز وفرقة رضا، وأحببت أسناني المعوجة قليلا، لأنها تشبه أسنانها.. أحببت النبيذ ايضاً. أصابني غرام به وأنا أرى تلك الالهة تجلس على الأرض وتسند ظهرها إلى الحائط الذي يحتل الزجاج أغلب مساحته. من ورائها أرى الحديقة بزهورها الصحراوية الحمراء، وأرجوحتي التي صدئت(..)ضوء شاحب يأتي من خلفها وينير الخصلات الفاتحة في شعرها الكستنائي مؤكدا لي أن ثمة ملائكة ترقص فوق رأسها(..) فيما بعد قالت أمي بمنتهى الاستهتار بذكرياتي :أنا أكره النبيذ. كنت أجلس على أرض منزلي كل ليلة وأشربه من الزجاجة حتى أغرق تعاستي وأنام".
أقتطف هذا المقتطف الطويل من كتاب "إسكندرية بيروت" لنيرمين نزار، لأني أظنه نصا جوهريا من نصوص هذا الكتاب؛ إذ يكشف الروح الشعرية لكاتبته، كما يكشف جزءا أساسيا من مضمونه ككتاب بوح عميق لكاتبة أرادت لنفسها غرفة، كتلك التي اقترحتها فيرجينيا وولف، بوصفها شرطا لإبداع امرأة ما في أي زمان ومكان.
الغرفة التي اختارتها نيرمين نزار كانت مدونة إليكترونية عنوانها "إسكندرية بيروت"، ولكي تمنح نفسها كامل الحرية للكتابة بلا رقيب أو كابح، وللتعبير عن نفسها وأفكارها، ومشاعرها، وعواطفها، وضعفها الإنساني، وعن ثقافتها وذكرياتها، وألوان اكتئاباتها، ومخاوفها الراهنة، وتلك العابرة معها عبر الزمن، وخصوصيتها، وحميميتها مع ذاتها والآخرين، اتخذت لنفسها اسما مستعارا هو أليكساندرا.
إسكندرية بيروت اسم هذا الكتاب-المدونة، إختيار لمدينتين ساحرتين، لكنهما بالنسبة للكاتبة اكثر من ذلك بكثير، فبيروت بالنسبة لها وطن لم يعد يربطها به سوى الحنين، ومرجعية لوطن تحتفظ به بين ضلوعها، وموطن يبدو دائما بعيدا، ومحلا لذكرى تلفها ألوان الفوتوغرافيا الأبيض والأسود، أما الإسكندرية فمدينة بديلة للوطن، ونموذج محتمل لمدينة عالمية تمتزج فيها ثقافات، وتسمو فيها روح منفتحة على الآخر، لا تعيش فيها ولكنها ترحل إليها اسبوعيا. ثنائية تتلون بها هويتها العابرة للأوطان بصفتها ابنة زيجة لبناني ومصرية.
تقول نزار في أحد نصوص الكتاب:"نعم أنا أحفظ شارع الحمرا وشارع بليس وما بينهما حجرا حجرا. نعم لا يزال لي في بيروت أعمام ومنازل وقبر أبي، ونعم لا يزال لبنان هو البلد الوحيد الذي يعتبرني مواطنة كاملة الأهلية، بلا ملاحظات في الأوراق الرسمية. ولكني هبطت إلى أرض الواقع، وأدركت أن الوطن سيبقى بالنسبة لي زيارة من "م"، ونميمة ليلية مع كاسة المتي التي لا تنتهي. أغضب فجأة على أبي، وعلى الهجرة، وعلى الحرب، وعلى كل ما جعل لي وطنا بعيدا إلى هذا الحد. وأعود فأقول إننا شعب أدمن السفر، وأن فكرة الوطن في حد ذاتها قديمة ومستهلكة، قلما أتوق لها، وأنا أعرف نفسي دائما بأني ابنة العالم".
لكنها تعبر عن أزمة انتمائها لوطن على نحو آخر حيث تكشف ببراعة عن تماهي أزمة هويتها، ممثلة إياها بتراث المنفى لدى الفلسطينيين في تدوينة "مزاج صباحي" حين تقول :" يناديني جمال، يا جارة. من سطح منزله في القرية التي أنسى دائما السؤال عن اسمها. يرى شجرة مشمش في حديقة ما كان في يوم من الأيام بيتي(..) أنا في المنفى الرابع يا جار. بخير..
أشرب قهوتنا وأسمع فيروز. في خزانتي زعتر وزيتون وعلى أريكتي "تكايات" مطرزة، وعلى حائط الممر الخريطة التي نحملها كحجاب. على رفوفي كتب لمحمود درويش وإدوارد سعيد. أقرأ مدونة"م" لأتابع الوطن.
ماذا؟ أنا لبنانية ولست فلسطينية؟ حقا؟ يختلط عليّ الأمر مرات. فيروز تخرسني بـ"يا طير يا طاير على حدود الدني". آسفة سيدتي، فقد دخلت مرة أخرى في مهاترات تحديد هويتي. باقي يوم واحد على العودة إلى الإسكندرية. هناك تنتفي عندي أسئلة الهوية وأنتمي بسكينة للمطلق".
تنتمي هذه المدونة للمدونات التي تبدو أقرب لليوميات، مع وعي خاص بدورها كمساحة خاصة للكتابة، وبهذا بدت بالفعل كغرفة خاصة لكاتبة، لكنها في الوقت ذاته، ورغم سرية شخصيتها، حين قررت التدوين، عادة ما تستخدم لغة فنية، وأحيانا شعرية، وفي بعض الحالات تستخدم لغة سينمائية؛ لغة قادرة على الوصف بدقة شديدة، وبحساسية، تنقل الذكريات، فتنفض عنها غبار الزمن، وتستعيدها للحياة بألق خاص، تماما كمن تفتح خزانة قديمة أغلقت منذ دهر، لتكتشف فيها تذكارات عتيقة، تعبر عن زمن بعيد. كما تتأمل أحيانا صورا فوتوغرافية وتصفها بالكلمات، فتتجسد الصورة بفضل الدقة، لكنها تكسبها ايضا نوعا من الحياة، تربطها بسياقات خاصة بالزمن الذي تعبر عنه الصور، دون أن تتخلى عن الجانب الوجداني المتعلق بها.
من أبرز مزايا هذه النصوص جانبها الفني فيها الذي يعكس قدرات أدبية مميزة، في مستوى بناء النص نفسه، فبالرغم من أن نيرمين نزار في مواضع عديدة تبدأ تدويناتها للتعبير عن موقف مرت به، أو حالة شعورية خاصة، أو آلام روحها لسبب أو لآخر، لكنها لا تدخل إلى ما تريد قوله من باب الاعتراف، أو البوح فقط، بل تقوم بعمل بناء يستفيد من تراث القص والحكي، كما يعبر عن ثقافة الكاتبة التي تبدو واسعة الاطلاع، تغلب عليها ثقافة أجنبية. وأحيانا يتستر الطابع الفني للنصوص بتغيير الضمير من ضمير المتكلم الشائع في الغالبية العظمى للنصوص إلى ضمير المخاطب، حيث توجه نزار الكلام إلى شخص ما، قد لا تفضح هويته، لكنها تتكيء على وجوده لسرد ما ترغب في التعبير عنه.
شخصيا لا أستطيع أن أقرأ هذا النص، دون أن أضع فاصلا ما بين الشخصية الافتراضية التي توقع باسم ألكساندرا، وشخصية الكاتبة الحقيقية، وأظن أن هذه الحالة الافتراضية، حتى لو لم تع لها الكاتبة، تؤثر في النص، بدرجة ما، وتضع الحقيقة في صوغ يراعي الأدبي، والفني، باستمرار. كما أنه يجسد تيار وعي لشخصية، يمتزج فيها أكثر من مزاج وأكثر من حالة نفسية، مما يجعلها دائما على الحد الفاصل بين الافتراضي الخيالي، والداخلي الوجداني العميق، وبين الواقعي الفج.
هكذا مثلا أرى كيف تتناول الكاتبة أو تعبر، ككاتبة افتراضية، عن تعقد علاقتها بأبويها، وأزمة علاقتها بأمها، والطبقة التي تنتمي إليها، وتعلقها الشديد بأمها، وعدم قدرتها على التعبير عن مشاعرها تلك بوضوح كامل، عبر مواقف عديدة تشير إليها بين آن وآخر، وبينها التدوينة الحساسة التي افتتحت بها هذا المقال.
ثمة مستوى من أزمة العلاقة مع الأم تتجلى في الطبقة التي تنتمي إليها، وازدواجية الكاتبة بين الانتماء لتلك الطبقة، وبين طريقة حياتها التي تبدو عابرة للطبقات، وضد تراتبية فكرة الطبقة. وأيضا وبالأساس، تناقضات العلاقة مع الأب، الذي يظهر فقط، بعد وفاته، ورثائها لأب بديل، كانت اعتبرته أبا روحيا بديلا، حتى وفاته هو أيضا، ووصفها لموته بأنه الموت الذي اشعرها باليتم بالفعل.
المثير في هذه المدونة أن كاتبتها، على ما يبدو، قد تعرضت لفضح شخصيتها الحقيقية، من بعض متتبعي النمائم، وكما تشير هي في واحدة من التدوينات، لكنها في النهاية تقرر أنها لا تستطيع أن تنفي شيئا كتبته بصدق عن نفسها، فاستمرت، بعد انقطاع، في التدوين، وهو موقف أظنه يعكس شجاعة الكاتبة، لأنها قررت أيضا أن تنشر النصوص الكاملة للمدونة في كتاب.
"لا أود أن أعتذر من كل من يمر هنا. هذه صفحتي الخاصة وإن كانت لا تتضمن الهم العام، فهذا لأن له أماكن كثيرة، وليس لهمي الخاص مكان غير هنا. أما من يعرفوني ولأسباب متعددة يتألمون لما اكتب فعذرا ايضا لقد عرفتوني رغم ارادتي، وليس لأني افصحت عن نفسي. فلتتحملوا إذن آرائي الحقيقية في كل ما يجري وفي كل ما سببتوه لي".
لا يتوقف تميز نصوص الكتاب على صفة الشجاعة فقط في القدرة على التعبير عن الذات بلا قيود أخلاقية، أو كوابح اجتماعية، وعن الازدواجية في المشاعر أحيانا، أو تشوش العواطف، بالشكل الذي لا يجعلها تتخفى خلف ستار أخلاقي قدر ما يجعلها تسأل ذاتها، وتخوض التجربة، بحثا عن أسئلة أخرى، طالما أنها تعرف أن مشاعرها ووجدانها ينتفضان لهذا السبب أو ذاك. لا ليس هذا فقط وجه تميز النصوص، بل يضاف إليها ما تتسم به هذه النصوص من نبرة صدق، وأمانة مع الذات، تجعل الكاتبة تطرح على نفسها أسئلة خاصة عن معنى الخيانة والحب والطريقة المثلى للتعبير عن إعجابها بشخص، وغير ذلك بلا تردد أو مناورة.
كما يمتد هذا الصدق لقضايا أخرى، وبينها موضوع حساس هو معاناة اللاجئين السياسيين، الذي تتناوله في أكثر من تدوينة لتفضح بعض المواقف الخاصة بالمنظمات المعنية بهم عبر خبراتها كموظفة في إحدى الجهات الدولية المختصة في هذا المجال لعدة سنوات، وعهن علاقاتها هي مع هؤلاء الشخصيات حين تلتقيهم أحيانا بالصدفة هنا أو هناك.
تفيض نصوص الكتاب بمفردات، تتكرر كثيرا: القهوة، الأصدقاء، العزلة، القبلة الأولى، الأغنيات، فيروز، الحياة داخل الروح، أو بالأدق الحياة الداخلية لروح تعجز عن التواصل أحيانا مع البشر، الاكتئاب، الجو الشتوي، بيروت والأسكندرية، وغيرها مما يكون لوحة كبيرة عن شخصية الكاتبة، لكنها ايضا تؤكد أن هذا الجهد لو بذل في نص سردي فستكون نتيجته نصا مميزا، والشواهد عديدة، في اللغة الخاصة، وفي العديد من السمات التي تميز أسلوب الكاتبة.
هذه المدونة وكاتبتها تقدم نموذجا للشجاعة في تناول الذات، وفي تصوير نموذج لامرأة معاصرة متحررة، و التعبير عن المشاعر الداخلية العميقة لأنثى في حالات ومزاجات عديدة، وفي تأمل الروح عندما تتعرض لألم عميق، يتغذى على الاكتئاب.
نيرمين نزار في هذاالكتاب تعلن مولد كاتبة نتوقع منها الكثير لو استفادت من خبراتها في الكتابة الذاتية لصالح التخييل والسرد
إبراهيم فرغلي
النهاراللبنانية (في مارس 2009.
No comments:
Post a Comment