Sunday, March 2, 2014

منازل الوحشة للعراقية دنى غالي

 

منازل الوحشة لدنى غالي

بغداد ما بعد الاحتلال خلف الستائر المغلقة







أسدلوا الستائر، وأحكموا غلق الأبواب. هكذا فعل الكثير من أهل العراق، خلال فترة ما بعد الاحتلال بحثا عن الأمان، وتلافيا لضجيج القنابل، ومشاهد الدماء، خارج المنازل والبيوت، وهروبا من الشوارع الخلفية التي يتجاذبها اللصوص والميليشيات المسلحة وقوات الاحتلال.
وهكذا فعلت الكاتبة العراقية دنى غالي في روايتها "منازل الوحشة" الصادرة عن دار التنوير للطباعة والنشر ودار محمد علي. إذ أسدلت الستائر وأغلقت الأبواب على بطلة العمل وزوجها أسعد وابنها سلوان. ثم عادت البطلة في وقت لاحق  لتغلق الأبواب عليها ومعها ابنها فقط، بعد رحيل زوجها إلى عمّان حين استحالت ظروف حياة طبيعية له بسبب المتغيرات، والقلاقل والرعب الذي وسم الحياة اليومية في بغداد، ليستكمل تشتته بين سوء الحظ والضعف.
في تلك العتمة، والأمان المصطنع، نسمع صوت الراوية وهي تحكي لنا مخاوفها، من الحاضر المجهول، وأملها الشاحب في غد أكثر أملا. مونولوج رشيق هادئ وممتع، ويا للمفارقة، في رصده لأكثر تفاصيل الحياة مللاً، ورعبا، خصوصا فيما يخص هواجسها الرئيسة عن ابنها سلوان. ضحية العنف والنظام السابق والتجنيد الإجباري والخوف واللا أمل. الشاب القابع دوما في غرفته، لائذا بوحدته، وببعض أغنيات يحبها وتصل إليه من المذياع، أو بالكتب التي تميز بيتا يبدو أنه بيت والدين، هما الراوية وزوجها أسعد، من الطبقة المتوسطة المثقفة.
وفي تلك الغرفة عاش سلوان متوحدا مع مخاوفه، وأزماته العديدة التي تتراوح بين عدم الثقة في الذات، والعلاقة المركبة مع الأب، وبعض الذكريات السيئة، متعايشا مع حبات أدوية الاكتئاب والمرض النفسي الذي يشتت ذهنه ويصيب والديه بالحيرة والعجز، تاركا لأمه ، خارج الغرفة، الوحدة والقلق والأسئلة عن طبيعة ما يمر به، ورعبها من مداهمات قوات الاحتلال، ومما  يتعرض له أبيه من متاعب، بل والخوف عليه من نفسه حيث حالت بينه وبين الانتحار في لحظة من أكثر لحظات حياتهما رعبا وألما.
وستظل هي خارج الغرفة تعيش بحثا عن الأمل لتقاوم مخاوفها بينما حواسها مشغولة بالشاب الذي يغلق على نفسه باب غرفته، تكاد تنصت لأنفاسه وتحاول أن تخمن ما يفعله بين كل دقيقة وأخرى، منشغلة في محاولة فهم مدى عمق أزمته وحتى  الارتياب في هويته الجنسية والشكوك المنقولة لها عبر زوجها فيما إذا كان طبيعيا أم مثليا.

لغة دقيقة مغزولة بالجمل القصيرة التي تحمل كل منها وصفا عابرا لليومي المنهك نفسيا وبدنيا، ولا تنوء بحمل الذكريات البعيدة التي تنسج منها الراوية صورة واسعة لعائلة البطلة.

أبو البطلة، صاحب الشخصية القوية، المنعزل، في الوقت ذاته، عن الواقع يأسا، مستبدلا به صحبة أصدقاء قدامى، والأم التي تباري الأب في قوة الشخصية لكن علاقتها بالابنة معقدة، وشبه منعدمة، ومع ذلك فهي تلعب أدوارا أساسية في حياة الابنة خصوصا في أحلك الأزمات، فهي التي تلجأ لعشيرتها وتقوم بالمفاوضات التي تنجح بها في إعادة أسعد، زوج ابنتها الذي تعرض للاختطاف، مقابل فدية. كما أنها تزور ابنتها عدة مرات، رغم انقطاع الطرق ومخاطر الشوارع. بعد رحيل الزوج إلى الأردن.
كاشفة عن مشهد الطائفية والقبلية الذي يبدو للجيل الثاني، جيل الراوية، مشهدا غريبا قادما من ماض سحيق، كانت مظاهر الدولة العصرية قد محته من الساحة، لكن أحدا لم يدرك أن ما بدا ساطعا بالعصرية ووحدة القومية العراقية لم يكن سوى غطاء من رماد،  لا تزال جذوته مشتعلة، وتحولت في زمن الاحتلال إلى نار تنفث اللهيب في وحدة العراق وكيانها الجديد.
وبرغم علاقتها المعقدة مع ابنتها فإن الجدّة، أم الراوية، تقحم نفسها على بيت الإبنة من أجل أن تخفف عن الحفيد سلوان، بل وتكون سببا في خروجه من شرنقته حين تصطحب معها ابنة الجيران؛ أسل، الشابة الصغيرة المطلّقة من زواج بائس غير متكافئ، الشاعرة، ذات الروح بالغة الحيوية، والتي ستغدو السبب الرئيس في إعادة سلوان إلى الحياة مرة أخرى. بل وفي قرار زواجه منها، واصطحابها إلى دمشق ليبدآن حياة جديدة بلا خوف.

يحافظ النص على نبرة خاصة، من مبتدأه إلى منتهاه. نبرة تشبه حياة البشر في بغداد في تلك الفترة. يتجلى فيها التشبث بالأمل في الحياة، ومحاولة إخفاء المخاوف والقلق، الذي تفضحه العيون، وحالة التوتر التي يمشي بها البشر في الطرقات. فيما تذكرهم ضربات القلب المتسارعة بأن الخوف يلازمهم وإن أمنوا داخل بيوتهم.
تأتي لغة النص، في جمل قصيرة مكثفة، بلاغتها تتحقق من قدراتها التي تمزج الوصف الخارجي بالحالة النفسية الداخلية، أو استعادة الماضي والذكرى ومزجها بمناطق التقائها بالحاضر وفق التداعيات الذهنية أو وفق ظروف الوقائع اليومية، إضافة إلى بساطة العبارة دون إخلال بقدراتها على أداء الدلالة باقتصاد، وهو ما يعني الاختيار الدقيق للمفردات بحيث تؤدي المعنى المقصود بلا التباس،  وهو ما يميز هذا النص كاملا.
 تبدو الكاتبة في هذا النص مثل عازفة موسيقية، تصل موسيقاها لروح المتلقي فينتشي، لكنه يشعر في الوقت نفسه بمزيج من الغضب والحزن والأسى من دون أن يتخلى العزف عن رشاقته. بصوغ آخر، فإن دنى غالي هنا لا تتخلى عن نبرة السرد رابطة الجأش، تصف بها أعلى لحظات التوتر الإنساني والخوف، دون أن ينتقل التوتر للغة.
تتنقل بين دواخل أبطال العمل برشاقة، وتنقل أحاسيسهم الداخلية عبر وعي الراوية، بلا تعسف. وبرتوش قليلة تصل للعمق. خصوصا في وصف مشاعر الحب الحميمة في مرحلة التوتر التي كانت تعانيها هي وزوجها، ومقارنة علاقتهما الحميمية في بدايات العلاقة. كذلك في علاقتها العابرة بصديق العائلة، حسام؛ الطبيب المخول بعلاج سلوان، الذي أحست تجاهه بمشاعر متناقضة وبرغبة تركت نفسها لها، فيما جاءتها ملاحظة الابن لاحقا، كرجل خبير، وهو يوضح لها أنها تكاد تقع في غرام مثلي فتنفجر بالدهشة من عدم قدرة غريزتها الأنثوية على التقاط ما بدا جليا للابن، ولإحساسها بأنها خدعت على نحو ما، إضافة لشعورها بانضمام سبب آخر إلى قائمة إحباطات حياتها التي تبدو فيها منقادة على نحو ما، لا تمتلك إرادة تشبه إرادة أمها التي تزوجت بعد أبيها أكثر من مرة، والتي تبدو امرأة تعرف دوما ما تريد حتى لو كانت حياتهما في النهاية قد تشابهت من حيث الإغراق في الإحباط والرعب واليأس.
ظلال ألكترا وأوديب تظهر في النص من خلال العلاقة المعقدة مع الأم، علاقة شديدة التعقيد.. الأم الشديدة بشكل يميل الى ما يمثله التراث الذكوري، مستقلة، قادرة على تحمل الرعب، حين ترى الأشياء توصفها وتحدد تشخيصها. لم تبال بكل تبريرات ابنتها العاطفية عن المتاعب النفسية لابنها واختزلتها في احتياجه لممارسة الجنس (ولاحقا حين تقوم الجدة بتوفير الفتاة التي سيتزوجها الحفيد تحل جانبا كبيرا من مأساته)، وهي أيضا الأم التي تخفي الجانب القبائلي في أعماقها لكنها الورقة التي تربح بها وتستخدمها لغطلاق سراح زوج ابنتها من الخطف على أيدي بعض الميليشيات المسلحة. لهذا تبدو الإبنة رغم إحساسها بالنفور من أمها تشعر باتجاهها بشكل ما بنوع مضمر من الإعجاب الذي لا يمكن لها قطعا ان تعلنه.ثم هناك علاقة الذاكرة بالأب، الذي يرمز ربما أكثر إلى عراق الأمس، التي باتت حلما.
في النهاية تتشتت الأسرة، ربما مثل كثير من أهل العراق. كأنما يقول النص أن ما انفرط عقده حتى لو أصلحته الأيام ربما لن يعود كما سابق عهده.
رواية أخفت الكاتبة فيها الصنعة بموهبة لافتة، وقدمت نصا جميلا عن فصل من فصول المأساة العراقية ومعاناة شعبها بعد الاحتلال.

 نشرت في النهار اللبنانية في أكتوبر 2013



No comments: