Thursday, September 27, 2012

يا رب أعطنا كتابا لنقرأ..لمهاب نصر


يا رب أعطنا كتابا لنقرأ..لمهاب نصر

صياغة شعرية فلسفية لأسئلة الذات والآخر والوجود




إبراهيم فرغلي

بعد صمت شعري طويل، ومريب، أطل علينا، أخيراً، الشاعر مهاب نصر بديوانه الثاني "يا رب .. أعطنا كتابا لنقرأ" الصادر عن دار العين للنشر. وكان ديوانه الأول قد صدر بعنوان "أن يسرق طائر عينيك" في العام 1997.
يعود نصر بنبرة صوت مختلفة، بالأحرى، بصرخة شعرية لصوت بدا مكبوحا لسنوات، قبل أن يجد ثغرة ينفجر منها، ما يمنح الانطباع بأن الشعر كان يتمخض ويعتمل في ذهن الشاعر، لكنه كان شاردا عنه في انتظار اكتماله.
مع ذلك فهي ليست صرخة عشوائية أو صاخبة، بل محسوبة شعريا، تتلون بلون خاص قوامه صور مستعارة من معين السرد، ومغلفة بأسئلة وجودية وفلسفية.

نبرة تمنح الشاعر الفرصة لتقديم صور شعرية أشبه بالصور التي يتم مطها، أو مدها قليلا لتبدو غير واقعية دون أن تتخلى عن جوهر واقعيتها (قبل أن أكون الصوت الذي وراء الشجرة/ كنت كلبا مربوطا/ في الجذع المارد/ الذي ينتهي بقمر في حجم وجه)،  وأحيانا تشكل هذه النبرة صورا داخل كادر واقعي لكن الصور التي تتبدل داخله بسرعة هي التي تبدو وكأنها تتعرض للمد، قصدا وعمدا، ليُفقدها الشاعر واقعيتها محولا إياها إلى صورة تمتح من الخيال الشعري. اي كأن الشاعر يقوم مرة بمط الصورة الشعرية كلها، وأخرى يقوم بمط العناصر الداخلية للصورة.  يبدو هذا الأسلوب الأخير عاكسا للتوتر المقصود التعبير عنه في القصائد وبحث الشاعر عن المعادل الخارجي للتعبير عن الفكرة الباطنية والتجربة التي يمر بها.
توتر يجمع الزمن من شتات الماضي، ويكثفه عبر صور خاطفة لكي يمرر بها نبرة ساخطة، ورؤية ناقدة للذات وللآخرين معا، للماضي الشخصي للفرد، بوصفه جزءا من ماضي الجماعة.

"يجب ألا نمارس الفلسفة إلا بشكل قصائد"، هكذا قال هايدجر يوما، للتأكيد على دور أساسي، وربما مفقود، للغة في تدوين الفلسفة، لتخليصها من التجريد وتحويلها إلى صور. ويبدو لي أن هناك التزاما غير مباشر بهذه المقولة من مهاب نصر، لكنه هنا يتحرك من منطلق عكسي يرى أن الشعر، حتى في تعبيره عن اليومي والحياتي، ينبغي أن يعكس حسا فلسفيا أو رؤية فلسفية للوجود ولأسئلة الذات تجاه نفسها وتجاه الآخر والعالم معا. او على الاقل هذا ما يتبادر لذهني حين اقرأ مثلا "باحثاً عن ممر/ لاكتشاف ذاتي/ وجدت مفتاحا يلمع/ بين اسنان بيضاء/ صرختي سقطت الى قدمي/ افكاري/ جعلت اصابعي باردة/ وبعيدة عن مركز ارادتي / الذي حل مكانه/ نوع غامض من الالم".
او حين يقول : "يا أخي/ يا صديقي/ لن تكون هناك ثورة ابداً/ إلا حينما يستيقظ الموتى/ حينما يختلط الزمن/ فندخل ونخرج/ مثل كومة مشطورة من أوراق اللعب/ نسحب ماضينا/ مثل ورقة في أول الدور/ مدركين جميعا أنها مجرد لعبة".

هناك إحساس عام في هذه القصائد بإحالة الذاتي على الآخر، أو إحالة الفردي على الجماعي. بمعنى أن القصيدة التي عادة ما تبدأ من صورة فردية لذات الشاعر الافتراضية التي يأتي التعبير الشعري على لسانها، سرعان ما تُجري مقاربة على مجتمع كامل أو تاريخ عام مشترك تجمع ذات الشاعر مع جماعته التاريخية.
ثمة قصائد أخرى تضيء أفقا آخر هو الإشارة إلى أن كل مأزق فردي يمر به شخص ما في مكان ما في العالم، يشاركه في المأزق ذاته آخرون سواء كانوا ينتمون لنفس الثقافة والجغرافيا أو يتفرقون بين ثقافات مختلفة وجغرافيات متباعدة.
مثلا في قصيدة إهانة يقول: "كلما نقص راتبه/ ارتاب في نوايا العالم/ يغلق نافذته/ ويقرأ/ مشمرا كميه كمن يستعد للإهانة/ لكنه كلما قلب صفحة / احمر صدغاه اكثر/ انا ايضا/ كنت اشعر بالصفعة نفسها/ رغم انني كنت اقرا في كتاب مختلف تماما/ ولراتب يفوق ذاك الذي يعذبه". وهناك قصيدة أخرى تحتمل ذات المعنى بعنوان "في ردائه البرتقالي".

 أما ابرز سمتين في قصائد هذا الديوان فهما التقاط الشاعر لصورة تبدو ذاتيه لكنه يعبر بها عن ملامح صوت شعري يتقمص صوتاً خاصاً، كما هي طريقة تكون الشخصية في السرد، كأنه تعبير عن الصور المختلفة للذات أو كطريقة لرؤية الذات في مرايا ينعكس فيها كل مرة شخصاً مختلفاً وإن كانت الأسئلة التي تؤرقه واحدة. لهذا كثيرا ما يستخدم الشاعر ضمير الغائب. "يضرب على فخذه / وينهض كأنما يوجز موقفه من العالم"، أو "لا يعرف النوم الا حين يكونون هناك"، أو كما في قصيدة أمي:"مكان قدمها الغليظة/ كان عكازها/ ومكان عكازها / كانت روحها تضرب الأرض/ في الغرفة المجاورة/ تاركة حفرا صغيرة/ هي ما أسميه حياتي"

هنا إذن محاولة لتخليص القصيدة من الضجر الذي قد تولده الغنائية والجملة الشعرية المجردة، وأظنها أيضا محاولة توصيل التعبير المناسب دون الإخلال بالتجربة الإنسانية المطمورة تحت تجارب الحياة العادية.
أما السمة الثانية فهي النبرة الساخرة وربما الحادة التي تتسيد مناطق واسعة من الديوان، صوت ينتثر في ارجاء الديوان يتلون بمزيج مدهش من السخط والتعاطف الإنساني معا. لأنه ربما ينطلق من أسئلة صادقة وإنسانية أكثر من كونه تعبير عن انتقاد سلبي لخطايا بشرية. كما في قصيدة يا رب اعطنا كتابا لنقرأ :"بطريقة ما/ كنت معلما/ بطريقة ما/ اعتبرت ذلك طبيعيا/ لهذا صرت انحني لكلمات لم أقلها/ وأنقل تحياتي الى ابنائي/ أحاول أن أُفهمهم أنه ضروري جداً/ للواحد ان يقرأ/ أن يستعيد مع والديه/ وهو يلقي حذاءه أسفل السرير/ كم الاحترام مجهد وجميل/ ألّا مستقبل لهم بلا كلمات/ أنت نفسك يا بابا/ تنحني فوق الجريدة / وكأن سحابة تعبر فوقك/ وحين أناديك /أرى جبهتك/ المدموغة بالحزن/ كما لو كانت تمطر لأجلك بالذات/  اقرأ يا بابا وناد أمي أيضا لتقرأ/ دع السحابة تمر فوقنا جميعا/ يا رب/ أعطنا كتباً لنقرأ../ كتباً برائحة الصمغ وصفحاتها كالسكاكين/ كتباً/ تسعل في وجوهنا بالغبار/ لنعرف أن حياتنا مقبرة".
ثمة تطويع للانفعال والعاطفة للتعبير عن العالم، بمعنى أن هناك رؤية عميقة خلف القصائد خصوصا تلك التي تمتلك طاقة كبيرة في توليد الدلالات بالرغم من انها لا تخرج عن الإطار العام الذي انتهجه مهاب نصر والممثل في الاتكاء على طاقة السرد المشحونة شعريا في كل قصائد الديوان،  ونموذج هذه القصيدة الرؤيوية "أغنية الحنان:"دفعنا ابواباً، موائد وكراسي بالأقدام/ اعماقنا حجارة خفيفة ومشطوفة نقذفها باتجاه البحر/ فتقفز على سطوح الأمواج ملسوعة وضاحكة/نحن دببة الشعر الكسالى/ نجلس على مؤخراتنا ونتطوح/ نتفلى / حتى تدمى الأصابع/ ويلكز بعضنا الآخر مناديا بالأسماء كي لا ننسى" وفي نفس القصيدة ايضا يقول:"القاتل كان منا/ طوّح بزجاجة وبكى/ عالم رياضيات وعاشق فاشل / وعلماء رياضيات قادمون من غرف ضيقة/ من القرن التاسع عشر/ من الحوائط مقشورة الطلاء/ المسجل عليها حسابات القيامة ودوائر الجحيم/ ودائما بالبتسامة الملتوية/ لفم يعجز عن اكتناه المسرات".
ديوان يستحق أكثر من قراءة وإضافة للقصيدة الجديدة بما يقترحه من رؤى شعرية مختلفة، ونبرة شعرية تظل تلاحق من يقرأها كأنها شبح الشعر المارق، فعودا حميدا لمهاب نصر.


 نشرت في صحيفة النهار البيروتية في 7 سبتمبر2012









No comments: