Monday, July 9, 2012

في لعبة"من يخسر يربح" الأدب يربح دائما!



 

"الأدب والالتزام" لبونوا دوني


 إبراهيم فرغلي 



هل يكون محكوماً على أدبنا دائما الذهاب والإياب المضني بين الواقعية السياسية والفن للفن؟ بين أخلاقية الالتزام والصفاء الجمالي؟ بين التلوث والطهارة؟ لعل هذا السؤال الذي طرحه رولان بارت هو أنسب ما يمكن أن يعبّر عن السجال الذي يبدو كأنه يرصد تاريخ الأدب حول مفهوم الالتزام ومدى قدرة النص على الاستقلال بكيانه الذاتي عن المعايير والقيم الاجتماعية والسياسية والمواقف الإيديولوجية التي يؤمن بها الكاتب. وهي، في الوقت نفسه، مقولة توجز جوهر كتاب "الأدب والالتزام" للباحث الأكاديمي البلجيكي بونوا دوني الذي صدرت ترجمته العربية بتوقيع الكاتب والناقد محمد برادة عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة.

 يتناول بونوا هذا السجال راصدا تاريخه في الثقافة الفرنسية؛ موليا أهمية كبيرة لنموذج الالتزام لدى سارتر، متكئا على كتابه "ما الأدب" الذي ضمّنه كثيرا من رؤاه حول الموضوع، وهي في الوقت نفسه الافتراضات التي شهدت معارضة واسعة من المتحيزين للنص الحداثي غير الملتزم، وفي مقدمهم رولان بارت الذي بدأ معارضة سارتر منذ الستينات.

 يؤكد بونوا أن السجال موضوع يخص القرن العشرين على نحو خاص، فهو القرن الذي شهد من التحولات السياسية والحروب ما جعل دور الكاتب محل تساؤل، مركزاً على ثورة 1917 الشيوعية في هذا الطرح الذي خلق دورة واسعة من دورات هذا الجدال وأزمة الكاتب بين الإخلاص الكامل للفن ولاستقلال النص الإبداعي، وبين التزامه مواقف محددة يدرجها في كتاباته.

ولأن بحث سجال من هذا النوع واختباره يقتضي تعريف الإلتزام ثم تدوينه تاريخيا، يرى المؤلف أن هذا التدوين يمكن أن يكون سهلا بمقتضى اقتراح بارت، أي بوضع النص الأدبي في إحدى سلتين، الأولى تختص بنصوص جمالية منقطعة الصلة بأي علاقة بالمجتمع، والثانية تختص بنصوص الواقعية السياسية: "ومهما يكن من سهولة هذه الفرضية وجاذبيتها، فأن علينا مع ذلك أن نحترس من المبالغة في أهميتها وملاءمتها، ذلك أننا بالانشداد إليها نخاطر بأن نختزل تاريخ الأدب إلى تأرجح بين أدب خالص وأدب اجتماعي، وإلى حركة تناوب دوري بين ممكنين أدبيين متطابقين دائما، وهذا سيقودنا إلى أن نقدم عن الأدب وتطوره رؤية مغرقة في التبسيط".

 يحدد بونوا عوامل ثلاثة لظهور الأدب الملتزم في شكله النوعي المميز خلال القرن العشرين: بروز حقل أدبي مستقل عن المجتمع والسلطة نحو عام 1850 مكوّنا ظاهرة حللها بيار بورديو كثيرا، موضحا تأكد هذا الإغلاق للحقل الأدبي من خلال المسافة التي اتخذها الكاتب تجاه الراهن السياسي والاجتماعي ومن خلال تركيزه على الاهتمام بالشكل بما يكفل خصوصية ممارسته واستقلالها. أما العامل الثاني فهو ظهور دور اجتماعي جديد يقع ما بين هوامش الأدب والجامعة، وهو دور المثقف في الفترة المفصلية بين القرنين التاسع عشر والعشرين. والعامل الثالث الذي ساهم في تشكيل فكرة الالتزام هو ثورة 1917 بسبب التعلق الفرنسي المحض بفكرة الثورة؛ إذ اعتبرها الكثيرون امتدادا لثورة 1789، إضافة إلى دور الثورة في الحلم بعالم طوباوي بلا طبقات.

 ويرى بونوا أن التأثير الأكثر وضوحا لهذا الانتماء الثوري ما بين العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، هو التسييس الواسع للحقل الأدبي الذي انقسم ليس فقط بين يمين ويسار، بل انقسم خصوصاً بين كتاب ملتزمين وغير ملتزمين. يناقش المؤلف معنى الالتزام وارتباطه المشروط بمشروع أخلاقي، لكنه يفرق في النهاية بين الأدب الملتزم وما يسمّيه الأدب المناضل، موضحا أن "الأول يأتي إلى السياسة لأن في ساحتها تتجسد رؤية الإنسان والعالم التي تحملها، بينما الثاني هو من البدء ودائما أدب سياسي". كذلك فإن الكاتب الملتزم قلما يكون منضويا في حزب ولا يحس نفسه ناطقا باسم مذهب سياسي، ونصوصه تظهر، بالأحرى تناقضات مشروع تبدو فيه السياسة، في معيار الأخلاق، كأنها غالبا شر ضروري بدلا من أن تكون اختبارا إيجابيا.

 أهمية الكتاب في ظني أنه يميط اللثام عن كثير من الالتباسات التي يعانيها المناخ الثقافي العربي الذي يشهد مثل هذا السجال على مستويات عدة، سواء بين أجيال مختلفة من الكتّاب أو من أفراد داخل الجيل نفسه، ويختبر مقولة بارت التي فرّق فيها بين ما سمّاه الكتبة والكتّاب، في تمييزه بين الكاتب الملتزم ونقيضه.

ولعل ردود الفعل على الحرب الأخيرة كانت أحد فضاءات اختبار هذا الالتباس بين فريق من المثقفين غير اللبنانيين بادروا إلى الكتابة بتكرار ما يقوله المواطن العربي في كل مكان، أو بعض من كتبوا بخفة من منطق جمالي من دون أن يدركوا أنهم انتقلوا إلى ملعب السياسة التي تحتاج إلى أدوات لا يمتلكها الكاتب في الضرورة، في حين فضّل البعض الصمت. الكتاب، رغم تناوله الالتزام منطلقا من تاريخ الأدب الفرنسي، يقيم تماساً مع تاريخ الأدب ومع الفضاء العربي الذي لعب سارتر دورا كبيرا ومؤثرا فيه وخصوصاً خلال الستينات. لكن بونوا يرى أن من غير المفيد معارضة الأدب الملتزم بأدب طليق، ويقترح القول بوجود إمكان لـ"التحرر من الالتزام" يتمثل عند الكاتب في أن يختار الصمت. عندئذ يتعلق الأمر بإرادة في التملص من العالم ومحدداته من طريق اتخاذ موقف انسحاب يستثني الكاتب من الوضع البشري المشترك، وهذه هي بالضبط محاولة الأدب الحداثي الأساسية: الانعزال عن العالم وتعليق حقيقته ليتمكن الكاتب من مساءلتها بأفضل السبل وإثقالها بتساؤلات ليس لها جواب. ويوضح بونوا أن هذا الرأي كان أهم ما نادى به معارضو سارتر وخصوصاً بارت.

 يناقش الكتاب أيضا فكرة الحضور الشامل للكاتب الملتزم واقتران هذا الحضور بفكرة البطولة المشفوعة بالأخطار التي يتعرض لها الكاتب الملتزم، فولتير وقد أوسع ضربا أو سجنا، هوجو منفيا في كيرنيزي، زولا محاكما بسبب مقالاته التي كتبها بعنوان "إني أتهم"، والكتاب المقاومون المبعدون إجمالا. هنا يحيلنا الكاتب على ما يسميه اللعبة المزدوجة للعمل الأدبي ولحياة الكاتب، ونتيجة لذلك يتحرك الأدب الملتزم داخل فضاء مشكوك فيه وملتبس إلا أنه غني بتقاطع موضعه بين الشهادة التي تمثل الدرجة الصفر والتخييل الذي هو صيغة الكتابة الأسمى وربما الأكثر أصالة.

 يتأمل الكاتب ظواهر عديدة مرتبطة بالالتزام الأدبي، مثل التعلق بجمهور عريض والاهتمام بالآني من دون أن يكترث كثيرا باللاحق، وهو موقف يتمزق له الكاتب الملتزم بين جمهورين، إذ عليه أن يكتب ضد جمهوره الحقيقي ليناهض امتيازاته، وفي الوقت نفسه عليه أن يكتب من أجل جمهوره الافتراضي لكي يحضّه على أن يحرر نفسه، إضافة إلى متناقضات الالتزام بين الشكل والمضمون الذي يعوّل عليه الكاتب الملتزم كثيرا، ويناقش فكرة سارتر عن استثناء الشعر بوصفه الجنس الأدبي الأكثر جمالية وغير القابل للالتزام، مع مراجعة ما يسمّيه أجناس الالتزام الأدبية مثل المسرح والنص والرواية.

 يوضح بونوا في الجزء الثاني من الكتاب بناء على كل ما أشار إليه، أنه إذا كان الأدب الملتزم ظاهرة حديثة نسبيا فإن أدب الالتزام وجد دائما من خلال أشكال عدة راوحت بين الشعر الاحتفالي والتاريخ الرسمي والكوميديا والمقالات الهجائية وغيرها، وهو ما يبني عليه دراسة مدققة لكتابات تعود إلى القرن السابع عشر بدءاً من باسكال الذي يصفه بأنه أحد عظماء الالتزام، وفولتير مجسدا دور الفيلسوف في السيطرة على كل أدوات المعرفة والكتابة.

وإذ يمر بالرومانسيين الذين أقاموا علاقة فريدة بين الأدب والسياسة، يتوقف أمام نموذج فيكتور هوجو (1802-1885) فيرى أنه الوجه الفاتن لقدرته في الحفاظ على استقلال النص الأدبي وفي أن يتكون، بوصفه خطابا سياسيا أو اجتماعيا. هذا التبني المزدوج لوظيفة الأدب الذي لم يجسده أحد مثلما فعل هوجو، تعتبره الحداثة متناقضا وغير قابل للتحقق، لذلك، فعلا، فإن هوجو ليس حداثيا وتبدو تجربته في الالتزام، على روعتها وفتنتها، كأنها غير قابلة للاستنساخ.

 لعل هذه الصيغة المتفردة التي عالج بها هوجو الإشكال التاريخي، هي من الوجوه التي يميل إليها الكاتب بعيدا عن رصده المتأني للظاهرة في ذروة تألقها في العصر الحديث، قبل الحرب العالمية وخلالها، وتأثيرها حتى على السورياليين الذين تحولوا في اتجاه الثورة الشيوعية، وبعيدا عن هذا الرصد وصولا الى انحسار الالتزام في الثمانينات وعبر إشارات متناثرة قي أرجاء الكتاب، تبدو معها فكرة الالتزام النضالي والنقاء الجمالي الخالص وجهين لعملة واحدة. وليس أدل على ذلك من اختتامه الكتاب بهذه الفقرة: وهنا في النهاية تمثل المفارقة: إن النقص في الالتزام الذي يبدو اليوم هو العلامة التي يكتب تحتها الأدب الأكثر وعيا ينكشف أيضا عن أنه هو حظه؛ فالفضاء المتروك عاريا نتيجة لانحسار الالتزام يبذل الأدب جهده ليستعيده جاعلا من ذلك الالتزام المخطىء علامته المميزة ومأساته الحميمية الرائعة.

نشرت في ال(النهار) اللبنانية - 2009 

في لعبة"من يخسر يربح" الأدب يربح دائما!