Sunday, June 19, 2011

إيثاكا رؤوف مسعد..رحلة نفتعلة للبحث عن الغواية



إيثاكا" لرؤوف مسعد: رحلة مفتعلة للبحث عن غواية الجسد

إبراهيم فرغلي


"حبيت اقرا لوليتا من تاني اشوف ايه اللي خلاها رواية مشهورة. لقيتها بصراحة ساذجة بل وفيها ثرثرة أكثر مما يجب. دي مشكلة عند الكثير من الكتاب. يظنون أنفسهم معلمين للبشرية اللي قاعدة على نار منتظرة الحكمة طالعة متوهجة سخنة من ..."
هكذا يقول الراوي في مقطع من رواية "إيثاكا" لرؤوف مسعد, ولا أعرف لماذا وجدت في هذه الفقرة موجزا مكثفا يوصّف انطباعي حيالها، كأن رؤوف مسعد وفر لي ما أريد أن أقوله من متن العمل ذاته.

هذه رواية مفاجئة، بالمعنى السلبي، على أكثر من مستوى أولها أنها تتوسل التجريبية، لكنها لا تحقق بها إلا نوعا من الثرثرة لم تكن من سمات الكاتب في رواياته اللافتة "بيضة النعامة"، و"مزاج التماسيح"، و"صانعة المطر" على الأقل. وتاليا يفترض أنها رواية إيروتيكية، بينما لا تتضمن بناء مكتملا لرواية من هذا النوع، بقدر ما تبدو نسيجا سرديا رخوا مطرزا برقع من هواجس شهوانية، شبقية، وفيتيشية، ذات حس ذكوري منفر، بالرغم من أن موضوعها الأساسي هو المثلية الجنسية، والبحث في العمق النفسي عن الجانب الأنثوي المطمور أو الكامن لدى الذكور والعكس.
 على امتداد القراءة بدت لي تجربة الكتابة أشبه ما تكون بمحاولة من الكاتب للتطهر بالمفهوم الأرسطي، أكثر من كونها نصا إبداعيا روائيا. ربما تبدو الجرأة أحيانا مبهرة، خاصة عند تجليها في هذا النوع من النصوص التي تسير على الحافة بين الفن والسيرة، لكن الجرأة وحدها لا تصنع أدبا، كما يعرف رؤوف مسعد نفسه بالتأكيد.
  ورغم ما يتضمنه النص من تقنيات عديدة؛ مثل السرد العادي المتقاطع مع التدوين بأسلوبه الارتجالي الكاشف، متخليا عن كل تقاليد البورجوازية المتحفظة، متخففا من ثقل الرسميات الكتابية والاجتماعية معا، ثم بتقاطع هذان المستويان بمستوى المونولوج الذي يخاطب شخصيات ميثولوجية، إلا أن هذه التقنيات لا تخلق في النص تدرجا حقيقيا في نسيج السرد الذي يبدو في النهاية مسطحا، أو كأنه تنويعة لحنية على مقام واحد.
يبدو هذا النص إذن كمحاولة لعزف ارتجالي، لكنه، يخلط بين الارتجال الذي لا ينبغي له أن يحيد عن أصول السلم الموسيقي، وبين النشاز بدعوى أنه في النهاية عزف مرتجل.
 هذا النشاز هو ما يوقع النص في وحل الافتعال الذي يتجلى في مواقع عديدة، ويبلغ ذراه في الخطاب المتخيل الموجه لشخصية سعاد حسني .إذ جاء سقيما مملا، خاليا من العاطفة أو حتى التخييل الذي يمكن أن يوهم القاريء بحضور شخصية مثل سعاد حسني لها في الخيال والمذكرة الشعبية حضور طاغ لا يمكن الاستخفاف به كما فعل الراوي في النص عبر الصوت الذي أعارها إياه، مازجا حواره بحوارها بدون تقطيع، بما يحيلنا على تقنية من تقنيات البرتغالي الكبير ساراماجو، لكن مع فارق شاسع في المضمون.
  النص المفاجيء يصبح صادما، وهي سمة من سمات كتابة رؤوف مسعد على أي حال، إذ يقتحم التابوهات الجنسية والدينية والسياسية، كما يتعرض للفيتيشية بأنواعها، يتأملها رصدا ووصفا، ويؤصلها تنظيرا. ويفتح أقفالا صدءة أغلقت أبوابا، كثيرا ما تجنبتها النصوص الأدبية، استجابة لقوى أخلاقية ومتزمتة عدة. الأبواب التي تخفي تراثا من المسكوت عنه في موضوعات شائكة من قبيل المثلية الجنسية، والاستعراض الجنسي، والجنس الجماعي، والتبادل، وغيرها، كما يرصد بعض الممارسات الدينية التي تتسم بنوع من التناقض، ويبدى تحمسه للسماحة التي تجعل المتصوفة يقبلون أي فرد دون النظر إلى دينه مؤكدين نموذجا من الاحترام الحقيقي للآخر.
يرصد الراوي؛ المدون الذي يعمل مرمما ولا نعرف اسمه، على امتداد النص وقائع ما عرف بواقعة "كوين بوت" التي تم فيها التحقيق مع عدد من نزلائها بوصفهم ممارسين للمثلية. ويقدم خبرته في المثلية وكيف اكتشف ذلك الجزء الأنثوي في نفسه.
لكن اقتحام التابو الجنسي هو الذي يأخذ مكانا مركزيا في النص، فالراوي يقدم، تأريخا لعلاقاته الجنسية، مرتادا آلة الزمن التي تجسدها الذاكرة. يصف العديد من المشاهد الجنسية، بعضها مكتوب بإتقان، وبعضها مفتعل. مشاهد تدور في حدائق خيالية، أوعلى أرائك القطارات، وفي الحانات الليلية، أو في أركان منعزلة هنا وهناك، يحاول بهذه التجارب إعادة اكتشاف جسده، كوسيلة لإدراك روحه أو تحريرها، وبالتالي التعرف على الآخر، رغم تأكيدات هذا الراوي المستمرة احتقاره للآخر بشكل مباشر، كما يتجلى في علاقاته الاعتيادية وسبه المباشر للبشر. وبشكل ضمني يتجلى احتقاره للجانب الأنثوي فيما يسميه "الافتراس" في العلاقة الجنسية، واستخدامه لكلمة "أكل" كمرادف من مرادفات الفعل الجنسي، ما يعكس تناقضا لا يمكن فهمه، ولا حتى بأنه جزء من مبدأ قبلي، ديني، طوطمي، ينتمي لديانات ما قبل التوحيد، كما يشير المؤلف في حوار منشور يختتم به متن الكتاب.
رحلة الذاكرة تلك في خبرات الجسد هي التي يستلهم منها النص إسمه"إيثاكا"، كأن البطل هنا يتمثل عوليس في رحلة العودة بعد طروادة إلى إيثاكا، لكن بلا وجود لبينلوب، الزوجة التي تنتظر عودة عوليس بصبر يفوق الطاقة البشرية، فالراوي هنا يستمتع بفكرة الرحلة والمغامرة، أو بالأدق رحلة الغواية، وبالتالي فإيثاكا المقصودة هنا ليست إيثاكا عوليس، وإنما إيثاكا الراوي، المرمم، المدون الذي يستخدم لغة المدونين الذين يستهويهم الخروج عن السطر والقواعد والتحرر من قيود اللغة والخطاب الرسمي، ويطعمون تدويناتهم باللزمات التي تجعل السباب واللغة المبتذلة نوعا من التخفف من القيود.إلا أن هذه اللغة لا تبدو مقنعة من راو يقارب السبعين،  كما شأن بطلنا المدهش هذا. تماما كما لا تقنعنا الكثير من مونولوجاته السياسية المثالية ذات الحس الرومانسي، ومن نبرات سرد مفتعلة يحتاج القاريء لصبر بينلوب ليتجاوزها لاستكمال رحلة الراوي الجسدية وغواياته

نشرت في النهار اللبنانية في 2007

No comments: