المفكّر لا المثقَّف
من مقالة للشاعر اللبناني أنسي الحاج، نشرت في الأخبار البيروتية
نشرت في 3 فبراير 2009
أن تنهل الثقافة من خلال طبيعتك، فتصبح جزءاً منك لأنك في الأساس أنت جزء منها. انصهار متواعدَين. الذين يستشهدون بثقافتهم في كل مناسبة يستعملونها كاستعارة. غالباً لا تَصْلح. غالباً للتعويض عن غياب الجهد، والاكتفاء بثقافة الإشاعة. غالباً لصَرْع القارئ والمُشاهد بمراكمة المرجعيّات. هذا النوع هو المثقّف الاستعراضي، ثري حرب المعلومات. المثقّف (الشاعر والناقد والفيلسوف) يُطلّ من الثقافة كما تطلّ الثمرة من التراب وقد رَوَتها زبدة أجيال أرضٍ تعرف أبناءها. الآخر، الذي يسرد أسماء العَلَم ويعرض معلوماته، فقير، مهما تخيّل أن شجرة عائلة المثقّفين تشدّ أزره. عائلة المثقّفين تورث مَن ينجح في امتحانات تشبه امتحانات طلاّب السحر والعرافة والتنجيم في العصور الوسطى بل في ألفيّات ما قبل المسيح. لا يتخرّج إلاّ مَن تصبح الأسرار، لا العناوين، جارية فيه مجرى دمه. الثقافة، المعرفة، لا تقيم كبير وزن لمواكبة الإعلام.إنها تسبقة، وليست أصلاً في وارد السباق بل في صميم المعنى. في صميم التماهي والتجرّد معاً. طقوسها مَلَكيّة كونيّة وسعادتها في حقيقتها مهما طال احتجابها أو تغييبها. لكنّ الثقافة في الحقيقة كلمة خاطئة حلّت في غفلة العقل محلّ كلمة فكر. المفكّر لا المثقّف. المثقّف متعلّم مجتهد في تحصيل المزيد من المعارف والمعلومات وقد يحمل شهادة تجعله أرقى من تلميذ البكالوريا. أن يتباهى امرؤٌ بأنه مثقّف كأن يتباهى فلاّح بأنه يعرف أن يتجوّل في المدينة. المَرْجع هو الفكر، ويجب أن لا نطلق صفة مفكّر على رجال سياسة، كما يحصل حالياً. صفة المفكّر تنطبق على قلّة معظم أفرادها فلاسفة وأدباء ومؤرخون ومربّون تقع دائرة اهتمامهم بين الأخلاق والماورائيات والفكر السياسي والاجتماع والدراسة الأدبيّة الفائضة عن حدود النقد التقليدي. المفكّر شيء من حكيم وشيء من أديب وشيء من كاهن. في مصر نماذج عديدة. كذلك في سوريا والخليج والمغرب العربي. في لبنان جبران ونعيمة وأنطون سعادة وميشال شيحا وشارل مالك وخليل رامز سركيس وكمال يوسف الحاج وجورج خضر وعلي حرب وغيرهم. اليوم يكثر أهل الفكر وتشتدّ جرأتهم وقد تضعف لغتهم. وجميعهم، على جسارتهم، يلزمهم مزيد من الحريّة في التصدّي للموضوعات وفي التعبير عن الرأي. وهذا هو الموضوع، لكنه موضوع آخر.
No comments:
Post a Comment